ج1.وج2.كتاب
: الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ الدَّوَاءِ الشَّاِفي أبو عبد الله
محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
اولا ج1.
فَصْلٌ:لكل داء دواء[ ص: 7 ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ
مَا تَقُولُ السَّادَةُ الْعُلَمَاءُ ، أَئِمَّةُ
الدِّينِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - فِي رَجُلٍ ابْتُلِيَ بِبَلِيَّةٍ
وَعَلِمَ أَنَّهَا إِنِ اسْتَمَرَّتْ بِهِ أَفْسَدَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ ، وَقَدِ
اجْتَهَدَ فِي دَفْعِهَا عَنْ نَفْسِهِ بِكُلِّ طَرِيقٍ ، فَمَا يَزْدَادُ إِلَّا
تَوَقُّدًا وَشِدَّةً ، فَمَا الْحِيلَةُ فِي دَفْعِهَا ؟ وَمَا الطَّرِيقُ إِلَى
كَشْفِهَا ؟ فَرَحِمَ اللَّهُ مَنْ أَعَانَ مُبْتَلًى ، وَاللَّهُ فِي عَوْنِ
الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِأَخِيهِ ، أَفْتُونَا مَأْجُورِينَ
رَحِمَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَجَابَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ ، شَيْخُ
الْإِسْلَامِ مُفْتِي الْمُسْلِمِينَ ، شَمْسُ الدِّينِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ
أَبِي بَكْرٍ أَيُّوبَ إِمَامِ الْمَدْرَسَةِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى .
لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ
الْحَمْدُ لِلَّهِ
أَمَّا بَعْدُ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ فَإِذَا
أَصَابَ دَوَاءُ الدَّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللَّهِ .
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ
أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَمْ يُنْزِلْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً ،
عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ ، وَفِي لَفْظٍ : إِنَّ اللَّهَ
لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً ، أَوْ دَوَاءً ، إِلَّا دَاءً وَاحِدًا
، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هُوَ ؟ قَالَ : الْهَرَمُ قَالَ
التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
دَوَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ
[ ص: 8
]
وَهَذَا يَعُمُّ أَدَوَاءَ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ
وَالْبَدَنِ وَأَدْوِيَتِهَا ، وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجَهْلَ دَاءً ، وَجَعَلَ دَوَاءَهُ سُؤَالَ الْعُلَمَاءِ .
فَرَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ
: خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ فَأَصَابَ رَجُلًا مِنَّا حَجَرٌ
، فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ، ثُمَّ احْتَلَمَ ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ :
هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ قَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً
، وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ ، فَاغْتَسَلَ ، فَمَاتَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ أُخْبِرَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ أَلَا
سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا ؟ فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ
إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ - أَوْ يَعْصِبَ - عَلَى
جُرْحِهِ خِرْقَةً ثُمَّ يَمْسَحُ عَلَيْهَا ، وَيَغْسِلُ سَائِرَ جَسَدِهِ .
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْجَهْلَ دَاءٌ ، وَأَنَّ شِفَاءَهُ
السُّؤَالُ .
فَصْلٌ:
الْقُرْآنُ شِفَاءٌوَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنِ
الْقُرْآنِ أَنَّهُ شِفَاءٌ ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ
قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 44 ] وَقَالَ
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [
سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 82 ] .
وَ " مِنْ " هُنَا لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا
لِلتَّبْعِيضِ ، فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ شِفَاءٌ ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ ، فَهُوَ شِفَاءٌ لِلْقُلُوبِ مِنْ دَاءِ الْجَهْلِ وَالشَّكِّ
وَالرَّيْبِ ، فَلَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنَ السَّمَاءِ شِفَاءً قَطُّ
أَعَمَّ وَلَا أَنْفَعَ وَلَا أَعْظَمَ وَلَا أَشْجَعَ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ
مِنَ الْقُرْآنِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
قَالَ : انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي سَفْرَةٍ سَافَرُوهَا ، حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ
أَحْيَاءِ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ ،
فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ ، فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ
شَيْءٌ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ
نَزَلُوا ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ ، فَأَتَوْهُمْ ،
فَقَالُوا : يَا أَيُّهَا الرَّهْطُ إِنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ ، وَسَعَيْنَا لَهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ لَا يَنْفَعُهُ شَيْءٌ ، فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ مِنْ
شَيْءٍ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ : وَاللَّهِ إِنِّي لَأُرْقِي ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدِ
اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا ، فَمَا أَنَا بِرَاقٍ حَتَّى تَجْعَلُوا
لِي جُعْلًا ، فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنَ الْغَنَمِ ، فَانْطَلَقَ
يَتْفُلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ ( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )
فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ ، فَانْطَلَقَ يَمْشِي ، وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ ،
فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمُ الَّذِي صَالَحُوهُمْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ :
اقْتَسِمُوا ، فَقَالَ الَّذِي رَقِيَ : لَا نَفْعَلُ حَتَّى نَأْتِيَ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-
[ ص: 9 ] فَنَذْكُرُ لَهُ الَّذِي كَانَ ، فَنَنْظُرُ
مَا يَأْمُرُنَا ، فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَقَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ
؟ ثُمَّ قَالَ : قَدْ أَصَبْتُمْ ، اقْتَسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي مَعَكُمْ سَهْمًا .
فَقَدْ أَثَّرَ ( هَذَا ) الدَّوَاءُ فِي هَذَا الدَّاءِ ،
وَأَزَالَهُ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَهُوَ أَسْهَلُ دَوَاءٍ وَأَيْسَرُهُ ،
وَلَوْ أَحْسَنَ الْعَبْدُ التَّدَاوِيَ بِالْفَاتِحَةِ ، لَرَأَى لَهَا
تَأْثِيرًا عَجِيبًا فِي الشِّفَاءِ
.
وَمَكَثْتُ بِمَكَّةَ مُدَّةً يَعْتَرِينِي أَدْوَاءٌ وَلَا
أَجِدُ طَبِيبًا وَلَا دَوَاءً ، فَكُنْتُ أُعَالِجُ نَفْسِي بِالْفَاتِحَةِ ،
فَأَرَى لَهَا تَأْثِيرًا عَجِيبًا ، فَكُنْتُ أَصِفُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشْتَكِي
أَلَمًا ، وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يَبْرَأُ سَرِيعًا .
وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ يَنْبَغِي التَّفَطُّنُ لَهُ ،
وَهُوَ أَنَّ الْأَذْكَارَ وَالْآيَاتِ وَالْأَدْعِيَةَ الَّتِي يُسْتَشْفَى بِهَا
وَيُرْقَى بِهَا ، هِيَ فِي نَفْسِهَا نَافِعَةٌ شَافِيَةٌ ، وَلَكِنْ تَسْتَدْعِي
قَبُولَ الْمَحِلِّ ، وَقُوَّةَ هِمَّةِ الْفَاعِلِ وَتَأْثِيرَهُ ، فَمَتَى
تَخَلَّفَ الشِّفَاءُ كَانَ لِضَعْفِ تَأْثِيرِ الْفَاعِلِ ، أَوْ لِعَدَمِ
قَبُولِ الْمُنْفَعِلِ ، أَوْ لِمَانِعٍ قَوِيٍّ فِيهِ يَمْنَعُ أَنْ يَنْجَعَ
فِيهِ الدَّوَاءُ ، كَمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْأَدْوِيَةِ وَالْأَدْوَاءِ
الْحِسِّيَّةِ ، فَإِنَّ عَدَمَ تَأْثِيرِهَا قَدْ يَكُونُ لِعَدَمِ قَبُولِ
الطَّبِيعَةِ لِذَلِكَ الدَّوَاءِ ، وَقَدْ يَكُونُلِمَانِعٍ قَوِيٍّ يَمْنَعُ
مِنَ اقْتِضَائِهِ أَثَرَهُ ، فَإِنَّ الطَّبِيعَةَ إِذَا أَخَذَتِ الدَّوَاءَ
بِقَبُولٍ تَامٍّ كَانَ انْتِفَاعُ الْبَدَنِ بِهِ بِحَسْبِ ذَلِكَ الْقَبُولِ ، فَكَذَلِكَ
الْقَلْبُ إِذَا أَخَذَ الرُّقَى وَالتَّعَاوِيذَ بِقَبُولٍ تَامٍّ ، وَكَانَ
لِلرَّاقِي نَفْسٌ فَعَّالَةٌ وَهِمَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي إِزَالَةِ الدَّاءِ .
فَصْلٌ: الدُّعَاءُ يَدْفَعُ الْمَكْرُوهَوَكَذَلِكَ
الدُّعَاءُ ، فَإِنَّهُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ فِي دَفْعِ الْمَكْرُوهِ ،
وَحُصُولِ الْمَطْلُوبِ ، وَلَكِنْ قَدْ يَتَخَلَّفُ أَثَرُهُ عَنْهُ ، إِمَّا
لِضَعْفِهِ فِي نَفْسِهِ - بِأَنْ يَكُونَ دُعَاءً لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ، لِمَا
فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ - وَإِمَّا لِضَعْفِ الْقَلْبِ وَعَدَمِ إِقْبَالِهِ عَلَى
اللَّهِ وَجَمْعِيَّتِهِ عَلَيْهِ وَقْتَ الدُّعَاءِ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْسِ
الرِّخْوِ جِدًّا ، فَإِنَّالسَّهْمَ يَخْرُجُ مِنْهُ خُرُوجًا ضَعِيفًا ،
وَإِمَّا لِحُصُولِ الْمَانِعِ مِنَ الْإِجَابَةِ : مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ ،
وَالظُّلْمِ ، وَرَيْنِ الذُّنُوبِ عَلَى الْقُلُوبِ ، وَاسْتِيلَاءِ الْغَفْلَةِ
وَالشَّهْوَةِ وَاللَّهْوِ ، وَغَلَبَتِهَا عَلَيْهَا .
كَمَا فِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ادْعُوا اللَّهَ
وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ
.
فَصْلٌ: دُعَاءُ الْغَافِلِوَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
لَا يَقْبَلُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ فَهَذَا دَوَاءٌ نَافِعٌ مُزِيلٌ
لِلدَّاءِ ، وَلَكِنَّ غَفْلَةَ الْقَلْبِ عَنِ اللَّهِ تُبْطِلُ قُوَّتَهُ ،
وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْحَرَامِ يُبْطِلُ قُوَّتَهُ وَيُضْعِفُهَا .
كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، [ ص: 10
] إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ ، لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا
، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ،
فَقَالَ : يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي
بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [ الْمُؤْمِنُونَ : 51 ] وَقَالَ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ
[ الْبَقَرَةِ : 172 ] ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ
السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ : يَا رَبِّ يَا
رَبِّ ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ ، وَغُذِّيَ
بِالْحَرَامِ ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ؟ .
وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ
الزُّهْدِ لِأَبِيهِ : أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَاءٌ ، فَخَرَجُوا مَخْرَجًا
، فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنْ أَخْبِرْهُمْ :
إِنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إِلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ ، وَتَرْفَعُونَ إِلَيَّ
أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ ، وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنَ
الْحَرَامِ ، الْآنَ حِينَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ ؟ وَلَنْ تَزْدَادُوا
مِنِّي إِلَّا بُعْدًا .
وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ : يَكْفِي مِنَ الدُّعَاءِ مَعَ
الْبِرِّ ، مَا يَكْفِي الطَّعَامَ مِنَ الْمِلْحِ .
فَصْلٌ:
الدعاء من أنفع الأدويةوالدعاء من أنفع الأدوية ، وهو
عدو البلاء ، يدفعه ، ويعالجه ، ويمنع نزوله ، ويرفعه ، أو يخففه إذا نزل ، وهو
سلاح المؤمن .
كما روى الحاكم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب - رضي
الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : الدعاء سلاح المؤمن ،
وعماد الدين ، ونور السماوات والأرض
.
للدعاء مع البلاء مقامات .
وله مع البلاء ثلاث مقامات :
أحدها : أن يكون أقوى من البلاء فيدفعه .
الثاني : أن يكون أضعف من البلاء فيقوى عليه البلاء ،
فيصاب به العبد ، ولكن قد يخففه ، وإن كان ضعيفا .
الثالث : أن يتقاوما ويمنع كل واحد منهما صاحبه .
وقد روى الحاكم في صحيحه من حديث عائشة - رضي الله عنها
- قالت : قال رسول
[ ص: 11 ] الله - صلى الله عليه وسلم : لا يغني حذر من
قدر ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، وإن البلاء لينزل فيلقاه الدعاء
فيعتلجان إلى يوم القيامة .
وفيه أيضا من حديث ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال : الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل ، فعليكم عباد الله بالدعاء .
وفيه أيضا من حديث ثوبان عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الرزق
بالذنب يصيبه .
فَصْلٌ: الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِوَمِنْ أَنْفَعِ
الْأَدْوِيَةِ : الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ .
وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَعْجِزُوا فِي الدُّعَاءِ
فَإِنَّهُ لَا يَهْلِكُ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ .
وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ
عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ
فِي الدُّعَاءِ .
وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ قَتَادَةَ
قَالَ : قَالَ مُوَرِّقٌ : مَا وَجَدْتُ لِلْمُؤْمِنِ مَثَلًا إِلَّا رَجُلٌ فِي
الْبَحْرِ عَلَى خَشَبَةٍ ، فَهُوَ يَدْعُو : يَا رَبِّ يَا رَبِّ لَعَلَّ اللَّهَ
عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُنْجِيَهُ
.
فَصْلٌ:مِنْ آفَاتِ الدُّعَاءِوَمِنَ الْآفَاتِ الَّتِي
تَمْنَعُ تَرَتُّبَ أَثَرِ الدُّعَاءِ عَلَيْهِ : أَنْ يَسْتَعْجِلَ الْعَبْدُ ،
وَيَسْتَبْطِئَ الْإِجَابَةَ ، فَيَسْتَحْسِرُ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ ، وَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ مَنْ بَذَرَ بَذْرًا أَوْ غَرَسَ غَرْسًا ، فَجَعَلَ يَتَعَاهَدُهُ وَيَسْقِيهِ
، فَلَمَّا اسْتَبْطَأَ كَمَالَهُ وَإِدْرَاكَهُ تَرَكَهُ وَأَهْمَلَهُ .
وَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : يُسْتَجَابُ
لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ ، يَقُولُ : دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ : لَا يَزَالُ يُسْتَجَابُ
لِلْعَبْدِ ، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ ، مَا لَمْ
يَسْتَعْجِلْ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الِاسْتِعْجَالُ ؟ قَالَ يَقُولُ
: قَدْ دَعَوْتُ ، وَقَدْ دَعَوْتُ ، فَلَمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لِي ،
فَيَسْتَحْسِرُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدَعُ الدُّعَاءَ .
[ ص: 12 ] وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَزَالُ
الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا لَمْ يَسْتَعْجِلْ ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ
يَسْتَعْجِلُ ؟ قَالَ : يَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ رَبِّي فَلَمْ يَسْتَجِبْ لِي .
فَصْلٌ: أَوْقَاتُ الْإِجَابَةِوَإِذَا جَمَعَ مَعَ الدُّعَاءِ
حُضُورَ الْقَلْبِ وَجَمْعِيَّتَهُ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، وَصَادَفَ
وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ السِّتَّةِ ، وَهِيَ :
الثُّلُثُ الْأَخِيرُ مِنَ اللَّيْلِ ، وَعِنْدَ
الْأَذَانِ ، وَبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، وَأَدْبَارُ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ
، وَعِنْدَ صُعُودِ الْإِمَامِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ حَتَّى
تُقْضَى الصَّلَاةُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، وَآخِرُ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ .
وَصَادَفَ خُشُوعًا فِي الْقَلْبِ ، وَانْكِسَارًا
بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ ، وَذُلًّا لَهُ ، وَتَضَرُّعًا ، وَرِقَّةً .
وَاسْتَقْبَلَ الدَّاعِي الْقِبْلَةَ .
وَكَانَ عَلَى طَهَارَةٍ .
وَرَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ .
وَبَدَأَ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ .
ثُمَّ ثَنَّى بِالصَّلَاةِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِهِ
وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
ثُمَّ قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ حَاجَتِهِ التَّوْبَةَ
وَالِاسْتِغْفَارَ .
ثُمَّ دَخَلَ عَلَى اللَّهِ ، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ فِي
الْمَسْأَلَةِ ، وَتَمَلَّقَهُ وَدَعَاهُ رَغْبَةً وَرَهْبَةً .
وَتَوَسَّلَ إِلَيْهِ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
وَتَوْحِيدِهِ .
وَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ دُعَائِهِ صَدَقَةً ، فَإِنَّ
هَذَا الدُّعَاءَ لَا يَكَادُ يُرَدُّ أَبَدًا ، وَلَا سِيَّمَا إِنْ صَادَفَ
الْأَدْعِيَةَ الَّتِي أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهَا مَظَنَّةُ الْإِجَابَةِ ، أَوْ أَنَّهَا مُتَضَمِّنَةٌ لِلِاسْمِ الْأَعْظَمِ .
أَدْعِيَةٌ مَأْثُورَةٌ
فَمِنْهَا مَا فِي السُّنَنِ ( وَفِي ) صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ مِنْ
حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ : اللَّهُمَّ إِنِّي
أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ ، الْأَحَدُ
الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ
، فَقَالَ : لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِالِاسْمِ الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى
، وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ وَفِي لَفْظٍ : لَقَدْ سَأَلْتَ اللَّهَ بِاسْمِهِ
الْأَعْظَمِ .
[ ص: 13 ] وَفِي السُّنَنِ وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ
أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّي ، ثُمَّ دَعَا
فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ ، لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، يَا ذَا الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ . فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَقَدْ دَعَا اللَّهَ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي إِذَا
دُعِيَ بِهِ أَجَابَ ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى .
أَخْرَجَ الْحَدِيثَيْنِ أَحْمَدُ فِي مَسْنَدِهِ .
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ ، مِنْ حَدِيثِ أَسْمَاءَ
بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ :
163 ] .
وَفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ الم اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ
صَحِيحٌ .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَصَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ
حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَرَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَلِظُّوا
بَيَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ - يَعْنِي : تَعَلَّقُوا بِهَا وَالْزَمُوا
وَدَاوِمُوا عَلَيْهَا .
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- كَانَ إِذَا أَهَمَّهُ الْأَمْرُ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ ، وَإِذَا
اجْتَهَدَ فِي الدُّعَاءِ ، قَالَ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ .
وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ
: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ
قَالَ : يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ .
وَفِي صَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : اسْمُ اللَّهِ
الْأَعْظَمُ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ مِنَ الْقُرْآنِ : الْبَقَرَةِ ، وَآلِ عِمْرَانَ
، وَطَهَ ، قَالَ الْقَاسِمُ : فَالْتَمَسْتُهَا فَإِذَا هِيَ آيَةُ ( الْحَيُّ الْقَيُّومُ ) .
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحِيحِ الْحَاكِمِ مِنْ
حَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ : دَعْوَةُ ذِي النُّونِ ، إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ "
لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [ سُورَةُ
الْأَنْبِيَاءِ : 87 ] إِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا
اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ . قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
[ ص: 14
] وَفِي مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلَا أُخْبِرُكُمْ
بِشَيْءٍ إِذَا نَزَلَ بِرَجُلٍ مِنْكُمْ أَمْرٌ مُهِمٌّ ، فَدَعَا بِهِ يُفَرِّجُ
اللَّهُ عَنْهُ ؟ دُعَاءُ ذِي النُّونِ
.
وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَقُولُ : هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
اسْمِ اللَّهِ الْأَعْظَمِ ؟ دُعَاءِ يُونُسَ ، فَقَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ ، هَلْ كَانَ لِيُونُسَ خَاصَّةً ؟ فَقَالَ أَلَا تَسْمَعُ قَوْلَهُ : فَاسْتَجَبْنَا
لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ
الْأَنْبِيَاءِ : 88 ] فَأَيُّمَا مُسْلِمٍ دَعَا بِهَا فِي مَرَضِهِ أَرْبَعِينَ
مَرَّةً فَمَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ أُعْطِيَ أَجْرَ شَهِيدٍ ، وَإِنْ بَرِئَ
بَرِئَ مَغْفُورًا لَهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ
الْكَرْبِ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ
السَّبْعِ ، وَرَبُّ الْأَرْضِ ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ .
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ
عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : عَلَّمَنِي رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا نَزَلَ بِي كَرْبٌ أَنْ
أَقُولَ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ ، سُبْحَانَ اللَّهِ
وَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ .
وَفِي مَسْنَدِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حُزْنٌ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي
عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ
حُكْمُكَ ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ
لَكَ ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ
فِي كِتَابِكَ ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ
تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ صَدْرِي ، وَجِلَاءَ
حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي ؛ إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ ،
وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا ، فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَلَا
نَتَعَلَّمُهَا ؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ : مَا كَرَبَ نَبِيٌّ مِنَ
الْأَنْبِيَاءِ ، إِلَّا اسْتَغَاثَ بِالتَّسْبِيحِ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا فِي كِتَابِ
الْمُجَابِينَ ، وَفِي الدُّعَاءِ عَنِ الْحَسَنِ ، قَالَ : كَانَ رَجُلٌ مِنْ
أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَنْصَارِ
يُكَنَّى أَبَا مُعَلَّقٍ وَكَانَ تَاجِرًا يَتَّجِرُ بِمَالٍ لَهُ وَلِغَيْرِهِ ،
يَضْرِبُ بِهِ فِي الْآفَاقِ ، وَكَانَ نَاسِكًا وَرِعًا ، فَخَرَجَ مَرَّةً
فَلَقِيَهُ لِصٌّ مُقَنَّعٌ فِي السِّلَاحِ ، فَقَالَ لَهُ : ضَعْ مَا مَعَكَ
فَإِنِّي قَاتِلُكَ ، قَالَ : فَمَا تُرِيدُهُ مِنْ دَمِي ؟ شَأْنُكَ بِالْمَالِ ،
قَالَ : أَمَّا الْمَالُ فَلِي ، وَلَسْتُ أُرِيدُ إِلَّا دَمَكَ ، قَالَ : أَمَّا إِذَا
أَبَيْتَ فَذَرْنِي أُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ، قَالَ صَلِّ مَا بَدَا لَكَ ،
فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِ فِي آخِرِ
سُجُودِهِ أَنْ قَالَ : يَا وَدُودُ يَا وَدُودُ ، يَا ذَا الْعَرْشِ
[ ص: 15 ] الْمَجِيدِ ، يَا فَعَّالًا لِمَا تُرِيدُ ،
أَسْأَلُكَ بِعِزِّكَ الَّذِي لَا يُرَامُ ، وَبِمُلْكِكَ الَّذِي لَا يُضَامُ ،
وَبِنُورِكَ الَّذِي مَلَأَ أَرْكَانَ عَرْشِكَ أَنْ تَكْفِيَنِي شَرَّ هَذَا
اللِّصِّ ، يَا مُغِيثُ أَغِثْنِي ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَإِذَا هُوَ بِفَارِسٍ
قَدْ أَقْبَلَ بِيَدِهِ حَرْبَةٌ قَدْ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنَيْ فَرَسِهِ ،
فَلَمَّا بَصُرَ بِهِ اللِّصُّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ ، فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ ، ثُمَّ
أَقْبَلَ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : قُمْ ، فَقَالَ : مَنْ أَنْتَ بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمِّي ؟ فَقَدْ أَغَاثَنِي اللَّهُ بِكَ الْيَوْمَ ، فَقَالَ : أَنَا مَلَكٌ
مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ ، دَعَوْتَ بِدُعَائِكَ الْأَوَّلِ
فَسَمِعْتُ لِأَبْوَابِ السَّمَاءِ قَعْقَعَةً ، ثُمَّ دَعَوْتَ بِدُعَائِكَ
الثَّانِي ، فَسَمِعْتُ لِأَهْلِ السَّمَاءِ ضَجَّةً ، ثُمَّ دَعَوْتَ بِدُعَائِكَ
الثَّالِثِ ، فَقِيلَ لِي : دُعَاءُ مَكْرُوبٍ فَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُوَلِّيَنِي
قَتْلَهُ ، قَالَ الْحَسَنُ : فَمَنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ،
وَدَعَا بِهَذَا الدُّعَاءِ ، اسْتُجِيبَ لَهُ ، مَكْرُوبًا كَانَ أَوْ غَيْرَ
مَكْرُوبٍ .
فَصْلٌ: ظُرُوفُ الدُّعَاءِوَكَثِيرًا مَا تَجِدُ
أَدْعِيَةً دَعَا بِهَا قَوْمٌ فَاسْتُجِيبَ لَهُمْ ، فَيَكُونُ قَدِ اقْتَرَنَ
بِالدُّعَاءِ ضَرُورَةُ صَاحِبِهِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى اللَّهِ ، أَوْ حَسَنَةٌ
تَقَدَّمَتْ مِنْهُ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِجَابَةَ دَعْوَتِهِ شُكْرًا لِحَسَنَتِهِ
، أَوْ صَادَفَ وَقْتَ إِجَابَةٍ ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَأُجِيبَتْ دَعْوَتُهُ ،
فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ السِّرَّ فِي لَفْظِ ذَلِكَ الدُّعَاءِ فَيَأْخُذُهُ
مُجَرَّدًا عَنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي قَارَنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ الدَّاعِي ،
وَهَذَا كَمَا إِذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلٌ دَوَاءً نَافِعًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي
يَنْبَغِي اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي ، فَانْتَفَعَ بِهِ ،
فَظَنَّ غَيْرُهُ أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا الدَّوَاءِ بِمُجَرَّدِهِ كَافٍ فِي حُصُولِ
الْمَطْلُوبِ ، كَانَ غَالِطًا ، وَهَذَا مَوْضِعٌ يَغْلَطُ فِيهِكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ .
وَمِنْ هَذَا قَدْ يَتَّفِقُ دُعَاؤُهُ بِاضْطِرَارٍ عِنْدَ
قَبْرٍ فَيُجَابُ ، فَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّ السِّرَّ لِلْقَبْرِ ، وَلَمْ
يَعْلَمْ أَنَّ السِّرَّ لِلِاضْطِرَارِ وَصِدْقِ اللُّجْأِ إِلَى اللَّهِ ،
فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ ، كَانَ أَفْضَلَ
وَأَحَبَّ إِلَى اللَّهِ .
فَصْلٌ:شُرُوطُ الدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِوَالْأَدْعِيَةُ
وَالتَّعَوُّذَاتُ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ ، وَالسِّلَاحُ بِضَارِبِهِ ، لَا
بِحَدِّهِ فَقَطْ ، فَمَتَى كَانَ السِّلَاحُ سِلَاحًا تَامًّا لَا آفَةَ بِهِ ،
وَالسَّاعِدُ سَاعِدُ قَوِيٍّ ، وَالْمَانِعُ مَفْقُودٌ؛ حَصَلَتْ بِهِ
النِّكَايَةُ فِي الْعَدُوِّ ، وَمَتَى تَخَلَّفَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ
الثَّلَاثَةِ تَخَلَّفَ التَّأْثِيرُ ، فَإِنْ كَانَ الدُّعَاءُ فِي نَفْسِهِ
غَيْرَ صَالِحٍ ، أَوِ الدَّاعِي لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ فِي الدُّعَاءِ
، أَوْ كَانَ ثَمَّ مَانِعٌ مِنَ الْإِجَابَةِ ، لَمْ يَحْصُلِ الْأَثَرُ .
فَصْلٌ: الدُّعَاءُ وَالْقَدَرُ[ ص: 16 ] وَهَاهُنَا
سُؤَالٌ مَشْهُورٌ وَهُوَ :
أَنَّ الْمَدْعُوَّ بِهِ إِنْ كَانَ قَدْ قُدِّرَ لَمْ
يَكُنْ بُدٌّ مِنْ وُقُوعِهِ ، دَعَا بِهِ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَدْعُ ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ قَدْ قُدِّرَ لَمْ يَقَعْ ، سَوَاءٌ سَأَلَهُ الْعَبْدُ أَوْ لَمْ يَسْأَلْهُ .
فَظَنَّتْ طَائِفَةٌ صِحَّةَ هَذَا السُّؤَالِ ، فَتَرَكَتِ
الدُّعَاءَ وَقَالَتْ : لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَهَؤُلَاءِ مَعَ فَرْطِ جَهْلِهِمْ
وَضَلَالِهِمْ ، مُتَنَاقِضُونَ فَإِنَّ طَرْدَ مَذْهَبِهِمْ يُوجِبُ تَعْطِيلَ
جَمِيعِ الْأَسْبَابِ فَيُقَالُ لِأَحَدِهِمْ :
إِنْ كَانَ الشِّبَعُ وَالرِّيُّ قَدْ قُدِّرَا لَكَ فَلَابُدَّ
مِنْ وُقُوعِهِمَا ، أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرَا لَمْ
يَقَعَا أَكَلْتَ أَوْ لَمْ تَأْكُلْ
.
وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ قُدِّرَ لَكَ فَلَابُدَّ مِنْهُ
، وَطِئْتَ الزَّوْجَةَ أَوِ الْأَمَةَ أَوْ لَمْ تَطَأْ ، وَإِنْ لَمْ يُقَدَّرْ
لَمْ يَكُنْ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّزْوِيجِ وَالتَّسَرِّي ، وَهَلُمَّ جَرَّا .
فَهَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ أَوْ آدَمِيٌّ ؟ بَلِ
الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ مَفْطُورٌ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْأَسْبَابِ الَّتِي بِهَا
قِوَامُهُ وَحَيَاتُهُ ، فَالْحَيَوَانَاتُ أَعْقَلُ وَأَفْهَمُ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ
هُمْ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا .
وَتَكَايَسَ بَعْضُهُمْ وَقَالَ : الِاشْتِغَالُ
بِالدُّعَاءِ مِنْ بَابِ التَّعَبُّدِ الْمَحْضِ يُثِيبُ اللَّهُ عَلَيْهِ
الدَّاعِيَ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمَطْلُوبِ بِوَجْهٍ
مَا وَلَا فَرْقَ عِنْدَ هَذَا الْمُتَكَيِّسِ بَيْنَ الدُّعَاءِ وَالْإِمْسَاكِ
عَنْهُ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ فِي التَّأْثِيرِ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ ، وَارْتِبَاطُ
الدُّعَاءِ عِنْدَهُمْ بِهِ كَارْتِبَاطِ السُّكُوتِ وَلَا فَرْقَ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى أَكْيَسُ مِنْ هَؤُلَاءِ :
بَلِ الدُّعَاءُ عَلَامَةٌ مُجَرَّدَةٌ نَصَبَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَارَةً عَلَى
قَضَاءِ الْحَاجَةِ ، فَمَتَى وُفِّقَ الْعَبْدُ لِلدُّعَاءِ كَانَ ذَلِكَ
عَلَامَةً لَهُ وَأَمَارَةً عَلَى أَنَّ حَاجَتَهُ قَدِ انْقَضَتْ ، وَهَذَا كَمَا
إِذَا رَأَيْتَ غَيْمًا أَسْوَدَبَارِدًا فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ
دَلِيلٌ وَعَلَامَةٌ عَلَى أَنَّهُ يُمْطِرُ .
قَالُوا :
وَهَكَذَا حُكْمُ الطَّاعَاتِ مَعَ الثَّوَابِ ،
وَالْكُفْرُ وَالْمَعَاصِي مَعَ الْعِقَابِ ، هِيَ أَمَارَاتٌ مَحْضَةٌ لِوُقُوعِ الثَّوَابِ
وَالْعِقَابِ لَا أَنَّهَا أَسْبَابٌ لَهُ .
وَهَكَذَا عِنْدَهُمُ الْكَسْرُ مَعَ الِانْكِسَارِ ،
وَالْحَرْقُ مَعَ الْإِحْرَاقِ ، وَالْإِزْهَاقُ مَعَ الْقَتْلِ لَيْسَ
[ ص: 17 ] شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَبَبًا الْبَتَّةَ ،
وَلَا ارْتِبَاطَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ، إِلَّا مُجَرَّدُ الِاقْتِرَانِ
الْعَادِيِّ ، لَا التَّأْثِيرُ السَّبَبِيُّ وَخَالَفُوا بِذَلِكَ الْحِسَّ
وَالْعَقْلَ ، وَالشَّرْعَ وَالْفِطْرَةَ ، وَسَائِرَ طَوَائِفِ الْعُقَلَاءِ ،
بَلْ أَضْحَكُوا عَلَيْهِمُ الْعُقَلَاءَ .
وَلِلصَّوَابِ أَنَّ هَاهُنَا قِسْمًا ثَالِثًا ، غَيْرَ
مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمَقْدُورَ قُدِّرَ بِأَسْبَابٍ ،
وَمِنْ أَسْبَابِهِ الدُّعَاءُ ، فَلَمْ يُقَدَّرْ مُجَرَّدًا عَنْ سَبَبِهِ ،
وَلَكِنْ قُدِّرَ بِسَبَبِهِ ، فَمَتَى أَتَى الْعَبْدُ بِالسَّبَبِ ، وَقَعَ الْمَقْدُورُ
، وَمَتَى لَمْ يَأْتِ بِالسَّبَبِ انْتَفَى الْمَقْدُورُ ، وَهَذَا كَمَا قُدِّرَ
الشِّبَعُ وَالرِّيُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَقُدِّرَ الْوَلَدُ بِالْوَطْءِ ،
وَقُدِّرَ حُصُولُ الزَّرْعِ بِالْبَذْرِ ، وَقُدِّرَ خُرُوجُ نَفْسِ الْحَيَوَانِ
بِذَبْحِهِ ، وَكَذَلِكَ قُدِّرَ دُخُولُ الْجَنَّةِ بِالْأَعْمَالِ ، وَدُخُولُ النَّارِ
بِالْأَعْمَالِ ، وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الْحَقُّ ، وَهَذَا الَّذِي حُرِمَهُ
السَّائِلُ وَلَمْ يُوَفَّقْ لَهُ
.
الدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ
وَحِينَئِذٍ فَالدُّعَاءُ مِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ ،
فَإِذَا قُدِّرَ وُقُوعُ الْمَدْعُوِّ بِهِ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ
يُقَالَ : لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ ، كَمَا لَا يُقَالُ : لَا فَائِدَةَ فِي
الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَجَمِيعِ الْحَرَكَاتِ وَالْأَعْمَالِ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ
مِنَ الْأَسْبَابِ أَنْفَعَ مِنَ الدُّعَاءِ ، وَلَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ الْمَطْلُوبِ .
عُمَرُ يَسْتَنْصِرُ بِالدُّعَاءِ
وَلَمَّا كَانَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
- أَعْلَمَ الْأُمَّةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وَأَفْقَهَهُمْ فِي دِينِهِ ، كَانُوا أَقْوَمَ بِهَذَا السَّبَبِ وَشُرُوطِهِ
وَآدَابِهِ مِنْ غَيْرِهِمْ .
وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَسْتَنْصِرُ بِهِ
عَلَى عَدُوِّهِ ، وَكَانَ أَعْظَمَ جُنْدَيْهِ ، وَكَانَ يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ :
لَسْتُمْ تُنْصَرُونَ بِكَثْرَةٍ ، وَإِنَّمَا تُنْصَرُونَ مِنَ السَّمَاءِ ،
وَكَانَ يَقُولُ : إِنِّي لَا أَحْمِلُ هَمَّ الْإِجَابَةِ ، وَلَكِنْ هَمَّ
الدُّعَاءِ ، فَإِذَا أُلْهِمْتُمُ الدُّعَاءَ ، فَإِنَّالْإِجَابَةَ مَعَهُ ،
وَأَخَذَ الشَّاعِرُ هَذَا الْمَعْنَى فَنَظَمَهُ فَقَالَ :
لَوْ لَمْ تُرِدْ نَيْلَ مَا أَرْجُو وَأَطْلُبُهُ مِنْ
جُودِ كَفَّيْكَ مَا عَلَّمْتَنِي الطَّلَبَا
فَمَنْ أُلْهِمَ الدُّعَاءَ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ
الْإِجَابَةُ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 60 ]
وَقَالَ : وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
[ ص: 18 ] وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ رِضَاءَهُ فِي سُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ
، وَإِذَا رَضِيَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَكُلُّ خَيْرٍ فِي رِضَاهُ ،
كَمَا أَنَّ كُلَّ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ فِي غَضَبِهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ
الزُّهْدِ أَثَرًا [ أَنَا اللَّهُ ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا ، إِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ
، وَلَيْسَ لِبَرَكَتِي مُنْتَهًى وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ ، وَلَعْنَتِي
تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ
] .
وَقَدْ دَلَّ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ وَالْفِطْرَةُ
وَتَجَارِبُ الْأُمَمِ - عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهَا وَمِلَلِهَا وَنِحَلِهَا -
عَلَى أَنَّ التَّقَرُّبَ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ ،
وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ
الْجَالِبَةِ لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَأَضْدَادَهَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ
الْجَالِبَةِ لِكُلِّ شَرٍّ ، فَمَا اسْتُجْلِبَتْ نِعَمُ اللَّهِ ،
وَاسْتُدْفِعَتْ نِقْمَتُهُ ، بِمِثْلِ طَاعَتِهِ ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ ،
وَالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِهِ
.
ارْتِبَاطُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِالْعَمَلِ
وَقَدْ رَتَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حُصُولَ
الْخَيْرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَحُصُولَ السُّرُورِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْأَعْمَالِ ، تُرَتُّبَ الْجَزَاءِ عَلَى
الشَّرْطِ ، وَالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ ، وَالْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ ، وَهَذَا
فِي الْقُرْآنِ يَزِيدُ عَلَى أَلْفِ مَوْضِعٍ .
فَتَارَةً يُرَتِّبُ الْحُكْمَ الْخَبَرِيَّ
الْكَوْنِيَّ وَالْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ لَهُ
كَقَوْلِهِ تَعَالَى : عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا
قِرَدَةً خَاسِئِينَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 166 ] .
وَقَوْلِهِ : فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ
[ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 55 ] .
وَقَوْلِهِ : وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا [ الْمَائِدَةِ : 83 ] .
وَقَوْلِهِ :
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ
وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ
وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ
وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا
وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا [
الْأَحْزَابِ : 35 ] .
وَهَذَا كَثِيرٌ جِدًّا .
[ ص: 19 ] وَتَارَةً يُرَتِّبُهُ عَلَيْهِ بِصِيغَةِ
الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ
لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [
سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 29 ] .
وَقَوْلِهِ : فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ [ التَّوْبَةِ : 11 ] .
وَقَوْلِهِ : وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا [ سُورَةُ الْجِنِّ : 16 ] .
وَنَظَائِرِهِ .
وَتَارَةً يَأْتِي بِلَامِ التَّعْلِيلِ كَقَوْلِهِ :
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ سُورَةُ ص : 29 ] .
وَقَوْلِهِ : لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ
وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 143 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ كَيِ الَّتِي لِلتَّعْلِيلِ
كَقَوْلِهِ : كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ [ سُورَةُ
الْحَشْرِ : 77 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِبَاءِ السَّبَبِيَّةِ ، كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 182 ] .
وَقَوْلِهِ : بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ سُورَةُ
الْمَائِدَةِ : 105 ] .
وَقَوْلِهِ :
بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ، وَقَوْلِهِ : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 112 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِالْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ ظَاهِرًا
أَوْ مَحْذُوفًا ، كَقَوْلِهِ :
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى [
سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 282 ] .
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 172 ]
[ ص: 20 ] وَقَوْلِهِ : أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا
أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ :
156 ] ، أَيْ : كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا .
وَتَارَةً يَأْتِي بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَقَوْلِهِ :
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ
فَسَوَّاهَا [ سُورَةُ الشَّمْسِ : 14
] .
وَقَوْلِهِ : فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ
أَخْذَةً رَابِيَةً [ سُورَةُ الْحَاقَّةِ : 10 ] .
وَقَوْلِهِ : فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ
الْمُهْلَكِينَ الْمُؤْمِنُونَ : 48
] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ [ لَمَّا ] الدَّالَّةِ
عَلَى الْجَزَاءِ ، كَقَوْلِهِ
: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [ سُورَةُ
الزُّخْرُفِ : 55 ] .
وَنَظَائِرِهِ .
وَتَارَةً يَأْتِي بِإِنَّ وَمَا عَمِلَتْ فِيهِ ،
كَقَوْلِهِ : إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [ سُورَةُ
الْأَنْبِيَاءِ : 90 ] .
وَقَوْلِهِ فِي ضَوْءِ هَؤُلَاءِ : إِنَّهُمْ كَانُوا
قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [ الْأَنْبِيَاءِ : 77 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي بِأَدَاةِ " لَوْلَا " ،
الدَّالَّةِ عَلَى ارْتِبَاطِ مَا قَبْلَهَا بِمَا بَعْدَهَا ، كَقَوْلِهِ :
فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ [ سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 143 - 144 ] .
وَتَارَةً يَأْتِي " بِلَوِ " الدَّالَّةِ عَلَى الشَّرْطِ
كَقَوْلِهِ : وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا
لَهُمْ [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 66
] .
وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقُرْآنُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى
آخِرِهِ صَرِيحٌ فِي تُرَتُّبِ الْجَزَاءِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَحْكَامِ
الْكَوْنِيَّةِ وَالْأَمْرِيَّةِ عَلَى الْأَسْبَابِ ، بَلْ تَرْتِيبِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَمَصَالِحِهِمَا وَمَفَاسِدِهِمَا عَلَى الْأَسْبَابِ
وَالْأَعْمَالِ .
وَمَنْ تَفَقَّهَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
وَتَأَمَّلَهَا حَقَّ التَّأَمُّلِ انْتَفَعَ بِهَا غَايَةَ النَّفْعِ ، وَلَمْ
يَتَّكِلْ عَلَى
[ ص: 21 ] الْقَدَرِ جَهْلًا مِنْهُ ، وَعَجْزًا
وَتَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً ، فَيَكُونُ تَوَكُّلُهُ عَجْزًا ، وَعَجْزُهُ
تَوَكُّلًا ، بَلِ الْفَقِيهُ كُلَّ الْفِقْهِ الَّذِي يَرُدُّ الْقَدَرَ
بِالْقَدَرِ ، وَيَدْفَعُ الْقَدَرَ بِالْقَدَرِ ، وَيُعَارِضُ الْقَدَرَ
بِالْقَدَرِ ، بَلْ لَا يُمْكِنُ لِإِنْسَانٍ أَنْ يَعِيشَ إِلَّا بِذَلِكَ،
فَإِنَّ الْجُوعَ وَالْعَطَشَ وَالْبَرْدَ وَأَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ
وَالْمَحَاذِيرِ هِيَ مِنَ الْقَدَرِ
.
وَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ سَاهُونَ فِي دَفْعِ هَذَا
الْقَدَرِ بِالْقَدَرِ ، وَهَكَذَا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ
يَدْفَعُ قَدَرَ الْعُقُوبَةِ الْأُخْرَوِيَّةِ بِقَدَرِ التَّوْبَةِ
وَالْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فَهَذَا وِزَانُ الْقَدَرِ
الْمُخَوِّفِ فِي الدُّنْيَا وَمَا يُضَادُّهُ سَوَاءٌ ، فَرَبُّ الدَّارَيْنِ
وَاحِدٌ وَحِكْمَتُهُ وَاحِدَةٌ لَا يُنَاقِضُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَلَا يُبْطِلُ
بَعْضُهَا بَعْضًا ، فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَشْرَفِ الْمَسَائِلِ لِمَنْ
عَرَفَ قَدْرَهَا ، وَرَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
لَكِنْ يَبْقَى عَلَيْهِ أَمْرَانِ بِهِمَا تَتِمُّ
سَعَادَتُهُ وَفَلَاحُهُ .
أَحَدُهُمَا :
أَنْ يَعْرِفَ تَفَاصِيلَ أَسْبَابِ الشَّرِّ
وَالْخَيْرِ ، وَيَكُونَ لَهُ بَصِيرَةٌ فِي ذَلِكَ بِمَا يُشَاهِدُهُ فِي
الْعَالَمِ ، وَمَا جَرَّبَهُ فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَمَا سَمِعَهُ مِنْ
أَخْبَارِ الْأُمَمِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا .
التَّارِيخُ تَفْصِيلٌ لِمَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ
وَمِنْ أَنْفَعِ مَا فِي ذَلِكَ تُدَبُّرُ الْقُرْآنِ
فَإِنَّهُ كَفِيلٌ بِذَلِكَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ ، وَفِيهِ أَسْبَابُ
الْخَيْرِ وَالشَّرِّ جَمِيعًا مُفَصَّلَةً مُبَيَّنَةً ، ثُمَّ السُّنَّةِ ،
فَإِنَّهَا شَقِيقَةُ الْقُرْآنِ ، وَهِيَ الْوَحْيُ الثَّانِي ، وَمَنْ صَرَفَ إِلَيْهِمَا
عِنَايَتَهُ اكْتَفَى بِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا ، وَهُمَا يُرِيَانِكَ الْخَيْرَ
وَالشَّرَّ وَأَسْبَابَهُمَا ، حَتَّى كَأَنَّكَ تُعَايِنُ ذَلِكَ عِيَانًا ،
وَبَعْدَ ذَلِكَ إِذَا تَأَمَّلْتَ أَخْبَارَ الْأُمَمِ ، وَأَيَّامَ اللَّهِ فِي
أَهْلِ طَاعَتِهِ وَأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ ، طَابَقَ ذَلِكَ مَا عَلِمْتَهُ مِنَ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، وَرَأَيْتَهُ بِتَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ ،
وَوَعَدَ بِهِ ، وَعَلِمْتَ مِنْ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ مَا يَدُلُّكَ عَلَى
أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ ، وَأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ ، وَأَنَّ اللَّهَ يُنْجِزُ
وَعْدَهُ لَا مَحَالَةَ ، فَالتَّارِيخُ تَفْصِيلٌ لِجُزْئِيَّاتِ مَا عَرَّفَنَا
اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَسْبَابِ الْكُلِّيَّةِ لِلْخَيْرِ وَالشّ
فَصْلٌ: مُغَالَطَةُ النَّفْسِ حَوْلَ الْأَسْبَابِالْأَمْرُ
الثَّانِي أَنْ يَحْذَرَ مُغَالَطَةَ نَفْسِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَهَذَا
مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَعْرِفُ أَنَّ الْمَعْصِيَةَ
وَالْغَفْلَةَ مِنَ الْأَسْبَابِ الْمُضِرَّةِ لَهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ
وَلَا بُدَّ ، وَلَكِنْ تُغَالِطُهُ نَفْسُهُ بِالِاتِّكَالِ عَلَى عَفْوِ اللَّهِ
وَمَغْفِرَتِهِ تَارَةً ، وَبِالتَّسْوِيفِ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ
بِاللِّسَانِ
[ ص: 22 ] تَارَةً ، وَبِفِعْلِ الْمَنْدُوبَاتِ تَارَةً
، وَبِالْعِلْمِ تَارَةً ، وَبِالِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ تَارَةً ،
وَبِالِاحْتِجَاجِ بِالْأَشْبَاهِ وَالنُّظَرَاءِ تَارَةً ، وَبِالِاقْتِدَاءِ
بِالْأَكَابِرِ تَارَةً أُخْرَى
.
خَطَأٌ فِي فَهْمِ الِاسْتِغْفَارِ
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَظُنُّ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ
مَا فَعَلَ ثُمَّ قَالَ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، زَالَ أَثَرُ الذَّنْبِ وَرَاحَ هَذَا
بِهَذَا ، وَقَالَ لِي رَجُلٌ مِنَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْفِقْهِ : أَنَا أَفْعَلُ
مَا أَفْعَلُ ثُمَّ أَقُولُ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، مِائَةَ مَرَّةٍ
وَقَدْ غُفِرَ ذَلِكَ أَجْمَعُهُ كَمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ قَالَ فِي يَوْمٍ سُبْحَانَ اللَّهِ
وَبِحَمْدِهِ ، مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ ، وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ
زَبَدِ الْبَحْرِ ، وَقَالَ لِي آخَرُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ : نَحْنُ إِذَا فَعَلَ
أَحَدُنَا مَا فَعَلَ ، اغْتَسَلَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ أُسْبُوعًا وَقَدْ مُحِيَ
عَنْهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ لِي آخَرُ : قَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ
أَصَبْتُ ذَنْبًا فَاغْفِرْ لِي ، فَغَفَرَ اللَّهُ ذَنْبَهُ ، ثُمَّ مَكَثَ مَا
شَاءَ اللَّهُ ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا آخَرَ ، فَقَالَ : أَيْ رَبِّ أَصَبْتُ ذَنْبًا ،
فَاغْفِرْ لِي ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : عَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ
رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ ، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ،
فَلْيَصْنَعْ مَا شَاءَ . وَقَالَ
: أَنَا لَا أَشُكُّ أَنَّ لِي رَبًّا يَغْفِرُ
الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ قَدْ تَعَلَّقَ
بِنُصُوصٍ مِنَ الرَّجَاءِ ، وَاتَّكَلَ عَلَيْهَا وَتَعَلَّقَ بِهَا بِكِلْتَا
يَدَيْهِ وَإِذَا عُوتِبَ عَلَى الْخَطَايَا وَالِانْهِمَاكِ فِيهَا ، سَرَدَ لَكَ
مَا يَحْفَظُهُ مِنْ سَعَةِ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَنُصُوصِ الرَّجَاءِ
، وَلِلْجُهَّالِ مِنْ هَذَا الضَّرْبِ مِنَ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ
غَرَائِبُ وَعَجَائِبُ كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ :
وَكَثِّرْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الْخَطَايَا إِذَا كَانَ
الْقُدُومُ عَلَى كَرِيمٍ
وَقَوْلِ الْآخَرِ : التَّنَزُّهُ مِنَ الذُّنُوبِ
جَهْلٌ بِسَعَةِ عَفْوِ اللَّهِ
.
وَقَالَ الْآخَرُ : تَرْكُ الذُّنُوبِ جَرَاءَةٌ عَلَى
مَغْفِرَةِ اللَّهِ وَاسْتِصْغَارٌ
.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَزْمٍ : رَأَيْتُ بَعْضَ
هَؤُلَاءِ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ :
اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعِصْمَةِ .
التَّعَلُّقُ بِالْجَبْرِ
وَمِنْ هَؤُلَاءِ الْمَغْرُورِينَ مَنْ يَتَعَلَّقُ
بِمَسْأَلَةِ الْجَبْرِ ، وَأَنَّ الْعَبْدَ لَا فِعْلَ لَهُ الْبَتَّةَ وَلَا
اخْتِيَارَ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَجْبُورٌ عَلَى فِعْلِ الْمَعَاصِي .
التَّعَلُّقُ بِالْإِرْجَاءِ
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَغْتَرُّ بِمَسْأَلَةِ
الْإِرْجَاءِ ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ مُجَرَّدُ التَّصْدِيقِ ، وَالْأَعْمَالَ
لَيْسَتْ مِنَ الْإِيمَانِ ، وَأَنَّ إِيمَانَ أَفْسَقِ النَّاسِ كَإِيمَانِ
جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ .
[ ص: 23
]
الْخَطَأُ فِي الْحُبِّ
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَغْتَرُّ بِمَحَبَّةِ
الْفُقَرَاءِ وَالْمَشَايِخِ وَالصَّالِحِينَ ، وَكَثْرَةِ التَّرَدُّدِ إِلَى
قُبُورِهِمْ ، وَالتَّضَرُّعِ إِلَيْهِمْ ، وَالِاسْتِشْفَاعِ بِهِمْ ،
وَالتَّوَسُّلِ إِلَى اللَّهِ بِهِمْ ، وَسُؤَالِهِ بِحَقِّهِمْ عَلَيْهِ ،
وَحُرْمَتِهِمْ عِنْدَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْتَرُّ بِآبَائِهِ وَأَسْلَافِهِ ، وَأَنَّ
لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةً وَصَلَاحًا ، فَلَا يَدَعُوهُ أَنْ يُخَلِّصُوهُ
كَمَا يُشَاهِدُ فِي حَضْرَةِ الْمُلُوكِ ، فَإِنَّ الْمُلُوكَ تَهَبُ
لِخَوَاصِّهِمْ ذُنُوبَ أَبْنَائِهِمْ وَأَقَارِبِهِمْ ، وَإِذَا وَقَعَ أَحَدٌ
مِنْهُمْ فِي أَمْرٍ مُفْظِعٍ خَلَّصَهُ أَبُوهُ وَجَدُّهُ بِجَاهِهِ
وَمَنْزِلَتِهِ .
الِاغْتِرَارُ بِاللَّهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْتَرُّ بِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ
وَجَلَّ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ ، وَعَذَابُهُ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا ،
وَرَحْمَتُهُ لَهُ لَا تَنْقُصُ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا ، فَيَقُولُ : أَنَا
مُضْطَرٌّ إِلَى رَحْمَتِهِ ، وَهُوَ أَغْنَى الْأَغْنِيَاءِ ، وَلَوْ أَنَّ
فَقِيرًا مِسْكِينًا مُضْطَرًّا إِلَى شَرْبَةِ مَاءٍ عِنْدَ مَنْ فِي دَارِهِ
شَطٌّ يَجْرِي لَمَا مَنَعَهُ مِنْهَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ وَأَوْسَعُ فَالْمَغْفِرَةُ
لَا تَنْقُصُهُ شَيْئًا وَالْعُقُوبَةُ لَا تَزِيدُ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا .
الِاغْتِرَارُ بِالْفَهْمِ الْفَاسِدِ وَالْقُرْآنِ
وَالسُّنَّةِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَغْتَرُّ بِفَهْمٍ فَاسِدٍ فَهِمَهُ
هُوَ وَأَضْرَابُهُ مِنْ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ ، فَاتَّكَلُوا عَلَيْهِ
كَاتِّكَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى
[ سُورَةُ الضُّحَى : 55 ] .
قَالَ وَهُوَ لَا يَرْضَى أَنْ يَكُونَ فِي النَّارِ
أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ ، وَهَذَا مِنْ أَقْبَحِ الْجَهْلِ ، وَأَبْيَنِ الْكَذِبِ
عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَرْضَى بِمَا يَرْضَى بِهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ ،
وَاللَّهُ تَعَالَى يُرْضِيهِ تَعْذِيبُ الظَّلَمَةِ وَالْفَسَقَةِ وَالْخَوَنَةِ
وَالْمُصِرِّينَ عَلَى الْكَبَائِرِ ، فَحَاشَا رَسُولَهُ أَنْ يَرْضَى بِمَا لَا
يَرْضَى بِهِ رَبُّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى .
وَكَاتِّكَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [ سُورَةُ الزُّمَرِ : 53 ]
وَهَذَا أَيْضًا مِنْ أَقْبَحِ الْجَهْلِ ، فَإِنَّ
الشِّرْكَ دَاخِلٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ، فَإِنَّهُ رَأْسُ الذُّنُوبِ
وَأَسَاسُهَا ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي حَقِّ التَّائِبِينَ ،
فَإِنَّهُ يَغْفِرُ ذَنْبَ كُلِّ تَائِبٍ مِنْ أَيِّ ذَنْبٍ كَانَ ، وَلَوْ
كَانَتِ الْآيَةُ فِي حَقِّ غَيْرِ التَّائِبِينَ لَبَطَلَتْ نُصُوصُ الْوَعِيدِ
كُلُّهَا .
وَأَحَادِيثُ إِخْرَاجِ قَوْمٍ مِنَ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ
النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ .
وَهَذَا إِنَّمَا أَتَى صَاحِبَهُ مِنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ
وَفَهْمِهِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ هَاهُنَا عَمَّمَ وَأَطْلَقَ ، فَعُلِمَ
أَنَّهُ
[ ص: 24
] أَرَادَ التَّائِبِينَ ، وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ
خَصَّصَ وَقَيَّدَ فَقَالَ : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 48 ] ،
فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُ الشِّرْكَ ، وَأَخْبَرَ
أَنَّهُ يَغْفِرُ مَا دُونَهُ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِ لَمْ يُفَرِّقْ
بَيْنَ الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ ، وَكَاغْتِرَارِ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [ سُورَةُ
الِانْفِطَارِ : 66 ] فَيَقُولُ
: كَرَّمَهُ ، وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ : إِنَّهُ
لَقَّنَ الْمُغْتَرَّ حُجَّتَهُ ، وَهَذَا جَهْلٌ قَبِيحٌ ، وَإِنَّمَا غَرَّهُ
بِرَبِّهِ الْغَرُورُ ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ ، وَنَفْسُهُ الْأَمَّارَةُ
بِالسُّوءِ وَجَهْلُهُ وَهَوَاهُ ، وَأَتَى سُبْحَانَهُ بِلَفْظِ الْكَرِيمِ
وَهُوَ السَّيِّدُ الْعَظِيمُ الْمُطَاعُ ، الَّذِي لَا يَنْبَغِي الِاغْتِرَارُ بِهِ
، وَلَا إِهْمَالُ حَقِّهِ ، فَوَضَعَ هَذَا الْمُغْتَرُّ الْغَرُورَ فِي غَيْرِ
مَوْضِعِهِ ، وَاغْتَرَّ بِمَنْ لَا يَنْبَغِي الِاغْتِرَارُ بِهِ .
وَكَاغْتِرَارِ بَعْضِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي
النَّارِ : لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [ سُورَةُ اللَّيْلِ
: 15 - 16 ] ، وَقَوْلِهِ : أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 24 ] .
وَلَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ أَنَّ قَوْلَهُ : فَأَنْذَرْتُكُمْ
نَارًا تَلَظَّى هِيَ نَارٌ مَخْصُوصَةٌ مِنْ جُمْلَةِ دَرَكَاتِ جَهَنَّمَ ،
وَلَوْ كَانَتْ جَمِيعَ جَهَنَّمَ فَهُوَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ لَا يَدْخُلُهَا
بَلْ قَالَ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ
صَلْيِهَا ، عَدَمُ دُخُولِهَا ، فَإِنَّ الصَّلْيَ أَخَصُّ مِنَ الدُّخُولِ ،
وَنَفْيُ الْأَخَصِّ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ الْأَعَمِّ .
ثُمَّ هَذَا الْمُغْتَرُّ لَوْ تَأَمَّلَ الْآيَةَ
الَّتِي بَعْدَهَا ؛ لَعَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ دَاخِلٍ فِيهَا ، فَلَا يَكُونُ
مَضْمُونًا لَهُ أَنْ يُجَنَّبَهَا
.
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي النَّارِ أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ ، فَقَدْ قَالَ فِي الْجَنَّةِ : أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [
سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 133 ] وَلَا يُنَافِي إِعْدَادُ النَّارِ لِلْكَافِرِينَ أَنْ
يَدْخُلَهَا الْفُسَّاقُ وَالظَّلَمَةُ ، وَلَا يُنَافِي إِعْدَادُ الْجَنَّةِ لِلْمُتَّقِينَ
أَنْ يَدْخُلَهَا مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ ،
وَلَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ
.
[ ص: 25
] وَكَاغْتِرَارِ بَعْضِهِمْ عَلَى صَوْمِ يَوْمِ
عَاشُورَاءَ ، أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ ، حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ : يَوْمُ عَاشُورَاءَ
يُكَفِّرُ ذُنُوبَ الْعَامِ كُلَّهَا ، وَيَبْقَى صَوْمُ عَرَفَةَ زِيَادَةً فِي الْأَجْرِ
، وَلَمْ يَدْرِ هَذَا الْمُغْتَرُّ ، أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ ، وَالصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ ، أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ صِيَامِ يَوْمِ عَرَفَةَ ، وَيَوْمِ
عَاشُورَاءَ ، وَهِيَ إِنَّمَا تُكَفِّرُ مَا بَيْنَهُمَا إِذَا اجْتُنِبَتِ
الْكَبَائِرُ .
فَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى
الْجُمُعَةِ ، لَا يَقْوَيَا عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ ، إِلَّا مَعَ
انْضِمَامِ تَرْكِ الْكَبَائِرِ إِلَيْهَا ، فَيَقْوَى مَجْمُوعُ الْأَمْرَيْنِ
عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ .
فَكَيْفَ يُكَفِّرُ صَوْمُ يَوْمِ تَطَوُّعٍ كُلَّ كَبِيرَةٍ
عَمِلَهَا الْعَبْدُ وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا ، غَيْرُ تَائِبٍ مِنْهَا ؟ هَذَا
مُحَالٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ صَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ
وَيَوْمِ عَاشُورَاءَ مُكَفِّرًا لِجَمِيعِ ذُنُوبِ الْعَامِ عَلَى عُمُومِهِ ،
وَيَكُونُ مِنْ نُصُوصِ الْوَعْدِ الَّتِي لَهَا شُرُوطٌ وَمَوَانِعُ ، وَيَكُونُ
إِصْرَارُهُ عَلَى الْكَبَائِرِ مَانِعًا مِنَ التَّكْفِيرِ ، فَإِذَا لَمْ
يُصِرَّ عَلَى الْكَبَائِرِ لِتَسَاعُدِ الصَّوْمِ وَعَدَمِ الْإِصْرَارِ ،
وَتَعَاوُنِهِمَا عَلَى عُمُومِ التَّكْفِيرِ ، كَمَا كَانَ رَمَضَانُ
وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ مَعَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مُتَسَاعِدَيْنِ
مُتَعَاوِنَيْنِ عَلَى تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ
قَالَ : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
[ سُورَةُ النِّسَاءِ : 31 ]
فَعُلِمَ أَنَّ جَعْلَ الشَّيْءِ سَبَبًا لِلتَّكْفِيرِ
لَا يَمْنَعُ أَنْ يَتَسَاعَدَ هُوَ وَسَبَبٌ آخَرُ عَلَى التَّكْفِيرِ ،
وَيَكُونُ التَّكْفِيرُ مَعَ اجْتِمَاعِ السَّبَبَيْنِ أَقْوَى وَأَتَمَّ مِنْهُ
مَعَ انْفِرَادِ أَحَدِهِمَا ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ أَسْبَابُ التَّكْفِيرِ كَانَ
أَقْوَى وَأَتَمَّ وَأَشْمَلَ .
حُسْنُ الظَّنِّ بِاللَّهِ
وَكَاتِّكَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى قَوْلِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَاكِيًا عَنْ رَبِّهِ " أَنَا عِنْدَ حُسْنِ
ظَنِّ عَبْدِي بِي ، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ " يَعْنِي مَا كَانَ فِي
ظَنِّهِ فَإِنِّي فَاعِلُهُ بِهِ ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ إِنَّمَا
يَكُونُ مَعَ الْإِحْسَانِ ، فَإِنَّ الْمُحْسِنَ حَسَنُ الظَّنِّبِرَبِّهِ أَنْ
يُجَازِيَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ وَلَا يُخْلِفَ وَعْدَهُ ، وَيَقْبَلَ تَوْبَتَهُ .
وَأَمَّا الْمُسِيءُ الْمُصِرُّ عَلَى الْكَبَائِرِ
وَالظُّلْمِ وَالْمُخَالَفَاتِ فَإِنَّ وَحْشَةَ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ
وَالْحَرَامِ تَمْنَعُهُ مِنْ حُسْنِ الظَّنِّ بِرَبِّهِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي
الشَّاهِدِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ الْخَارِجَ عَنْ طَاعَةِ سَيِّدِهِ لَا
يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ ، وَلَا يُجَامِعُ وَحْشَةَ الْإِسَاءَةِ إِحْسَانُ
الظَّنِّ أَبَدًا ، فَإِنَّ الْمُسِيءَ مُسْتَوْحِشٌ بِقَدْرِ إِسَاءَتِهِ ، وَأَحْسَنُ
النَّاسِ ظَنًّا بِرَبِّهِ أَطْوَعُهُمْ لَهُ .
كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ
أَحْسَنَ الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَحْسَنَ الْعَمَلَ وَإِنَّ الْفَاجِرَ أَسَاءَ
الظَّنَّ بِرَبِّهِ فَأَسَاءَ الْعَمَلَ .
وَكَيْفَ يَكُونُ مُحْسِنُ الظَّنِّ بِرَبِّهِ مَنْ هُوَ
شَارِدٌ عَنْهُ ، حَالٌّ مُرْتَحِلٌ فِي مَسَاخِطِهِ وَمَا يُغْضِبُهُ ،
[ ص: 26 ] مُتَعَرِّضٌ لِلَعْنَتِهِ قَدْ هَانَ حَقُّهُ
وَأَمْرُهُ عَلَيْهِ فَأَضَاعَهُ ، وَهَانَ نَهْيُهُ عَلَيْهِ فَارْتَكَبَهُ
وَأَصَرَّ عَلَيْهِ ؟ وَكَيْفَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ مَنْ بَارَزَهُ بِالْمُحَارَبَةِ
، وَعَادَى أَوْلِيَاءَهُ ، وَوَالَى أَعْدَاءَهُ ، وَجَحَدَ صِفَاتَ كَمَالِهِ ،
وَأَسَاءَ الظَّنَّ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ، وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَظَنَّ بِجَهْلِهِ أَنَّ ظَاهِرَ ذَلِكَ ضَلَالٌ
وَكُفْرٌ ؟ وَكَيْفَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَا
يَتَكَلَّمُ وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى وَلَا يَرْضَى وَلَا يَغْضَبُ ؟ .
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي حَقِّ مَنْ شَكَّ فِي
تَعَلُّقِ سَمْعِهِ بِبَعْضِ الْجُزْئِيَّاتِ ، وَهُوَ السِّرُّ مِنَ الْقَوْلِ :
وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 23 ] .
فَهَؤُلَاءِ لَمَّا ظَنُّوا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا يَعْمَلُونَ ، كَانَ هَذَا إِسَاءَةً لِظَنِّهِمْ
بِرَبِّهِمْ ، فَأَرْدَاهُمْ ذَلِكَ الظَّنُّ ، وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ مَنْ جَحَدَ
صِفَاتِ كَمَالِهِ ، وَنُعُوتَ جَلَالِهِ ، وَوَصَفَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ بِهِ ،
فَإِذَا ظَنَّ هَذَا أَنَّهُ يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ كَانَ هَذَا غُرُورًا
وَخِدَاعًا مِنْ نَفْسِهِ ، وَتَسْوِيلًا مِنَ الشَّيْطَانِ ، لَا إِحْسَانَ ظَنٍّ
بِرَبِّهِ .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْمَوْضِعَ ، وَتَأَمَّلْ شِدَّةَ الْحَاجَةِ
إِلَيْهِ ، وَكَيْفَ يَجْتَمِعُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ تَيَقُّنُهُ بِأَنَّهُ
مُلَاقٍ اللَّهَ ، وَأَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ وَيَرَى مَكَانَهُ ، وَيَعْلَمُ
سِرَّهُ وَعَلَانِيَتَهُ ، وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ أَمْرِهِ ،
وَأَنَّهُ مَوْقُوفٌ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَمَسْئُولٌ عَنْ كُلِّ مَا عَمِلَ ،
وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَسَاخِطِهِ مُضَيِّعٌ لِأَوَامِرِهِ ، مُعَطِّلٌ
لِحُقُوقِهِ ، وَهُوَ مَعَ هَذَا يُحْسِنُ الظَّنَّ بِهِ ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا
مِنْ خِدَعِ النُّفُوسِ ، وَغُرُورِ الْأَمَانِيِّ ؟
وَقَدْ قَالَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ
: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - فَقَالَتْ لَوْ رَأَيْتُمَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي مَرَضٍ لَهُ ، وَكَانَتْ عِنْدِي سِتَّةُ دَنَانِيرَ ، أَوْ
سَبْعَةٌ ، فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنْ أُفَرِّقَهَا ، قَالَتْ : فَشَغَلَنِي وَجَعُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى عَافَاهُ اللَّهُ ، ثُمَّ سَأَلَنِي عَنْهَا
فَقَالَ : مَا فَعَلْتِ ؟ أَكُنْتِ فَرَّقَتِ السِّتَّةَ الدَّنَانِيرَ ؟ فَقُلْتُ : لَا وَاللَّهِ
لَقَدْ شَغَلَنِي وَجَعُكَ ، قَالَتْ فَدَعَا بِهَا ، فَوَضَعَهَا فِي كَفِّهِ ،
فَقَالَ : مَا ظَنُّ نَبِيِّ اللَّهِ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وَهَذِهِ عِنْدَهُ ؟
وَفِي لَفْظٍ : مَا ظَنُّ مُحَمَّدٍ بِرَبِّهِ لَوْ لَقِيَ اللَّهَ وَهَذِهِ
عِنْدَهُ .
فَيَا لَلَّهِ مَا ظَنُّ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ
وَالظَّلَمَةِ بِاللَّهِ إِذَا لَقَوْهُ وَمَظَالِمُ الْعِبَادِ عِنْدَهُمْ ؟
فَإِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ قَوْلُهُمْ :
حَسَّنَّا ظُنُونَنَا بِكَ ، إِنَّكَ لَنْ تُعَذِّبَ
ظَالِمًا وَلَا فَاسِقًا ، فَلْيَصْنَعِ الْعَبْدُ مَا شَاءَ ، وَلِيَرْتَكِبْ
كُلَّ مَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِيُحْسِنْ ظَنَّهُ بِاللَّهِ ، فَإِنَّ النَّارَ
لَا تَمَسُّهُ ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا يَبْلُغُ الْغُرُورُ بِالْعَبْدِ ،
وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِقَوْمِهِ : أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ
تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 86 -
87 ] .
[ ص: 27 ] أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنْ يَفْعَلَ بِكُمْ
إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ .
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَوْضِعَ حَقَّ التَّأَمُّلِ
عَلِمَ أَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ هُوَ حُسْنُ الْعَمَلِ نَفْسُهُ ، فَإِنَّ
الْعَبْدَ إِنَّمَا يَحْمِلُهُ عَلَى حُسْنِ الْعَمَلِ ظَنُّهُ بِرَبِّهِ أَنْ يُجَازِيَهُ
عَلَى أَعْمَالِهِ وَيُثِيبَهُ عَلَيْهَا وَيَتَقَبَّلَهَا مِنْهُ، فَالَّذِي
حَمَلَهُ عَلَى الْعَمَلِ حُسْنُ الظَّنِّ ، فَكُلَّمَا حَسُنَ ظَنُّهُ حَسُنَ
عَمَلُهُ ، وَإِلَّا فَحُسْنُ الظَّنِّ مَعَ اتِّبَاعِ الْهَوَى عَجْزٌ ، كَمَا
فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ وَالْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ
نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا
، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ .
وَبِالْجُمْلَةِ فَحُسْنُ الظَّنِّ إِنَّمَا يَكُونُ
مَعَ انْعِقَادِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ ، وَأَمَّا مَعَ انْعِقَادِ أَسْبَابِ
الْهَلَاكِ فَلَا يَتَأَتَّى إِحْسَانُ الظَّنِّ .
الْفَرْقُ بَيْنَ حُسْنِ الظَّنِّ وَالْغُرُورِ
فَإِنْ قِيلَ : بَلْ يَتَأَتَّى ذَلِكَ ، وَيَكُونُ
مُسْتَنَدُ حُسْنِ الظَّنِّ سَعَةَ مَغْفِرَةِ اللَّهِ ، وَرَحْمَتِهِ وَعَفْوِهِ
وَجُودِهِ ، وَأَنَّ رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ ، وَأَنَّهُ لَا تَنْفَعُهُ
الْعُقُوبَةُ ، وَلَا يَضُرُّهُ الْعَفْوُ .
قِيلَ : الْأَمْرُ هَكَذَا ، وَاللَّهُ فَوْقَ ذَلِكَ
وَأَجَلُّ وَأَكْرَمُ وَأَجْوَدُ وَأَرْحَمُ ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يَضَعُ ذَلِكَ
فِي مَحِلِّهِ اللَّائِقِ بِهِ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مَوْصُوفٌ بِالْحِكْمَةِ ،
وَالْعِزَّةِ وَالِانْتِقَامِ ، وَشِدَّةِ الْبَطْشِ ، وَعُقُوبَةِ مَنْ
يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ ، فَلَوْ كَانَ مُعَوَّلُ حُسْنِ الظَّنِّ عَلَى
مُجَرَّدِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ لَاشْتَرَكَ فِي ذَلِكَ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ
، وَالْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ ، وَوَلِيُّهُ وَعَدُّوهُ ، فَمَا يَنْفَعُ
الْمُجْرِمَ أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ وَقَدْ بَاءَ بِسُخْطِهِ وَغَضَبِهِ ،
وَتَعَرَّضَ لِلَعْنَتِهِ ، وَوَقَعَ فِي مَحَارِمِهِ ، وَانْتَهَكَ حُرُمَاتِهِ ،
بَلْ حُسْنُ الظَّنِّ يَنْفَعُ مَنْ تَابَ وَنَدِمَ وَأَقْلَعَ ، وَبَدَّلَ السَّيِّئَةَ
بِالْحَسَنَةِ ، وَاسْتَقْبَلَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ بِالْخَيْرِوَالطَّاعَةِ ،
ثُمَّ أَحْسَنَ الظَّنَّ ، فَهَذَا هُوَ حُسْنُ ظَنٍّ ، وَالْأَوَّلُ غُرُورٌ ،
وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَلَا تَسْتَطِلْ هَذَا الْفَصْلَ ، فَإِنَّ الْحَاجَةَ
إِلَيْهِ شَدِيدَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ يُفَرِّقُ بَيْنَ حُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ
وَبَيْنَ الْغُرُورِ بِهِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [ الْبَقَرَةِ : 218 ] فَجَعَلَ هَؤُلَاءِ أَهْلَ الرَّجَاءِ
، لَا الْبَطَّالِينَ وَالْفَاسِقِينَ
.
[ ص: 28 ] قَالَ تَعَالَى : ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ
هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ
مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 110 ] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ
بَعْدَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَفُورٌ رَحِيمٌ لِمَنْ فَعَلَهَا ، فَالْعَالِمُ
يَضَعُ الرَّجَاءَ مَوَاضِعَهُ وَالْجَاهِلُ الْمُغْتَرُّ يَضَعُهُ فِي غَيْرِ
مَوَاضِعِهِ .
فَصْلٌ:
الَّذِينَ اعْتَمَدُوا عَلَى عَفْوِ اللَّهِ فَضَيَّعُوا
أَمْرَهُ وَنَهْيَهُوَكَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ اعْتَمَدُوا عَلَى رَحْمَةِ
اللَّهِ وَعَفْوِهِ وَكَرَمِهِ ، وَضَيَّعُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ ، وَنَسُوا أَنَّهُ
شَدِيدُ الْعِقَابِ ، وَأَنَّهُ لَا يُرَدُّ بِأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ ، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْعَفْوِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى
الذَّنْبِ فَهُوَ كَالْمُعَانِدِ
.
قَالَ مَعْرُوفٌ : رَجَاؤُكَ لِرَحْمَةِ مَنْ لَا
تُطِيعُهُ مِنَ الْخِذْلَانِ وَالْحُمْقِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : مَنْ قَطَعَ عُضْوًا
مِنْكَ فِي الدُّنْيَا بِسَرِقَةِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، لَا تَأْمَنُ أَنْ
تَكُونَ عُقُوبَتُهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ هَذَا .
وَقِيلَ لِلْحَسَنِ : نَرَاكَ طَوِيلَ الْبُكَاءِ ،
فَقَالَ : أَخَافُ أَنْ يَطْرَحَنِي فِي النَّارِ وَلَا يُبَالِي .
وَكَانَ يَقُولُ : إِنَّ قَوْمًا أَلْهَتْهُمْ
أَمَانِيُّ الْمَغْفِرَةِ حَتَّى خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ ،
يَقُولُ أَحَدُهُمْ : لِأَنِّي أُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّي ، وَكَذَبَ ، لَوْ
أَحْسَنَ الظَّنَّ لَأَحْسَنَ الْعَمَلَ .
وَسَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ فَقَالَ : يَا أَبَا سَعِيدٍ
كَيْفَ نَصْنَعُ بِمُجَالَسَةِ أَقْوَامٍ يُخَوِّفُونَا حَتَّى تَكَادَ قُلُوبُنَا
تَطِيرُ ؟ فَقَالَ : وَاللَّهِ لَأَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُخَوِّفُونَكَ حَتَّى
تُدْرِكَ أَمْنًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَصْحَبَ أَقْوَامًا يُؤَمِّنُونَكَ
حَتَّى تَلْحَقَكَ الْمَخَاوِفُ
.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ
أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُولُ : يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُلْقَى فِي
النَّارِ ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُ بَطْنِهِ فَيَدُورُ فِي النَّارِ كَمَا يَدُورُ
الْحِمَارُ بِرَحَاهُ ، فَيَطُوفُ بِهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَيَقُولُونَ : يَا فُلَانُ :
مَا أَصَابَكَ ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ
الْمُنْكَرِ ؟ فَيَقُولُ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ ،
وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
رَافِعٍ قَالَ : مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِالْبَقِيعِ فَقَالَ : أُفٍّ لَكَ فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يُرِيدُنِي ، قَالَ : لَا ،
وَلَكِنَّ هَذَا قَبْرُ فُلَانٍ ، بَعَثْتُهُ سَاعِيًا إِلَى آلِ فُلَانٍ ،
فَغَلَّ نَمِرَةً فَدُرِّعَ الْآنَ مِثْلَهَا مِنْ نَارٍ .
[ ص: 29 ] وَفِي مُسْنَدِهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ
مِنْ نَارٍ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ ، قَالُوا : خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ
مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا ، كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ .
وَفِيهِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ
بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ ،
وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ ، قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ : يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ
وَالْأَبْصَارِ ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ ، فَقُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ
آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ،
إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ
شَاءَ .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ : مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ
ضَاحِكًا قَطُّ ؟ قَالَ : مَا ضَحِكَ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ
الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ، ثُمَّ
يُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ
نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ
بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَيُصْبَغُ فِي الْجَنَّةِ
صَبْغَةً ، فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ
بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ
قَطُّ ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ
.
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ
قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ
وَلَمَّا يُلْحَدْ ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ
يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ : اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ
الْقَبْرِ - مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا - ثُمَّ قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ
إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ،
نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ
الشَّمْسُ ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، وَحَنُوطٌ مِنْ
حَنُوطِ الْجَنَّةِ ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ
مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَيَقُولُ : اخْرُجِي
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانٍ ، فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ
، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ
حَتَّى يَأْخُذُوهَا ، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ ، وَفِي ذَلِكَ
الْحَنُوطِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى
وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا ، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ
الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا : مَا هَذِهِ الرُّوحُ الطَّيِّبَةُ ؟ فَيَقُولُونَ
: رُوحُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا
يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا ، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ فَيُفْتَحُ لَهُ ،
فَيُشُيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى
[ ص: 30 ] السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا حَتَّى يُنْتَهَى
بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : اكْتُبُوا كِتَابَ
عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَإِنِّي مِنْهَا
خَلَقْتُهُمْ ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى ،
فَقَالَ : فَتُعَادُ رُوحُهُ إِلَى الْأَرْضِ ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ ،
فَيُجْلِسَانِهِ ، فَيَقُولَانِ لَهُ
: مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : رَبِّيَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : دِينَيَ الْإِسْلَامُ ،
فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ :
هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : وَمَا عِلْمُكَ ؟ فَيَقُولُ
: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ ،
فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ صَدَقَ عَبْدِي ، فَافْرِشُوا لَهُ
مِنَ الْجَنَّةِ ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى
الْجَنَّةِ قَالَ : فَيَأْتِيهِ مِنْ رُوحِهَا وَطِيبِهَا ، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي
قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ، قَالَ : وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ ، حَسَنُ
الثِّيَابِ ، طَيِّبُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ ، هَذَا يَوْمُكَ
الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ لَهُ : مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ
الَّذِي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ ، فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ ، فَيَقُولُ
: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى
أَهْلِي وَمَالِي ، قَالَ : وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي
انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا ، وَإِقْبَالٍ مِنَ الْآخِرَةِ ، نَزَلَ إِلَيْهِ
مَلَائِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ ، سُودُ الْوُجُوهِ ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ ،
فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى
يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَيَقُولُ : أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ ، اخْرُجِي
إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ ، قَالَ : فَتَغْرَقُ فِي جَسَدِهِ
فَيَنْتَزِعُهَا ، كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمُبْتَلِّ ،
فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ،
حَتَّى يَجْعَلُونَهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ
رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَيَصْعَدُونَ بِهَا ، فَلَا
يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا : مَا هَذِهِ
الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ . فَيَقُولُونَ : رُوحُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، بِأَقْبَحِ
أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا ، فَيُسْتَفْتَحُ فَلَا يُفْتَحُ
لَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا
تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى
يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [ الْأَعْرَافِ : 40 ] فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى ، فَتُطْرَحُ
رُوحُهُ طَرْحًا ، ثُمَّ قَرَأَ
: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ
السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ
سَحِيقٍ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 31 ] فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ
فَيُجْلِسَانِهِ ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لَا
أَدْرِي ، فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا دِينُكَ ؟ فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي ،
فَيَقُولَانِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ ؟ فَيَقُولُ :
هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي ، فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ كَذَبَ
عَبْدِي ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى
النَّارِ ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا ، [ ص: 31 ] وَيُضَيَّقُ
عَلَيْهِ قَبْرُهُ ، حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ
الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ ، فَيَقُولُ : أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوؤُكَ ، هَذَا
يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ ، فَيَقُولُ : وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَوَجْهُكَ
الْوَجْهُ الَّذِي يَجِيءُ بِالشَّرِّ ، فَيَقُولُ : أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ ،
فَيَقُولُ : رَبِّ لَا تُقِمِ السَّاعَةَ .
وَفِي لَفْظٍ لِأَحْمَدَ أَيْضًا ثُمَّ يُقَيَّضُ لَهُ
أَعْمَى أَصَمُّ أَبْكَمُ ، فِي يَدِهِ مِرْزَبَّةٌ ، لَوْ ضَرَبَ بِهَا جَبَلًا
كَانَ تُرَابًا ، ثُمَّ يُعِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا كَانَ ،
فَيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أُخْرَى ، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا كُلُّ شَيْءٍ
إِلَّا الثَّقَلَيْنِ ، قَالَ الْبَرَاءُ : ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى
النَّارِ وَيُمَدُّ لَهُ مِنْ فِرَاشِ النَّارِ .
وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنْهُ ، قَالَ : بَيْنَمَا نَحْنُ
مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ بَصُرَ
بِجَمَاعَةٍ ، فَقَالَ : عَلَامَ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ ؟ قِيلَ : عَلَى قَبْرٍ
يَحْفِرُونَهُ ، فَفَزِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
، فَبَدَرَ بَيْنَ يَدَيْ أَصْحَابِهِ مُسْرِعًا ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى
الْقَبْرِ ، فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، فَاسْتَقْبَلْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ
لِأَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ ، فَبَكَى حَتَّى بَلَّ الثَّرَى مِنْ دُمُوعِهِ ، ثُمَّ
أَقْبَلَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ : أَيْ إِخْوَانِي ، لِمِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ
فَأَعِدُّوا .
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ قَالَ :
خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا
فَنَادَى ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَتَدْرُونَ مَا مَثَلِي
وَمَثَلُكُمْ ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، فَقَالَ إِنَّمَا
مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ مَثَلُ قَوْمٍ خَافُوا عَدُوًّا يَأْتِيهِمْ فَبَعَثُوا رَجُلًا
يَتَرَاءَى لَهُمْ ، فَأَبْصَرَ الْعَدُوَّ ، فَأَقْبَلَ لِيُنْذِرَهُمْ ، وَخَشِيَ
أَنْ يُدْرِكَهُ الْعَدُوُّ قَبْلَ أَنْ يُنْذِرَ قَوْمَهُ ، فَأَهْوَى بِثَوْبِهِ
: أَيُّهَا النَّاسُ أُتِيتُمْ ، أَيُّهَا النَّاسُ أُتِيتُمْ ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ مُسْكِرٍ
حَرَامٌ ، وَإِنَّ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ
أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ ، قِيلَ : وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ ؟
قَالَ عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ أَوْ عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ .
وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرَى مَا
لَا تَرَوْنَ وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا
أَنْ تَئِطَّ ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ
سَاجِدٌ ، لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ، وَلَبَكَيْتُمْ
كَثِيرًا ، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ ، وَلَخَرَجْتُمْ
إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ أَبُو ذَرٍّ :
وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ .
وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ
قَالَ : كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَنَازَةٍ
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ قَعَدَ عَلَى سَاقَيْهِ ، فَجَعَلَ
يُرَدِّدُ بَصَرَهُ فِيهِ ، ثُمَّ قَالَ : يُضْغَطُ الْمُؤْمِنُ فِيهِ ضَغْطَةً
تَزُولُ مِنْهَا حَمَائِلُهُ وَيُمْلَأُ عَلَى الْكَافِرِ نَارًا ، وَالْحَمَائِلُ
عُرُوقُ الْأُنْثَيَيْنِ .
[ ص: 32 ] وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
جَابِرٍ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ حِينَ تُوُفِّيَ ، فَلَمَّا صَلَّى
عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُضِعَ فِي
قَبْرِهِ ، وَسُوِّيَ عَلَيْهِ ، سَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَبَّحْنَا طَوِيلًا ، ثُمَّ كَبَّرَ ، فَكَبَّرْنَا ،
فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ سَبَّحْتَ ، ثُمَّ كَبَّرْتَ ؟ فَقَالَ :
لَقَدْ تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ قَبْرُهُ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ
عَنْهُ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ
، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا
وُضِعَتِ الْجَنَازَةُ ، وَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ ، فَإِنْ
كَانَتْ صَالِحَةً قَالَتْ : قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ
صَالِحَةٍ ، قَالَتْ : يَا وَيْلَهَا ، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا ؟ يَسْمَعُ
صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ ، وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ
لَصُعِقَ .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : تَدْنُو
الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى قَدْرِ مِيلٍ ، وَيُزَادُ فِي حَرِّهَا كَذَا
وَكَذَا ، تَغْلِي مِنْهَا الرُّءُوسُ كَمَا تَغْلِي الْقُدُورُ ، يَعْرَقُونَ فِيهَا
عَلَى قَدْرِ خَطَايَاهُمْ ، مِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى كَعْبِهِ ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَبْلُغُ إِلَى سَاقَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْلُغُ إِلَى وَسَطِهِ ،
وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ
.
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الْقَرْنِ قَدِ الْتَقَمَ
الْقَرْنَ ؟ وَحَنَى جَبْهَتَهُ يَسْمَعُ مَتَى يُؤْمَرُ فَيَنْفُخُ ، فَقَالَ أَصْحَابُهُ
: كَيْفَ نَقُولُ ؟ قَالَ : قُولُوا : حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ،
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا .
وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ
: مَنْ تَعَظَّمَ فِي نَفْسِهِ ، أَوِ اخْتَالَ فِي مِشْيَتِهِ ، لَقِيَ اللَّهَ
وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانٌ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الْمُصَوِّرِينَ
يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ .
وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
، وَإِنْ كَانَ مِنْأَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ ، فَيُقَالُ : هَذَا
مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ .
وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَارَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ ، وَأَهْلُ
النَّارِ فِي النَّارِ ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتَّى يُوقَفَ بَيْنَ الْجَنَّةِ
وَالنَّارِ ، ثُمَّ يُذْبَحَ ، ثُمَّ يُنَادِي مُنَادٍ : يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ
خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتٌ ، فَيَزْدَادُ
أَهْلُ الْجَنَّةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النَّارِ
حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ قَالَ : مَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا
بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ فِيهَا دِرْهَمٌ حَرَامٌ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ [ ص: 33
] صَلَاةً مَادَامَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ ثُمَّ قَالَ
صُمَّتَا إِنْ لَمْ أَكُنْ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - يَقُولُهُ .
وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سُكْرًا
مَرَّةً وَاحِدَةً فَكَأَنَّمَا كَانَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا
فَسُلِبَهَا ، وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ سُكْرًا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَانَ حَقًّا
عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ طِينَةَ الْخَبَالِ ، قِيلَ : وَمَا طِينَةُ
الْخَبَالِ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : عُصَارَةُ أَهْلِ جَهَنَّمَ .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ مَرْفُوعًا مَنْ شَرِبَ
الْخَمْرَ مَرَّةً لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَإِنْ
تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَادَ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ لَهُ صَلَاةً
أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَا أَدْرِي فِي
الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ : فَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى
اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدْغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . .
وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى
قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ مَاتَ
مُدْمِنًا لِلْخَمْرِ سَقَاهُ اللَّهُ مِنْ نَهْرِ الْغُوطَةِ ، قِيلَ : وَمَا
نَهْرُ الْغُوطَةِ ؟ قَالَ نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ الْمُومِسَاتِ ، يُؤْذِي أَهْلَ
النَّارِ رِيحُ فُرُوجِهِنَّ .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُعْرَضُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَ
عَرْضَاتٍ ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ
فَعِنْدَ ذَلِكَ تَطِيرُ الصُّحُفُ فِي الْأَيْدِي ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ ، أَوْ
آخِذٌ بِشِمَالِهِ .
وَفِي الْمُسْنَدِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِيَّاكُمْ
وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ : فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ
، وَضَرَبَ لَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ - مَثَلًا
، كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ ، فَجَعَلَ
الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ ،
حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا وَأَجَّجُوا نَارًا ، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا .
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى
جَهَنَّمَ ، فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ ، اللَّهُمَّ
سَلِّمْ سَلِّمْ ، وَعَلَى حَافَّتَيْهِ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ ،
تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ ، فَمِنْهُمُ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ ،
وَمِنْهُمُ الْمُجَرْدَلُ ، ثُمَّ يَنْجُو ، حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ
الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ
أَرَادَ أَنْ يَرْحَمَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ،
أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ آثَارِ
السُّجُودِ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنِ ابْنِ آدَمَ
أَثَرَ السُّجُودِ ، فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدِ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مِنْ
مَاءٍ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحَبَّةِ فِي
حَمِيلِ السَّيْلِ .
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ
يُقْضَى فِيهِ [ ص: 34 ] يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ ،
فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا ، فَقَالَ : مَا عَمِلْتَ فِيهَا
؟ قَالَ : قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى قُتِلْتُ ، قَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنْ
قَاتَلْتَ لِيُقَالَ : هُوَ جَرِئٌ ، فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ
عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ
وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ : مَا
عَمِلْتَ فِيهَا ؟ قَالَ تَعَلَّمْتُ فِيكَ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ ، وَقَرَأْتُ
فِيكَ الْقُرْآنَ ، فَقَالَ : كَذَبْتَ ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ ، هُوَ عَالِمٌ
، فَقَدْ قِيلَ ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ : هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ، ثُمَّ
أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَفِي لَفْظٍ
فَهَؤُلَاءِ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ .
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَةَ
يَقُولُ : كَمَا أَنَّ خَيْرَ النَّاسِ الْأَنْبِيَاءُ فَشَرُّ النَّاسِ مَنْ
تَشَبَّهَ بِهِمْ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ، فَخَيْرُ النَّاسِ
بَعْدَهُمُ الْعُلَمَاءُ ، وَالشُّهَدَاءُ ، وَالصِّدِّيقُونَ ، وَالْمُخْلِصُونَ
، وَشَرُّ النَّاسِ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِمْ يُوهِمُ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ
مِنْهُمْ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ كَانَتْ
عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلَمَةٌ فِي مَالٍ أَوْ عِرْضٍ فَلْيَأْتِهِ ،
فَلْيَسْتَحِلَّهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ وَلَيْسَ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلَا
دِرْهَمٌ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ حَسَنَاتِهِ فَأُعْطِيهَا
هَذَا ، وَإِلَّا أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ هَذَا فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ
فِي النَّارِ .
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَنْ
أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ : نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ بَنُو آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ
جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ ، قَالُوا : وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةٌ ،
قَالَ : فَإِنَّهَا قَدْ فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا
كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ مُعَاذٍ قَالَ : أَوْصَانِي
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ
شَيْئًا ، وَإِنْ قُتِلْتَ أَوْ حُرِّقْتَ ، وَلَا تَعُقَّنَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ
أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ ، وَلَا تَتْرُكَنَّ صَلَاةً
مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا ، فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً مُتَعَمِّدًا
فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ ، وَلَا تَشْرَبَنَّ خَمْرًا ، فَإِنَّهُ
رَأَسُ كُلِّ فَاحِشَةٍ ، وَإِيَّاكَ وَالْمَعْصِيَةَ ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ
تُحِلُّ سَخَطَ اللَّهِ .
وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ
مَا ذَكَرْنَا ، فَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ نَصَحَ نَفْسَهُ أَنْ يَتَعَامَى عَنْهَا
، وَيُرْسِلَ نَفْسَهُ فِي الْمَعَاصِي ، وَيَتَعَلَّقَ بِحُسْنِ الرَّجَاءِ
وَحُسْنِ الظَّنِّ
.
قَالَ أَبُو الْوَفَاءِ بْنُ عَقِيلٍ : احْذَرْهُ وَلَا
تَغْتَرَّ بِهِ ، فَإِنَّهُ قَطَعَ الْيَدَ فِي ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، وَجَلَدَ
الْحَدَّ فِي مِثْلِ رَأْسِ الْإِبْرَةِ مِنَ الْخَمْرِ ، وَقَدْ دَخَلَتِ
الْمَرْأَةُ النَّارَ فِي هِرَّةٍ ، وَاشْتَعَلَتِ الشَّمْلَةُ نَارًا عَلَى مَنْ
غَلَّهَا وَقَدْ قُتِلَ شَهِيدًا
.
[ ص: 35 ] وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ
حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنْ طَارِقِ بْنِ
شِهَابٍ يَرْفَعُهُ قَالَ : دَخَلَ رَجُلٌ الْجَنَّةَ فِي ذُبَابٍ ، وَدَخَلَ
رَجُلٌ النَّارَ فِي ذُبَابٍ ، قَالُوا : وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟
قَالَ مَرَّ رَجُلَانِ عَلَى قَوْمٍ لَهُمْ صَنَمٌ لَا يَجُوزُهُ أَحَدٌ حَتَّى
يُقَرِّبَ لَهُ شَيْئًا ، فَقَالُوا لِأَحَدِهِمَا : قَرِّبْ ، فَقَالَ لَيْسَ
عِنْدِي شَيْءٌ ، قَالُوا قَرِّبْ وَلَوْ ذُبَابًا ، فَخَلَّوْا سَبِيلَهُ ،
فَدَخَلَ النَّارَ ، وَقَالُوا لِلْآخَرِ : قَرِّبْ ، فَقَالَ : مَا كُنْتُ
لِأُقَرِّبَ لِأَحَدٍ شَيْئًا مِنْ دُونِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَضَرَبُوا
عُنُقَهُ ، فَدَخَلَ الْجَنَّةَ ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُيَتَكَلَّمُ بِهَا
الْعَبْدُ يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ .
وَرُبَّمَااتَّكَلَ بَعْضُ الْمُغْتَرِّينَ عَلَى مَا
يَرَى مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَأَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ مَا
بِهِ ، وَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُ ، وَأَنَّهُ يُعْطِيهِ
فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ ، فَهَذَا مِنَ الْغُرُورِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ
غَيْلَانَ حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ
التُّجِيبِيِّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ فَإِنَّمَا هُوَ
اسْتِدْرَاجٌ ، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : فَلَمَّا نَسُوا مَا
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا
فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [
سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 44 ] .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ
يُتَابِعُ عَلَيْكَ نِعَمَهُ وَأَنْتَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ فَاحْذَرْهُ ؛ فَإِنَّمَا
هُوَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُيَسْتَدْرِجُكَ بِهِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَلَوْلَا
أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ
وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 33 - 35 ] .
وَقَدْ رَدَّ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنْ يَظُنُّ هَذَا
الظَّنَّ بِقَوْلِهِ : فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ
فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي وَأَمَّا إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي كَلَّا [
سُورَةُ الْفَجْرِ : 15 - 17 ] أَيْ لَيْسَ كُلُّ مَنْ نَعَّمْتُهُ وَوَسَّعْتُ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَكُونُ قَدْ أَكْرَمْتُهُ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنِ ابْتَلَيْتُهُ
وَضَيَّقْتُ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أَكُونُ قَدْ أَهَنْتُهُ ، بَلْ أَبْتَلِي هَذَا
بِالنِّعَمِ ، وَأُكْرِمُ هَذَا بِالِابْتِلَاءِ .
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا
يُحِبُّ وَلَا يُعْطِي الْإِيمَانَ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ [ ص: 36 ] وَقَالَ بَعْضُ
السَّلَفِ : رُبَّ مُسْتَدْرَجٍ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ،
وَرُبَّ مَغْرُورٍ بِسَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ، وَرُبَّ مَفْتُونٍ
بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ .
فَصْلٌ:
الِاغْتِرَارُ بِالدُّنْيَاوَأَعْظَمُ الْخَلْقِ
غُرُورًا مَنِ اغْتَرَّ بِالدُّنْيَا وَعَاجَلَهَا ، فَآثَرَهَا عَلَى الْآخِرَةِ
، وَرَضِيَ بِهَا مِنَ الْآخِرَةِ ، حَتَّى يَقُولَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ : الدُّنْيَا
نَقْدٌ ، وَالْآخِرَةُ نَسِيئَةٌ ، وَالنَّقْدُ أَحْسَنُ مِنَ النَّسِيئَةِ .
وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ : ذَرَّةٌ مَنْقُودَةٌ ، وَلَا
دُرَّةٌ مَوْعُودَةٌ .
وَيَقُولُ آخَرُ مِنْهُمْ : لَذَّاتُ الدُّنْيَا
مُتَيَقَّنَةٌ ، وَلَذَّاتُ الْآخِرَةِ مَشْكُوكٌ فِيهَا ، وَلَا أَدَعُ
الْيَقِينَ بِالشَّكِّ .
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ تَلْبِيسِ الشَّيْطَانِ
وَتَسْوِيلِهِ ، وَالْبَهَائِمُ الْعُجْمُ أَعْقَلُ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ فَإِنَّ
الْبَهِيمَةَ إِذَا خَافَتْ مَضَرَّةَ شَيْءٍ لَمْ تُقْدِمْ عَلَيْهِ وَلَوْ ضُرِبَتْ
، وَهَؤُلَاءِ يُقْدِمُ أَحَدُهُمْ عَلَى مَا فِيهِ عَطَبُهُ ، وَهُوَ بَيْنَ
مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ .
فَهَذَا الضَّرْبُ إِنْ آمَنَ أَحَدُهُمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَلِقَائِهِ وَالْجَزَاءِ ، فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ حَسْرَةً ، لِأَنَّهُ
أَقْدَمَ عَلَى عِلْمٍ ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَأَبْعَدُ
لَهُ .
وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ : النَّقْدُ خَيْرٌ مِنَ
النَّسِيئَةِ .
جَوَابُهُ أَنَّهُ إِذَا تَسَاوَى النَّقْدُ
وَالنَّسِيئَةُ فَالنَّقْدُ خَيْرٌ ، وَإِنْ تَفَاوَتَا وَكَانَتِ النَّسِيئَةُ
أَكْبَرَ وَأَفْضَلَ فَهِيَ خَيْرٌ ، فَكَيْفَ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا مِنْ
أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا كَنَفَسٍ وَاحِدٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْآخِرَةِ ؟
كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيِّ مِنْ
حَدِيثِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا كَمَا
يُدْخِلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ فِي الْيَمِّ فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ ؟
فَإِيثَارُ هَذَا النَّقْدِ عَلَى هَذِهِ النَّسِيئَةِ ،
مِنْ أَعْظَمِ الْغَبْنِ وَأَقْبَحِ الْجَهْلِ ، وَإِذَا كَانَ هَذَا نِسْبَةَ
الدُّنْيَا بِمَجْمُوعِهَا إِلَى الْآخِرَةِ ، فَمَا مِقْدَارُ عُمُرِ
الْإِنْسَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْآخِرَةِ ، فَأَيُّمَا أَوْلَى بِالْعَاقِلِ ؟
إِيثَارُ الْعَاجِلِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِالْيَسِيرَةِ ، وَحِرْمَانُ الْخَيْرِ
الدَّائِمِ فِي الْآخِرَةِ ، أَمْ تَرْكُ شَيْءٍ حَقِيرٍ صَغِيرٍ مُنْقَطِعٍ عَنْ
قُرْبٍ ، لِيَأْخُذَ مَا لَا قِيمَةَ لَهُ وَلَا خَطَرَ لَهُ ، وَلَا نِهَايَةَ لِعَدَدِهِ
، وَلَا غَايَةَ لِأَمَدِهِ ؟
وَأَمَّا قَوْلُ الْآخَرِ : لَا أَتْرُكُ مُتَيَقَّنًا
لِمَشْكُوكٍ فِيهِ ، فَيُقَالُ لَهُ : إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى شَكٍّ مِنْ
وَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ ، أَوْ تَكُونَ عَلَى [ ص: 37 ]
يَقِينٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كُنْتَ عَلَى الْيَقِينِ فَمَا تَرَكْتَ إِلَّا
ذَرَّةً عَاجِلَةً مُنْقَطِعَةً فَانِيَةً عَنْ قُرْبٍ ، لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ
لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا انْقِطَاعَ لَهُ
.
وَإِنْ كُنْتَ عَلَى شَكٍّ فَرَاجِعْ آيَاتِ الرَّبِّ
تَعَالَى الدَّالَّةَ عَلَى وُجُودِهِ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ،
وَوَحْدَانِيَّتِهِ ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ عَنِ اللَّهِ ،
وَتَجَرَّدْ وَقُمْ لِلَّهِ نَاظِرًا أَوْ مُنَاظِرًا ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ
أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا شَكَّ
فِيهِ ، وَأَنَّ خَالِقَ هَذَا الْعَالَمِ وَرَبَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ وَيَتَنَزَّهُ عَنْ خِلَافِمَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُهُ
عَنْهُ ، وَمَنْ نَسَبَهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ شَتَمَهُ وَكَذَّبَهُ ،
وَأَنْكَرَ رُبُوبِيَّتَهُ وَمُلْكَهُ ، إِذْ مِنَ الْمُحَالِ الْمُمْتَنِعِ
عِنْدَ كُلِّ ذِي فِطْرَةٍ سَلِيمَةٍ ، أَنْ يَكُونَ الْمَلِكُ الْحَقُّ عَاجِزًا أَوْ
جَاهِلًا ، لَا يَعْلَمُ شَيْئًا ، وَلَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا
يَتَكَلَّمُ ، وَلَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى ، وَلَا يُثِيبُ وَلَا يُعَاقِبُ ،
وَلَا يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَلَا يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ ، وَلَا يُرْسِلُ
رُسُلَهُ إِلَى أَطْرَافِ مَمْلَكَتِهِ وَنَوَاحِيهَا ، وَلَا يَعْتَنِي
بِأَحْوَالِ رَعِيَّتِهِ ، بَلْ يَتْرُكُهُمْ سُدًى وَيُخَلِّيهِمْ هَمَلًا ،
وَهَذَا يَقْدَحُ فِي مُلْكِ آحَادِ مُلُوكِ الْبَشَرِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ ،
فَكَيْفَ يَجُوزُ نِسْبَةُ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ إِلَيْهِ ؟
وَإِذَا تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ حَالَهُ مِنْ مَبْدَأِ
كَوْنِهِ نُطْفَةً إِلَى حِينِ كَمَالِهِ وَاسْتِوَائِهِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ
مَنْ عُنِيَ بِهِ هَذِهِ الْعِنَايَةَ ، وَنَقَلَهُ إِلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ ،
وَصَرَّفَهُ فِي هَذِهِ الْأَطْوَارِ ، لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يُهْمِلَهُ
وَيَتْرُكَهُ سُدًى ، لَا يَأْمُرُهُ وَلَا يَنْهَاهُ وَلَا يُعَرِّفُهُ
بِحُقُوقِهِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُثِيبُهُ وَلَا يُعَاقِبُهُ ، وَلَوْ تَأَمَّلَ
الْعَبْدُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَكَانَ كُلُّ مَا يُبْصِرُهُ وَمَا لَا يُبْصِرُهُ
دَلِيلًا لَهُ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْمَعَادِ ، وَأَنَّ
الْقُرْآنَ كَلَامُهُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِذَلِكَ فِي
كِتَابِ إِيمَانِ الْقُرْآنِ عِنْدَ قَوْلِهِ : فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ
وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [ سُورَةُ الْحَاقَّةِ :
38 - 40 ] .
وَذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ :
وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ [ سُورَةُ الذَّارِيَاتِ : 21 ] .
وَأَنَّ الْإِنْسَانَ دَلِيلُ نَفْسِهِ عَلَى وُجُودِ
خَالِقِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، وَصِدْقِ رُسُلِهِ ، وَإِثْبَاتِ صِفَاتِ كَمَالِهِ .
فَقَدْ بَانَ أَنَّ الْمُضَيِّعَ مَغْرُورٌ عَلَى
التَّقْدِيرَيْنِ : تَقْدِيرِ تَصْدِيقِهِ وَيَقِينِهِ ، وَتَقْدِيرِ تَكْذِيبِهِ
وَشَكِّهِ .
كَيْفَ يَجْتَمِعُ الْيَقِينُ بِالْمَعَادِ ،
وَالتَّخَلُّفُ عَنِ الْعَمَلِ ؟
فَإِنْ قُلْتَ : كَيْفَ يَجْتَمِعُ التَّصْدِيقُ
الْجَازِمُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ بِالْمَعَادِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ
وَيَتَخَلَّفُ الْعَمَلُ ؟ وَهَلْ فِي الطِّبَاعِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يَعْلَمَ
الْعَبْدُ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ غَدًا إِلَى بَيْنِ يَدَيْ بَعْضِ الْمُلُوكِ [ ص: 38 ] لِيُعَاقِبَهُ
أَشَدَّ عُقُوبَةٍ ، أَوْ يُكْرِمَهُ أَتَمَّ كَرَامَةٍ ، وَيَبِيتُ سَاهِيًا
غَافِلًا لَا يَتَذَكَّرُ مَوْقِفَهُ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ ، وَلَا يَسْتَعِدُّ
لَهُ ، وَلَا يَأْخُذُ لَهُ أُهْبَتَهُ
.
قِيلَ :
هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ سُؤَالٌ صَحِيحٌ وَارِدٌ عَلَى
أَكْثَرِ هَذَا الْخَلْقِ ، فَاجْتِمَاعُ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَعْجَبِ الْأَشْيَاءِ
وَهَذَا التَّخَلُّفُ لَهُ عِدَّةُ أَسْبَابٍ :
أَحَدُهَا
: ضَعْفُ الْعِلْمِ ، وَنُقْصَانُ الْيَقِينِ ، وَمَنْ
ظَنَّ أَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَفَاوَتُ ، فَقَوْلُهُ مِنْ أَفْسَدِ الْأَقْوَالِ وَأَبْطَلِهَا .
وَقَدْ سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ رَبَّهُ أَنْ يُرِيَهُ
إِحْيَاءَ الْمَوْتَى عِيَانًا بَعْدَ عِلْمِهِ بِقُدْرَةِ الرَّبِّ عَلَى ذَلِكَ
، لِيَزْدَادَ طُمَأْنِينَةً ، وَيَصِيرَ الْمَعْلُومُ غَيْبًا شَهَادَةً .
وَقَدْ رَوَى أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ عَنِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ .
فَإِذَا اجْتَمَعَ إِلَى ضَعْفِ الْعِلْمِ عَدَمُ
اسْتِحْضَارِهِ ، أَوْ غَيْبَتُهُ عَنِ الْقَلْبِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَوْقَاتِهِ
أَوْ أَكْثَرِهَا لِاشْتِغَالِهِ بِمَا يُضَادُّهُ ، وَانْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ
تَقَاضِي الطَّبْعِ ، وَغَلَبَاتُ الْهَوَى ، وَاسْتِيلَاءُ الشَّهْوَةِ ،
وَتَسْوِيلُ النَّفْسِ ، وَغُرُورُ الشَّيْطَانِ ، وَاسْتِبْطَاءُ الْوَعْدِ ،
وَطُولُ الْأَمَلِ ، وَرَقْدَةُ الْغَفْلَةِ ، وَحُبُّ الْعَاجِلَةِ ، وَرُخَصُ
التَّأْوِيلِ وَإِلْفُ الْعَوَائِدِ ، فَهُنَاكَ لَا يُمْسِكُ الْإِيمَانَ إِلَّا الَّذِي
يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا ، وَبِهَذَا السَّبَبِ
يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إِلَى
أَدْنَى مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْقَلْبِ .
وَجِمَاعُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ يَرْجِعُ إِلَى ضَعْفِ
الْبَصِيرَةِ وَالصَّبْرِ ، وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلَ
الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ ، وَجَعَلَهُمْ أَئِمَّةً فِي الدِّينِ ، فَقَالَ تَعَالَى
: مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ السَّجْدَةِ : 24 ]
فَصْلٌ:الْفَرْقُ بَيْنَ حُسْنِ الظَّنِّ
وَالْغُرُورِوَقَدْ تَبَيَّنَ الْفَرْقُ بَيْنَ حُسْنِ الظَّنِّ وَالْغُرُورِ ،
وَأَنَّ حُسْنَ الظَّنِّ إِنْ حَمَلَ عَلَى الْعَمَلِ ، وَحَثَّ عَلَيْهِ ،
وَسَاقَ إِلَيْهِ ، فَهُوَ صَحِيحٌ ، وَإِنْ دَعَا إِلَى الْبِطَالَةِ
وَالِانْهِمَاكِ فِي الْمَعَاصِي فَهُوَ غُرُورٌ ، وَحُسْنُ الظَّنِّ هُوَ
الرَّجَاءُ ، فَمَنْ كَانَ رَجَاؤُهُ هَادِيًا لَهُ إِلَى الطَّاعَةِ ، زَاجِرًا
لَهُ عَنِ الْمَعْصِيَةِ ، فَهُوَ رَجَاءٌ صَحِيحٌ ، وَمَنْ كَانَتْ بِطَالَتُهُ
رَجَاءً ، وَرَجَاؤُهُ بِطَالَةً وَتَفْرِيطًا ، فَهُوَ الْمَغْرُورُ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ يُؤَمِّلُ
أَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ مِنْ مَغْلِهَا مَا يَنْفَعُهُ فَأَهْمَلَهَا وَلَمْ
يَبْذُرْهَا [ ص: 39 ] وَلَمْ يَحْرُثْهَا ، وَحَسُنَ ظَنُّهُ بِأَنَّهُ يَأْتِي
مِنْ مَغْلِهَا مَا يَأْتِي مَنْ حَرَثَ وَبَذَرَ وَسَقَى وَتَعَاهَدَ الْأَرْضَ
لَعَدَّهُ النَّاسُ مِنْ أَسْفَهِ السُّفَهَاءِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ
بِأَنْ يَجِيئَهُ وَلَدٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ يَصِيرَ أَعْلَمَ أَهْلِ
زَمَانِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْعِلْمِ، وَحِرْصٍ تَامٍّ عَلَيْهِ ، وَأَمْثَالُ
ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ وَقَوِيَ رَجَاؤُهُ فِي
الْفَوْزِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَا وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، مِنْ غَيْرِ طَاعَةٍ
وَلَا تَقَرُّبٍ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ، وَاجْتِنَابِ
نَوَاهِيهِ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ
.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَةَ اللَّهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 218 ] .
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ رَجَاءَهُمْ إِتْيَانَهُمْ
بِهَذِهِ الطَّاعَاتِ ؟
وَقَالَ الْمُغْتَرُّونَ : إِنَّ الْمُفَرِّطِينَ
الْمُضَيِّعِينَ لِحُقُوقِ اللَّهِ الْمُعَطِّلِينَ لِأَوَامِرِهِ ، الْبَاغِينَ
عَلَى عِبَادِهِ ، الْمُتَجَرِّئِينَ عَلَى مَحَارِمِهِ ، أُولَئِكَ يَرْجُونَ
رَحْمَةَ اللَّهِ .
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الرَّجَاءَ وَحُسْنَ
الظَّنِّ إِنَّمَا يَكُونُ مَعَ الْإِتْيَانُ بِالْأَسْبَابِ الَّتِي اقْتَضَتْهَا
حِكْمَةُ اللَّهِ فِي شَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَثَوَابِهِ وَكَرَامَتِهِ ، فَيَأْتِي
الْعَبْدُ بِهَا ثُمَّ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ ، وَيَرْجُوهُ أَنْ لَا
يَكِلَهُ إِلَيْهَا ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا مُوصِلَةً إِلَى مَا يَنْفَعُهُ ،
وَيَصْرِفَ مَا يُعَارِضُهَا وَيُبْطِلَ أَثَرَهَا .
فَصْلٌ:الرَّجَاءُ وَالْأَمَانِيُّوَمِمَّا يَنْبَغِي
أَنَّ مَنْ رَجَا شَيْئًا اسْتَلْزَمَ رَجَاؤُهُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ :
أَحَدُهَا : مَحَبَّةُ مَا يَرْجُوهُ .
الثَّانِي : خَوْفُهُ مِنْ فَوَاتِهِ .
الثَّالِثُ : سَعْيُهُ فِي تَحْصِيلِهِ بِحَسْبِ
الْإِمْكَانِ .
وَأَمَّا رَجَاءٌ لَا يُقَارِنُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ
فَهُوَ مِنْ بَابِ الْأَمَانِيِّ ، وَالرَّجَاءُ شَيْءٌ وَالْأَمَانِيُّ شَيْءٌ
آخَرُ ، فَكُلُّ رَاجٍ خَائِفٌ ، وَالسَّائِرُ عَلَى الطَّرِيقِ إِذَا خَافَ أَسْرَعَ
السَّيْرَ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ
.
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
مَنْ خَافَ أَدْلَجَ ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ
اللَّهِ غَالِيَةٌ ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ .
[ ص: 40
] وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا جَعَلَ الرَّجَاءَ لِأَهْلِ
الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، فَكَذَلِكَ جَعَلَ الْخَوْفَ لِأَهْلِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ
، فَعُلِمَ أَنَّالرَّجَاءَ وَالْخَوْفَ النَّافِعَ مَا اقْتَرَنَ بِهِ الْعَمَلُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ
خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ
وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [ سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
: 57 - 61 ] .
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا
- قَالَتْ : سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقُلْتُ : أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ
الْخَمْرَ ، وَيَزْنُونَ ، وَيَسْرِقُونَ ، فَقَالَ : لَا يَا ابْنَةَ الصِّدِّيقِ
، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ ، وَيَخَافُونَ
أَنْ لَا يُتَقَبَّلَ مِنْهُمْ ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ . وَقَدْ
رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا .
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَ أَهْلَ السَّعَادَةِ
بِالْإِحْسَانِ مَعَ الْخَوْفِ ، وَوَصَفَ الْأَشْقِيَاءَ بِالْإِسَاءَةِ مَعَ
الْأَمْنِ .
خَوْفُ الصَّحَابَةِ مِنَ اللَّهِ
مَنْ تَأَمَّلَ أَحْوَالَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - وَجَدَهُمْ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ ، وَنَحْنُ
جَمِيعًا بَيْنَ التَّقْصِيرِ ، بَلِ التَّفْرِيطِ وَالْأَمْنِ ، فَهَذَا
الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : وَدِدْتُ أَنِّي شَعْرَةٌ
فِي جَنْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ ، ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ .
وَذَكَرَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَمْسِكُ
بِلِسَانِهِ وَيَقُولُ : هَذَا الَّذِي أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ ، وَكَانَ
يَبْكِي كَثِيرًا ، وَيَقُولُ : ابْكُوا ، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكُوا .
وَكَانَ إِذَا قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ كَأَنَّهُ عُودٌ
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
.
وَأَتَى بِطَائِرٍ فَقَلَبَهُ ثُمَّ قَالَ : مَا صِيدَ
مِنْ صَيْدٍ ، وَلَا قُطِعَتْ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرَةٍ ، إِلَّا بِمَا ضَيَّعَتْ
مِنَ التَّسْبِيحِ ، فَلَمَّا احْتَضَرَ ، قَالَ لِعَائِشَةَ : يَا بُنَيَّةُ ، إِنِّي
أَصَبْتُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ هَذِهِ الْعَبَاءَةَ وَهَذِهِ الْحِلَابَ
وَهَذَا الْعَبْدَ ، فَأَسْرِعِي بِهِ إِلَى ابْنِ الْخَطَّابِ ، وَقَالَ :
وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ تُؤْكَلُ وَتُعْضَدُ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : بَلَغَنِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ
: لَيْتَنِي خُضْرَةٌ تَأْكُلُنِي الدَّوَابُّ .
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَرَأَ سُورَةَ
الطُّورِ إِلَى أَنْ بَلَغَ : إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [ سُورَةُ الطُّورِ : 77 ]
فَبَكَى وَاشْتَدَّ بُكَاؤُهُ حَتَّى مَرِضَ وَعَادُوهُ .
[ ص: 41 ] وَقَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ :
وَيْحَكَ ضَعْ خَدِّي عَلَى الْأَرْضِ عَسَاهُ أَنْ يَرْحَمَنِي ، ثُمَّ قَالَ :
وَيْلُ أُمِّي ، إِنْ لَمْ يَغْفِرْ لِي ( ثَلَاثًا ) ، ثُمَّ قُضِيَ .
وَكَانَ يَمُرُّ بِالْآيَةِ فِي وِرْدِهِ بِاللَّيْلِ
فَتُخِيفُهُ ، فَيَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَيَّامًا يُعَادُ ، يَحْسَبُونَهُ
مَرِيضًا ، وَكَانَ فِي وَجْهِهِ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خَطَّانِ أَسْوَدَانِ مِنَ
الْبُكَاءِ .
وَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، مَصَّرَ اللَّهُ بِكَ
الْأَمْصَارَ ، وَفَتَحَ بِكَ الْفُتُوحَ ، وَفَعَلَ ، فَقَالَ : وَدِدْتُ أَنِّي
أَنْجُو لَا أَجْرَ وَلَا وِزْرَ
.
وَهَذَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- كَانَ إِذَا وَقَفَ عَلَى الْقَبْرِ يَبْكِي حَتَّى تُبَلَّ لِحْيَتُهُ ،
وَقَالَ : لَوْ أَنَّنِي بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَا أَدْرِي إِلَى
أَيَّتِهِمَا يُؤْمَرُ بِي ، لَاخْتَرْتُ أَنْ أَكُونَ رَمَادًا قَبْلَ أَنْ
أَعْلَمَ إِلَى أَيَّتِهِمَا أَصِيرُ
.
وَهَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَبُكَاؤُهُ وَخَوْفُهُ ، وَكَانَ يَشْتَدُّ خَوْفُهُ مِنِ اثْنَتَيْنِ :
طُولِ الْأَمَلِ ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ، قَالَ : فَأَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي
الْآخِرَةَ ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ ، أَلَا
وَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ مُدَبِّرَةً ، وَالْآخِرَةَ مُقْبِلَةٌ ،
وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ بَنُونُ ، فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ ، وَلَا
تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ ،
وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ .
وَهَذَا أَبُو الدَّرْدَاءِ كَانَ يَقُولُ : إِنَّ
أَشَدَّ مَا أَخَافُ عَلَى نَفْسِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يُقَالَ لِي : يَا
أَبَا الدَّرْدَاءِ ، قَدْ عَلِمْتَ ، فَكَيْفَ عَمِلْتَ فِيمَا عَلِمْتَ ؟
وَكَانَ يَقُولُ : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَنْتُمْ لَاقُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ
لَمَا أَكَلْتُمْ طَعَامًا عَلَى شَهْوَةٍ ، وَلَا شَرِبْتُمْ شَرَابًا عَلَى
شَهْوَةٍ ، وَلَا دَخَلْتُمْ بَيْتًا تَسْتَظِلُّونَ فِيهِ ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى
الصُّعُدَاتِ تَضْرِبُونَ صُدُورَكُمْ ، وَتَبْكُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلَوَدِدْتُ
أَنِّي شَجَرَةٌ تُعْضَدُ ثُمَّ تُؤْكَلُ .
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْفَلُ
عَيْنَيْهِ مِثْلُ الشِّرَاكِ الْبَالِي مِنَ الدُّمُوعِ .
وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يَقُولُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ
شَجَرَةً تُعْضَدُ ، وَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أُخْلَقْ وَعُرِضَتْ عَلَيْهِ
النَّفَقَةُ ، فَقَالَ : مَا عِنْدَنَا عَنْزٌ نَحْلِبُهَا وَحُمُرٌ نَنْقُلُ
عَلَيْهَا ، وَمُحَرَّرٌ يَخْدِمُنَا ، وَفَضْلُ عَبَاءَةٍ ، وَإِنِّي أَخَافُ الْحِسَابَ
فِيهَا .
وَقَرَأَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ لَيْلَةً سُورَةَ الْجَاثِيَةِ
، فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [
سُورَةُ الْجَاثِيَةِ : 21 ] جَعَلَ يُرَدِّدُهَا وَيَبْكِي حَتَّى أَصْبَحَ .
[ ص: 42 ] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ عَامِرُ بْنُ
الْجَرَّاحِ : وَدِدْتُ أَنِّي كَبْشٌ فَذَبَحَنِي أَهْلِي ، وَأَكَلُوا لَحْمِي
وَحَسُوا مَرَقِي . وَهَذَا بَابٌ يَطُولُ تَتَبُّعُهُ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ : بَابُ خَوْفِ
الْمُؤْمِنِ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ .
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ : مَا عَرَضْتُ قَوْلِي
عَلَى عَمَلِي إِلَّا خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ : أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ
مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ
يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ : إِنَّهُ عَلَى
إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ
.
وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ : مَا خَافَهُ إِلَّا
مُؤْمِنٌ ، وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ لِحُذَيْفَةَ :
أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ سَمَّانِي لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، يَعْنِي فِي
الْمُنَافِقِينَ ، فَيَقُولُ : لَا ، وَلَا أُزَكِّي بَعْدَكَ أَحَدًا .
فَسَمِعْتُ شَيْخَنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ : لَيْسَ
مُرَادُهُ لَا أُبْرِئُ غَيْرَكَ مِنَ النِّفَاقِ ، بَلِ الْمُرَادُ لَا أَفْتَحُ
عَلَى نَفْسِي هَذَا الْبَابَ ، فَكُلُّ مَنْ سَأَلَنِي هَلْ سَمَّانِي لَكَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُزَكِّيهِ .
قُلْتُ : وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي سَأَلَهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ
السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ :
سَبَقَكَ بِهَا عُكَاشَةُ . وَلَمْ يُرِدْ أَنَّ عُكَاشَةَ وَحْدَهُ أَحَقُّ
بِذَلِكَ مِمَّنْ عَدَاهُ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَلَكِنْ لَوْ دَعَا لَقَامَ آخَرُ وَآخَرُ
وَانْفَتَحَ الْبَابُ ، وَرُبَّمَا قَامَ مَنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ أَنْ يَكُونَ
مِنْهُمْ ، فَكَانَ الْإِمْسَاكُ أَوْلَى ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ:ضَرَرُ الذُّنُوبِ فِي الْقَلْبِ كَضَرَرِ
السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِفَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا كُنَّا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ
دَوَاءِ الدَّاءِ الَّذِي إِنِ اسْتَمَرَّ أَفْسَدَ دُنْيَا الْعَبْدِ وَآخِرَتَهُ .
فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ ، أَنَّ الذُّنُوبَ
وَالْمَعَاصِيَ تَضُرُّ ، وَلَا بُدَّ أَنَّ ضَرَرَهَا فِي الْقَلْبِ كَضَرَرِ
السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الضَّرَرِ ،
وَهَلْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرٌّ وَدَاءٌ إِلَّا سَبَبُهُ الذُّنُوبُ
وَالْمَعَاصِي ، فَمَا الَّذِي أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنَ الْجَنَّةِ ، دَارِ
اللَّذَّةِ وَالنَّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ وَالسُّرُورِ إِلَى دَارِ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ
وَالْمَصَائِبِ ؟
وَمَا الَّذِي أَخْرَجَ إِبْلِيسَ مِنْ مَلَكُوتِ
السَّمَاءِ وَطَرَدَهُ وَلَعَنَهُ ، وَمَسَخَ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ فَجَعَلَ
صُورَتَهُ أَقْبَحَ صُورَةٍ وَأَشْنَعَهَا ، وَبَاطِنَهُ أَقْبَحَ مِنْ صُورَتِهِ
وَأَشْنَعَ ، وَبُدِّلَ بِالْقُرْبِ بُعْدًا ، وَبِالرَّحْمَةِ لَعْنَةً ،
وَبِالْجَمَالِ قُبْحًا ، وَبِالْجَنَّةِ نَارًا تَلَظَّى ، وَبِالْإِيمَانِ
كُفْرًا ، وَبِمُوَالَاةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ [ ص: 43 ] أَعْظَمَ عَدَاوَةٍ وَمُشَاقَّةٍ
، وَبِزَجَلِ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّهْلِيلِ زَجَلَ الْكُفْرِ
وَالشِّرْكِ وَالْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْفُحْشِ ، وَبِلِبَاسِ الْإِيمَانِ
لِبَاسَ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، فَهَانَ عَلَى اللَّهِ غَايَةَ
الْهَوَانِ ، وَسَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ غَايَةَ السُّقُوطِ ، وَحَلَّعَلَيْهِ غَضَبُ
الرَّبِّ تَعَالَى فَأَهْوَاهُ ، وَمَقَتَهُ أَكْبَرَ الْمَقْتِ فَأَرْدَاهُ ،
فَصَارَ قَوَّادًا لِكُلِّ فَاسِقٍ وَمُجْرِمٍ ، رَضِيَ لِنَفْسِهِ بِالْقِيَادَةِ
بَعْدَ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَالسِّيَادَةِ ، فَعِيَاذًا بِكَ اللَّهُمَّ مِنْ
مُخَالَفَةِ أَمْرِكَ وَارْتِكَابِ نَهْيِكَ .
وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ أَهْلَ الْأَرْضِ كُلَّهُمْ
حَتَّى عَلَا الْمَاءُ فَوْقَ رَأْسِ الْجِبَالِ ؟ وَمَا الَّذِي سَلَّطَ الرِّيحَ
الْعَقِيمَ عَلَى قَوْمِ عَادٍ حَتَّى أَلْقَتْهُمْ مَوْتَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ
كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٌ ، وَدَمَّرَتْ مَا مَرَّ عَلَيْهِ مِنْ دِيَارِهِمْ
وَحُرُوثِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَدَوَابِّهِمْ ، حَتَّى صَارُوا عِبْرَةً لِلْأُمَمِ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ؟
وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ ثَمُودَ الصَّيْحَةَ
حَتَّى قَطَعَتْ قُلُوبَهُمْ فِي أَجْوَافِهِمْ وَمَاتُوا عَنْ آخِرِهِمْ ؟
وَمَا الَّذِي رَفَعَ قُرَى اللُّوطِيَّةِ حَتَّى
سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نَبِيحَ كِلَابِهِمْ ، ثُمَّ قَلَبَهَا عَلَيْهِمْ ،
فَجَعَلَ عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، فَأَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا ، ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ
حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَمْطَرَهَا عَلَيْهِمْ ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ
مَا لَمْ يَجْمَعْهُ عَلَى أُمَّةٍ غَيْرِهِمْ ، وَلِإِخْوَانِهِمْ أَمْثَالُهَا ،
وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ؟
وَمَا الَّذِي أَرْسَلَ عَلَى قَوْمِ شُعَيْبٍ سَحَابَ
الْعَذَابِ كَالظُّلَلِ ، فَلَمَّا صَارَ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ أَمْطَرَ عَلَيْهِمْ نَارًا
تَلَظَّى ؟
وَمَا الَّذِي أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فِي الْبَحْرِ
، ثُمَّ نَقَلَتْ أَرْوَاحَهُمْ إِلَى جَهَنَّمَ ، فَالْأَجْسَادُ لِلْغَرَقِ ،
وَالْأَرْوَاحُ لِلْحَرْقِ ؟
وَمَا الَّذِي خَسَفَ بِقَارُونَ وَدَارِهِ وَمَالِهِ
وَأَهْلِهِ ؟
وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ الْقُرُونَ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ
بِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ ، وَدَمَّرَهَا تَدْمِيرًا ؟
وَمَا الَّذِي أَهْلَكَ قَوْمَ صَاحِبِ يس بِالصَّيْحَةِ
حَتَّى خَمَدُوا عَنْ آخِرِهِمْ ؟
وَمَا الَّذِي بَعَثَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمًا
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ، وَقَتَلُوا الرِّجَالَ ،
وَسَبُوا الذُّرِّيَّةَ وَالنِّسَاءَ ، وَأَحْرَقُوا الدِّيَارَ ، وَنَهَبُوا الْأَمْوَالَ
، ثُمَّ بَعَثَهُمْ عَلَيْهِمْ مَرَّةً ثَانِيَةً فَأَهْلَكُوا مَا قَدَرُوا
عَلَيْهِ وَتَبَّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ؟
وَمَا الَّذِي سَلَّطَ عَلَيْهِمْ أَنْوَاعَ
الْعُقُوبَاتِ ، مَرَّةً بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَخَرَابِ الْبِلَادِ ،
وَمَرَّةً بِجَوْرِ [ ص: 44 ] الْمُلُوكِ ، وَمَرَّةً بِمَسْخِهِمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ ،
وَآخِرُ ذَلِكَ أَقْسَمَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [ سُورَةُ
الْأَعْرَافِ : 167 ] .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ
مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عُمَرَ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : لَمَّا فُتِحَتْ قُبْرُصُ فُرِّقَ
بَيْنَ أَهْلِهَا ، فَبَكَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَرَأَيْتُ أَبَا
الدَّرْدَاءِ جَالِسًا وَحْدَهُ يَبْكِي ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ مَا
يُبْكِيكَ فِي يَوْمٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ ، فَقَالَ :
وَيْحَكَ يَا جُبَيْرُ ، مَا أَهْوَنُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
إِذَا أَضَاعُوا أَمْرَهُ ، بَيْنَمَا هِيَ أُمَّةٌ قَاهِرَةٌ ظَاهِرَةٌ لَهُمُ
الْمُلْكُ ، تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ فَصَارُوا إِلَى مَا تَرَى .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ : أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ
عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ
: سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ يَقُولُ : أَخْبَرَنِي
مَنْ سَمِعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : لَنْ
يَهْلِكَ النَّاسُ حَتَّى يَعْذِرُوا مِنْ أَنْفُسِهِمْ .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ
قَالَتْ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلِّمَ - يَقُولُ : إِذَا
ظَهَرَتِ الْمَعَاصِي فِي أُمَّتِي عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ ، فَقُلْتُ
: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا فِيهِمْ يَوْمَئِذٍ أُنَاسٌ صَالِحُونَ ؟ قَالَ :
بَلَى ، قُلْتُ : كَيْفَ يُصْنَعُ بِأُولَئِكَ ؟ قَالَ : يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ
النَّاسَ ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ .
وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ تَحْتَ يَدِ اللَّهِ
وَفِي كَنَفِهِ مَا لَمْ يُمَالِئْ قُرَّاؤُهَا أُمَرَاءَهَا ، وَمَا لَمْ يُزَكِّ
صُلَحَاؤُهَا فُجَّارَهَا ، وَمَا لَمْ يُهِنْ خِيَارَهَا أَشْرَارُهَا ، فَإِذَا
هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ رَفَعَ اللَّهُ يَدَهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ جَبَابِرَتُهُمْ
فَسَامُوهُمْ سُوءَالْعَذَابِ ، ثُمَّ ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِالْفَاقَةِ
وَالْفَقْرِ .
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ
بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ .
وَفِيهِ أَيْضًا عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يُوشِكُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمُ
الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ ، كَمَا تَتَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا ،
قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمِنَ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ :
أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ ، تُنْزَعُ
الْمَهَابَةُ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ ، وَيُجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنُ ،
قَالُوا وَمَا الْوَهَنُ ؟ قَالَ : حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهَةُ الْمَوْتِ .
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ : قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ
لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ ، فَقُلْتُ
: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ .
[ ص: 45 ] وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ يَخْتِلُونَ الدُّنْيَا
بِالدِّينِ ، وَيَلْبَسُونَ لِلنَّاسِ مُسُوكَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ ،
أَلْسِنَتُهُمْ أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ ، وَقُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الذِّئَابِ ،
يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَبِي يَغْتَرُّونَ ؟ وَعَلَيَّ يَجْتَرِئُونَ ؟
فَبِي حَلَفْتُ ، لَأَبْعَثَنَّ أُولَئِكَ فِتْنَةً تَدَعُ الْحَلِيمَ فِيهَا
حَيْرَانَ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ جَعْفَرِ
بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ : قَالَ عَلَيٌّ : يَأْتِي عَلَى
النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَبْقَى مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا اسْمُهُ ، وَلَا مِنَ الْقُرْآنِ
إِلَّا رَسْمُهُ ، مَسَاجِدُهُمْ يَوْمَئِذٍ عَامِرَةٌ ، وَهِيَ خَرَابٌ مِنَ
الْهُدَى ، عُلَمَاؤُهُمْ شَرُّ مَنْ تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ ، مِنْهُمْ
خَرَجَتِ الْفِتْنَةُ وَفِيهِمْ تَعُودُ .
وَذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : إِذَا
ظَهَرَ الزِّنَا وَالرِّبَا فِي قَرْيَةٍ أَذِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
بِهَلَاكِهَا .
وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ : إِذَا أَظْهَرَ النَّاسُ
الْعِلْمَ ، وَضَيَّعُوا الْعَمَلَ ، وَتَحَابُّوا بِالْأَلْسُنِ ، وَتَبَاغَضُوا
بِالْقُلُوبِ ، وَتَقَاطَعُوا بِالْأَرْحَامِ ، لَعَنَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
عِنْدَ ذَلِكَ ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ .
وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ
: كُنْتُ عَاشِرَ عَشْرَةِ رَهْطٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ
عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقْبَلَ
عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوَجْهِهِ
فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسُ خِصَالٍ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ
: مَا ظَهَرَتِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ حَتَّى أَعْلَنُوا بِهَا إِلَّا ابْتُلُوا
بِالطَّوَاعِينِ وَالْأَوْجَاعِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ
مَضَوْا ، وَلَا نَقَصَ قَوْمٌ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا ابْتُلُوا
بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ ، وَمَا مَنَعَ قَوْمٌ
زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ فَلَوْلَا الْبَهَائِمُ
لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَا خَفَرَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ،
وَمَا لَمْ تَعْمَلْ أَئِمَّتُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ إِلَّا
جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ
.
وَفِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، كَانَ إِذَا
عَمِلَ الْعَامِلُ فِيهِمْ بِالْخَطِيئَةِ جَاءَهُ النَّاهِي تَعْذِيرًا ، فَإِذَا
كَانَ مِنَ الْغَدِ جَالَسَهُ وَوَاكَلَهُ وَشَارَبَهُ ، كَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُ
عَلَى خَطِيئَةٍ بِالْأَمْسِ ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ذَلِكَ
مِنْهُمْ ، ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ لَعَنَهُمْ عَلَى
لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا
وَكَانُوا يَعْتَدُونَ وَالَّذِي نَفْسُ [ ص: 46 ] مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ ،
وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ
أَطْرًا ، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ بِقُلُوبِ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ ، ثُمَّ
لَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ
.
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
عَمْرٍو الصَّنْعَانِيِّ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ إِلَى يُوشَعَ بْنِ نُونٍ : إِنِّي مُهْلِكٌ
مِنْ قَوْمِكَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِنْ خِيَارِهِمْ ، وَسِتِّينَ أَلْفًا مِنْ
شِرَارِهِمْ ، قَالَ : يَا رَبِّ ، هَؤُلَاءِ الْأَشْرَارُ ، فَمَا
بَالُالْأَخْيَارِ ؟ قَالَ : لَمْ يَغْضَبُوا لِغَضَبِي ، وَكَانُوا
يُؤَاكِلُونَهُمْ وَيُشَارِبُونَهُمْ
.
وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي
عِمْرَانَ قَالَ : بَعَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَلَكَيْنِ إِلَى قَرْيَةٍ ، أَنْ
دَمِّرَاهَا بِمَنْ فِيهَا ، فَوَجَدَا رَجُلًا قَائِمًا يُصَلِّي فِي مَسْجِدٍ ، فَقَالَا
: يَا رَبِّ ، إِنَّ فِيهَا عَبْدَكَ فُلَانًا يُصَلِّي ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ : دَمِّرَاهَا وَدَمِّرَاهُ مَعَهُمْ ، فَإِنَّهُ مَا تَمَعَّرَ وَجْهُهُ
فِيَّ قَطُّ.
وَذَكَرَ الْحُمَيْدِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ
: قَالَ : حَدَّثَنِي سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مِسْعَرٍ : أَنَّ مَلَكًا
أُمِرَ أَنْ يَخْسِفَ بِقَرْيَةٍ ، فَقَالَ : يَا رَبِّ ، إِنَّ فِيهَا فُلَانًا
الْعَابِدَ ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ : أَنْ بِهِ فَابْدَأْ ، فَإِنَّهُ لَمْ
يَتَمَعَّرْ وَجْهُهُ فِيَّ سَاعَةً قَطُّ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ وَهْبِ بْنِ
مُنَبِّهٍ قَالَ : لَمَّا أَصَابَ دَاوُدُ الْخَطِيئَةَ قَالَ : يَا رَبِّ اغْفِرْ
لِي : قَالَ قَدْ غَفَرْتُ لَكَ ، وَأَلْزَمْتُ عَارَهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ،
قَالَ يَا رَبِّ ، كَيْفَ وَأَنْتَ الْحَكَمُ الْعَدْلُ لَا يَظْلِمُ أَحَدًا ،
أَنَا أَعْمَلُ الْخَطِيئَةَ وَتُلْزِمُ عَارَهَا غَيْرِي ، فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَيْهِ ، إِنَّكَ لَمَّا عَمِلْتَ الْخَطِيئَةَ لَمْ يُعَجِّلُوا عَلَيْكَ
بِالْإِنْكَارِ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكٍ : أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ ، هُوَ وَرَجُلٌ آخَرُ ، فَقَالَ لَهَا
الرَّجُلُ : يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ حَدِّثِينَا عَنِ الزَّلْزَلَةِ ، فَقَالَتْ
: إِذَا اسْتَبَاحُوا الزِّنَا ، وَشَرِبُوا الْخَمْرَ ، وَضَرَبُوا بِالْمَعَازِفِ
، غَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي سَمَائِهِ ، فَقَالَ لِلْأَرْضِ تَزَلْزَلِي
بِهِمْ ، فَإِنْ تَابُوا وَنَزَعُوا ، وَإِلَّا هَدَمَهَا عَلَيْهِمْ ، قَالَ :
يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ ، أَعَذَابًا لَهُمْ ؟ قَالَتْ : بَلَى ، مَوْعِظَةً
وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، وَنَكَالًا وَعَذَابًا وَسُخْطًا عَلَى
الْكَافِرِينَ ، فَقَالَ أَنَسٌ : مَا سَمِعْتُ حَدِيثًا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا بِهِ مِنِّي بِهَذَا الْحَدِيثِ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا حَدِيثًا مُرْسَلًا :
إِنَّ الْأَرْضَ تَزَلْزَلَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا ثُمَّ قَالَ : اسْكُنِي ، فَإِنَّهُ
لَمْ يَأْنِ لَكِ بَعْدُ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ رَبَّكُمْ
لَيَسْتَعْتِبُكُمْ فَأَعْتِبُوهُ ، ثُمَّ تَزَلْزَلَتْ بِالنَّاسِ عَلَى عَهْدِ
عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَقَالَ ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ مَا كَانَتْ هَذِهِ
الزَّلْزَلَةُ إِلَّا عَنْ شَيْءٍ أَحْدَثْتُمُوهُ ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ
لَئِنْ عَادَتْ لَا أُسَاكِنُكُمْفِيهَا أَبَدًا .
وَفِي مَنَاقِبِ عُمَرَ لِابْنِ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّ
الْأَرْضَ تَزَلْزَلَتْ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ ، فَضَرَبَ يَدَهُ [ ص: 47 ]
عَلَيْهَا ، وَقَالَ : مَا لَكِ ؟ مَا لَكِ ؟ أَمَا إِنَّهَا لَوْ كَانَتِ
الْقِيَامَةُ حَدَّثَتْ أَخْبَارَهَا ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَلَيْسَ فِيهَا
ذِرَاعٌ وَلَا شِبْرٌ إِلَّا وَهُوَ يَنْطِقُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ صَفِيَّةَ ، قَالَتْ
: زُلْزِلَتِ الْمَدِينَةُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ ، فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ
مَا هَذَا ؟ وَمَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ ، لَئِنْ عَادَتْ لَا أُسَاكِنُكُمْ
فِيهَا .
وَقَالَ كَعْبٌ : إِنَّمَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ إِذَا
عُمِلَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي فَتُرْعِدُ فَرَقًا مِنَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ
أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهَا .
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى
الْأَمْصَارِ : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا الرَّجْفَ شَيْءٌ يُعَاتِبُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ بِهِ الْعِبَادَ ، وَقَدْ كَتَبْتُ إِلَى الْأَمْصَارِ أَنْ
يُخْرِجُوا فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا ، فَمَنْ كَانَ
عِنْدَهُ شَيْءٌ فَلْيَتَصَدَّقْ بِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ : قَدْ أَفْلَحَ
مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [ سُورَةُ الْأَعْلَى : 14 - 15 ] .
وَقُولُوا كَمَا قَالَ آدَمُ : رَبَّنَا ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 23 ] .
وَقُولُوا كَمَا قَالَ نُوحٌ : وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي
وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سُورَةُ هُودٍ : 47 ] .
وَقُولُوا كَمَا قَالَ يُونُسُ : لَا إِلَهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ :
87 ] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ
عَامِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي
رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ
، وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ ، وَتَبِعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَتَرَكُوا
الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، أَنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ بَلَاءً لَا يَرْفَعُهُ
عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عُمَرَ قَالَ : لَقَدْ رَأَيْنَا وَمَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ
مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ .
وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ :
إِذَا ضَنَّ النَّاسُ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ ،
وَتَبَايَعُوا بِالْعِينَةِ ، وَتَرَكُوا الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ،
وَأَخَذُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ بَلَاءً
، فَلَا يَرْفَعُهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُرَاجِعُوا دِينَهُمْ .
[ ص: 48 ] وَقَالَ الْحَسَنُ : إِنَّ الْفِتْنَةَ
وَاللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا عُقُوبَةٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى النَّاسِ .
وَنَظَرَ بَعْضُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى
مَا يَصْنَعُ بِهِمْ بُخْتَنَصَّرُ ، فَقَالَ : بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِينَا
سَلَّطْتَ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَعْرِفُكَ وَلَا يَرْحَمُنَا .
وَقَالَ بُخْتَنَصَّرُ لِدَانْيَالَ : مَا الَّذِي سَلَّطَنِي
عَلَى قَوْمِكَ ؟ قَالَ : عِظَمُ خَطِيئَتِكَ وَظُلْمُ قَوْمِي أَنْفُسَهُمْ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ
بْنِ يَاسِرٍ وَحُذَيْفَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَرَادَ بِالْعِبَادِ نِقْمَةً أَمَاتَ
الْأَطْفَالَ ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ النِّسَاءِ ، فَتَنْزِلُ النِّقْمَةُ ،
وَلَيْسَ فِيهِمْ مَرْحُومٌ .
وَذَكَرَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : قَرَأْتُ فِي
الْحِكْمَةِ : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا اللَّهُ مَالِكُ الْمُلُوكِ
، قُلُوبُ الْمُلُوكِ بِيَدَيَّ ، فَمَنْ أَطَاعَنِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ
رَحْمَةً ، وَمَنْ عَصَانِي جَعَلْتُهُمْ عَلَيْهِ نِقْمَةً ، فَلَا تَشْغَلُوا
أَنْفُسَكُمْ بِسَبِّ الْمُلُوكِ ، وَلَكِنْ تُوبُوا إِلَيَّ أَعْطِفُهُمْ
عَلَيْكُمْ .
وَفِي مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ : إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ
خَيْرًا جَعَلَ أَمْرَهُمْ إِلَى حُلَمَائِهِمْ ، وَفَيَّأَهُمْ عِنْدَ
سُمَحَائِهِمْ ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ شَرًّا جَعَلَ أَمْرَهُمْ إِلَى
سُفَهَائِهِمْ ، وَفَيَّأَهُمْ عِنْدَ بُخَلَائِهِمْ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ قَتَادَةَ
قَالَ : قَالَ مُوسَى : يَا رَبِّ أَنْتَ فِي السَّمَاءِ وَنَحْنُ فِي الْأَرْضِ ،
فَمَا عَلَامَةُ غَضَبِكَ مِنْ رِضَاكَ ؟ قَالَ : إِذَا اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمْ
خِيَارَكُمْ فَهُوَ مِنْ عَلَامَةِ رِضَائِي عَنْكُمْ ، وَإِذَا اسْتَعْمَلْتُ
عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فَهُوَ مِنْ عَلَامَةِ سُخْطِي عَلَيْكُمْ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ
عِيَاضٍ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ إِلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ : إِذَا عَصَانِي
مَنْ يَعْرِفُنِي سَلَّطْتُ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَعْرِفُنِي .
وَذَكَرَ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ بِرَفْعِهِ
: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَبْعَثَ اللَّهُ
أُمَرَاءَ كَذَبَةً ، وَوُزَرَاءَ فَجَرَةً ، وَأَعْوَانًا خَوَنَةً ، وَعُرَفَاءَ
ظَلَمَةً ، وَقُرَّاءَ فَسَقَةً ، سِيمَاهُمْ سِيمَاءُ الرُّهْبَانِ ،
وَقُلُوبُهُمْ أَنْتَنُ مِنَ الْجِيَفِ ، أَهْوَاؤُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ ، فَيَفْتَحُ
اللَّهُ لَهُمْ فِتْنَةً غَبْرَاءَ مُظْلِمَةً فَيَتَهَالَكُونَ فِيهَا ،
وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَيُنْقَضَنَّ الْإِسْلَامُ عُرْوَةً
عُرْوَةً ، حَتَّى لَا يُقَالَ : اللَّهُ اللَّهُ ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ ، أَوْ لِيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
أَشْرَارَكُمْ ، فَيَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ، ثُمَّ يَدْعُو خِيَارُكُمْ
فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ ، لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ
الْمُنْكَرِ ، أَوْ لَيَبْعَثَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مَنْ لَا يَرْحَمُ
صَغِيرَكُمْ ، وَلَا يُوَقِّرُ كَبِيرَكُمْ .
وَفِي مُعْجَمِ الطَّبَرَانِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا طَفَّفَ قَوْمٌ كَيْلًا ، وَلَا بَخَسُوا مِيزَانًا ،
إِلَّا مَنَعَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَطْرَ ، وَمَا ظَهَرَ [ ص: 49 ] فِي
قَوْمٍ الزِّنَا إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ ، وَمَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ
الرِّبَا إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجُنُونَ ، وَلَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ
الْقَتْلُ - يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا - إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
عَدُوَّهُمْ ، وَلَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ عَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ إِلَّا ظَهَرَ فِيهِمُ
الْخَسْفَ ، وَمَا تَرَكَ قَوْمٌ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ
الْمُنْكَرِ إِلَّا لَمْ تُرْفَعْ أَعْمَالُهُمْ وَلَمْ يُسْمَعْ دُعَاؤُهُمْ
وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْأَشْعَثِ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَعِيدٍ بِهِ .
وَفِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ : دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَقَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ أَنْ قَدْ
حَفَزَهُ شَيْءٌ ، فَمَا تَكَلَّمَحَتَّى تَوَضَّأَ ، وَخَرَجَ ، فَلَصِقْتُ
بِالْحُجْرَةِ ، فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ : فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ،
ثُمَّ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكُمْ
: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي
فَلَا أُجِيبُكُمْ ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرُكُمْ ، وَتَسْأَلُونِي
فَلَا أُعْطِيكُمْ .
وَقَالَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ : إِنَّ مِنْ
غَفْلَتِكَ عَنْ نَفْسِكَ ، وَإِعْرَاضِكَ عَنِ اللَّهِ أَنْ تَرَى مَا يُسْخِطُ
اللَّهَ فَتَتَجَاوَزَهُ ، وَلَا تَأْمُرُ فِيهِ ، وَلَا تَنْهَى عَنْهُ ، خَوْفًا
مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا .
وَقَالَ : مَنْ تَرَكَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ ،
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، مَخَافَةً مِنَ الْمَخْلُوقِينَ ، نُزِعَتْ مِنْهُ
الطَّاعَةُ ، وَلَوْ أَمَرَ وَلَدَهُ أَوْ بَعْضَ مَوَالِيهِ لَاسْتَخَفَّ
بِحَقِّهِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ مِنْ
حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ : قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ : يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَتْلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ ، وَإِنَّكُمْ
تَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ
أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [ سُورَةُ
الْمَائِدَةِ :
105 ] .
وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا
عَلَى يَدَيْهِ - وَفِي لَفْظٍ : إِذَا رَأَوُا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ -
أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُاللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْ عِنْدِهِ .
وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي
كَثِيرٍ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِذَا خَفِيَتِ الْخَطِيئَةُ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا صَاحِبَهَا
، وَإِذَا ظَهَرَتْ فَلَمْ تُغَيَّرْ ، ضَرَّتِ الْعَامَّةَ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ
: تُوشِكُ الْقُرَى أَنْ تُخَرِّبَ وَهِيَ عَامِرَةٌ ، قِيلَ وَكَيْفَ تُخَرَّبُ وَهِيَ
عَامِرَةٌ ؟ قَالَ : إِذَا عَلَا فُجَّارُهَا أَبْرَارَهَا ، وَسَادَ
الْقَبِيلَةَمُنَافِقُوهَا .
وَذَكَرَ الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : سَيَظْهَرُ
شِرَارُ أُمَّتِي عَلَى خِيَارِهَا ، حَتَّى يَسْتَخْفِيَ الْمُؤْمِنُ فِيهِمْ
كَمَا يَسْتَخْفِي الْمُنَافِقُ فِينَا الْيَوْمَ .
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ
عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ قَالَ : يَأْتِي زَمَانٌ يَذُوبُ فِيهِ قَلْبُ [ ص: 50 ]
الْمُؤْمِنِ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ ، قِيلَ : مِمَّ ذَاكَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مِمَّا يَرَى مِنَ الْمُنْكَرِ لَا يَسْتَطِيعُ
تَغْيِيرَهُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : مَا مِنْ قَوْمٍ
يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ، وَهُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ ،
فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ
زَيْدٍ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يَقُولُ : يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ ،
فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ ، فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ
بِرَحَاهُ ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ ، فَيَقُولُونَ : أَيْ فُلَانُ
، مَا شَأْنُكَ ؟ أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ
؟ قَالَ : بَلَى ، كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ مَالِكِ بْنِ
دِينَارٍ قَالَ : كَانَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَغْشَى
مَنْزِلَهُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، فَيَعِظُهُمْ وَيُذَكِّرُهُمْ بِأَيَّامِ
اللَّهِ ، فَرَأَى بَعْضَ بَنِيهِ يَوْمًا يَغْمِزُ النِّسَاءَ ، فَقَالَ :
مَهْلًا يَا بُنَيَّ ، مَهْلًا يَا بُنَيَّ فَسَقَطَ مِنْ سَرِيرِهِ ، فَانْقَطَعَ
نُخَاعُهُ ، وَأُسْقِطَتِ امْرَأَتُهُ ، وَقُتِلَ بَنُوهُ ، فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَى نَبِيِّهِمْ : أَنْ أَخْبِرْ فُلَانًا الْخَبَرَ : أَنِّي لَا أُخْرِجُ مِنْ
صُلْبِكَ صِدِّيقًا أَبَدًا ، مَا كَانَ غَضَبُكَ لِي إِلَّا أَنْ قُلْتَ مَهْلًا
يَا بُنَيَّ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ : إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ ، فَإِنَّهُنَّ
يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا ، كَمَثَلِ الْقَوْمِ
نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ
يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ ، حَتَّى
جَمَعُوا سَوَادًا ، وَأَجَّجُوا نَارًا ، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ : إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنَ
الشَّعْرِ ، وَإِنْ كُنَّا لَنَعُدَّهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمُوبِقَاتِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ :
عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ ، فَدَخَلَتِ
النَّارَ ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا ، وَلَا سَقَتْهَا ، وَلَا تَرَكَتْهَا
تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ
.
وَفِي الْحِلْيَةِ لِأَبِي نُعَيْمٍ عَنْ حُذَيْفَةَ
أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ تَرَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ دِينَهُمْ ؟
قَالَ : لَا ، وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا
نُهُوا عَنْ شَيْءٍ رَكِبُوهُ ، حَتَّى انْسَلَخُوا مِنْ دِينِهِمْ كَمَا
يَنْسَلِخُ الرَّجُلُ مِنْ قَمِيصِهِ
.
وَمِنْ هَاهُنَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْمَعَاصِي بَرِيدُ
الْكُفْرِ ، كَمَا أَنَّ الْقُبْلَةَ بَرِيدُ الْجِمَاعِ ، وَالْغِنَاءُ بَرِيدُ
الزِّنَا ، وَالنَّظَرُبَرِيدُ الْعِشْقِ ، وَالْمَرَضُ بَرِيدُ الْمَوْتِ .
وَفِي الْحِلْيَةِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
قَالَ : يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لَا تَأْمَنْ سُوءَ عَاقِبَتِهِ ، وَلَمَا [ ص: 51
] يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَمِلْتَهُ ، قِلَّةُ
حَيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى الْيَمِينِ وَعَلَى الشِّمَالِ - وَأَنْتَ عَلَى
الذَّنْبِ - أَعْظَمُمِنَ الذَّنْبِ ، وَضَحِكُكَ وَأَنْتَ لَا تَدْرِي مَا
اللَّهُ صَانِعٌ بِكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ ، وَفَرَحُكَ بِالذَّنْبِ إِذَا
ظَفِرْتَ بِهِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ ، وَحُزْنُكَ عَلَى الذَّنْبِ إِذَا
فَاتَكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ ، وَخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ
سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلَا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ
اللَّهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ ، وَيْحَكَ هَلْ تَدْرِي مَا كَانَ ذَنْبُ
أَيُّوبَ فَابْتَلَاهُ بِالْبَلَاءِ فِي جَسَدِهِ وَذَهَابِ مَالِهِ ؟ اسْتَغَاثَ
بِهِ مِسْكِينٌ عَلَى ظَالِمٍ يَدْرَؤُهُ عَنْهُ ، فَلَمْ يُعِنْهُ ، وَلَمْ
يَنْهَ الظَّالِمَعَنْ ظُلْمِهِ ، فَابْتَلَاهُ اللَّهُ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ
قَالَ : سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيَّ يَقُولُ : سَمِعْتُ بِلَالَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ
: لَا تَنْظُرْ إِلَى صِغَرِ الْخَطِيئَةِ وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى مَنْ عَصَيْتَ .
وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ : بِقَدْرِ مَا
يَصْغَرُ الذَّنْبُ عِنْدَكَ يَعْظُمُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَبِقَدْرِ مَا يَعْظُمُ
عِنْدَكَ يَصْغَرُ عِنْدَ اللَّهِ
.
وَقِيلَ : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى ، يَا
مُوسَى إِنَّ أَوَّلَ مَنْ مَاتَ مِنْ خَلْقِي إِبْلِيسُ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ
أَوَّلُ مَنْ عَصَانِي ، وَإِنَّمَا أَعُدُّ مَنْ عَصَانِي مِنَ الْأَمْوَاتِ .
وَفِي الْمُسْنَدِ وَجَامِعِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ
أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَ
فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ ، فَإِذَا تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ
قَلْبُهُ ، وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ ، فَذَلِكَ الرَّانُ
الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ : 14 ] .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ .
وَقَالَ حُذَيْفَةُ : إِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا
نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالشَّاةِ
الرَّيْدَاءِ .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ
حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَمَّا بَعْدُ يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، فَإِنَّكُمْ أَهْلٌ لِهَذَا الْأَمْرِ مَا لَمْ تَعْصُوا
اللَّهَ ، فَإِذَا عَصَيْتُمُوهُ بَعَثَ عَلَيْكُمْ مَنْ يَلْحَاكُمْ كَمَا
يُلْحَى هَذَا الْقَضِيبُ بِقَضِيبٍ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ لَحَا قَضِيبَهُ فَإِذَا
هُوَ أَبْيَضُ يَصْلِدُ .
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : عَنْ وَهْبٍ قَالَ
الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ : قَالَ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ :
إِنِّي إِذَا أُطِعْتُ رَضِيتُ ، وَإِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ ، وَلَيْسَ
لِبِرَكَتِي نِهَايَةٌ ، وَإِذَا عُصِيتُ غَضِبْتُ ، وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ ،
وَلَعْنَتِي تَبْلُغُ السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ " .
فَصْلٌ:مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي[ ص: 52 ] وَلِلْمَعَاصِي
مِنَ الْآثَارِ الْقَبِيحَةِ الْمَذْمُومَةِ ، الْمُضِرَّةِ بِالْقَلْبِ
وَالْبَدَنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ .
فَمِنْهَا : حِرْمَانُ الْعِلْمِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ
نُورٌ يَقْذِفُهُ اللَّهُ فِي الْقَلْبِ ، وَالْمَعْصِيَةُ تُطْفِئُ ذَلِكَ
النُّورَ .
وَلَمَّا جَلَسَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ يَدَيْ
مَالِكٍ وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَعْجَبَهُ مَا رَأَى مِنْ وُفُورِ فِطْنَتِهِ ،
وَتَوَقُّدِ ذَكَائِهِ ، وَكَمَالِ فَهْمِهِ ، فَقَالَ : إِنِّي أَرَى اللَّهَ
قَدْ أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا ، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
شَكَوْتُ إِلَى وَكِيعٍ سُوءَ حِفْظِي *** فَأَرْشَدَنِي
إِلَى تَرْكِ الْمَعَاصِي
وَقَالَ اعْلَمْ بِأَنَّ الْعِلْمَ فَضْلٌ *** وَفَضْلُ
اللَّهِ لَا يُؤْتَاهُ عَاصِي
وَمِنْهَا :
حِرْمَانُ الرِّزْقِ ، وَفِي الْمُسْنَدِ : إِنَّ
الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ وَقَدْ تَقَدَّمَ ، وَكَمَا
أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ مَجْلَبَةٌ لِلرِّزْقِ فَتَرْكُ التَّقْوَى مَجْلَبَةٌ
لِلْفَقْرِ ، فَمَا اسْتُجْلِبَ رِزْقُ اللَّهِ بِمِثْلِ تَرْكِ الْمَعَاصِي .
وَمِنْهَا :
وَحْشَةٌ يَجِدُهَا الْعَاصِي فِي قَلْبِهِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ لَا تُوَازِنُهَا وَلَا تُقَارِنُهَا لَذَّةٌ أَصْلًا ، وَلَوِ
اجْتَمَعَتْ لَهُ لَذَّاتُ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لَمْ تَفِ بِتِلْكَ الْوَحْشَةِ
، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَحِسُّ بِهِ إِلَّا مَنْ فِي قَلْبِهِ حَيَاةٌ ، وَمَا لِجُرْحٍ
بِمَيِّتٍ إِيلَامٌ ، فَلَوْ لَمْ تُتْرَكِ الذُّنُوبُ إِلَّا حَذَرًا مِنْ
وُقُوعِ تِلْكَ الْوَحْشَةِ ، لَكَانَ الْعَاقِلُ حَرِيًّا بِتَرْكِهَا .
وَشَكَا رَجُلٌ إِلَى بَعْضِ الْعَارِفِينَ وَحْشَةً
يَجِدُهَا فِي نَفْسِهِ فَقَالَ لَهُ
:
إِذَا كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ فَدَعْهَا
إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ أَمَرُّ مِنْ وَحْشَةِ
الذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ ، فَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَمِنْهَا :
الْوَحْشَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
النَّاسِ ، وَلَاسِيَّمَا أَهْلُ الْخَيْرِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّهُ يَجِدُ وَحْشَةً بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ تِلْكَ الْوَحْشَةُ بَعُدَ مِنْهُمْ وَمِنْ
مُجَالَسَتِهِمْ ، وَحُرِمَ بَرَكَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِمْ ، وَقَرُبَ مِنْ حِزْبِ
الشَّيْطَانِ ، بِقَدْرِ مَا بَعُدَ مِنْ حِزْبِ الرَّحْمَنِ ، وَتَقْوَى هَذِهِ
الْوَحْشَةُ حَتَّى تَسْتَحْكِمَ ، فَتَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ
وَوَلَدِهِ وَأَقَارِبِهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ ، فَتَرَاهُ
مُسْتَوْحِشًا مِنْ نَفْسِهِ.
[ ص: 53 ] وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ وَكِيعٍ حَدَّثَنَا
زَكَرِيَّا عَنْ عَامِرٍ قَالَ : كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ : أَمَّا
بَعْدُ : فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَدَّ حَامِدَهُ
مِنَ النَّاسِ ذَامًّا .
ذَكَرَ أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ : لِيَحْذَرِ امْرُؤٌ أَنْ تَلْعَنَهُ قُلُوبُ
الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ ، ثُمَّ قَالَ : أَتَدْرِي مِمَّ هَذَا ؟ قُلْتُ : لَا
، قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بُغْضَهُ
فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ .
وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ
الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ : أَنَّهُ لَمَّا رَكِبَهُ
الدَّيْنُ اغْتَمَّ لِذَلِكَ ، فَقَالَ : إِنِّي لَأَعْرِفُ هَذَا الْغَمَّ
بِذَنْبٍ أَصَبْتُهُ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
قَدْ لَا يُؤَثِّرُ الذَّنْبُ فِي الْحَالِ
وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ يَغْلَطُ فِيهَا النَّاسُ
فِي أَمْرِ الذَّنْبِ ، وَهِيَ أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ تَأْثِيرَهُ فِي الْحَالِ ،
وَقَدْ يَتَأَخَّرُ تَأْثِيرُهُ فَيُنْسَى ، وَيَظُنُّ الْعَبْدُ أَنَّهُ لَا يُغَبِّرُ
بَعْدَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ :
إِذَا لَمْ يُغَبِّرْ حَائِطٌ فِي وُقُوعِهِ فَلَيْسَ
لَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ غُبَارُ
وَسُبْحَانَ اللَّهِ ! مَاذَا أَهْلَكَتْ هَذِهِ
النُّكْتَةُ مِنَ الْخَلْقِ ؟ وَكَمْ أَزَالَتْ غُبَارَ نِعْمَةٍ ؟ وَكَمْ
جَلَبَتْ مِنْ نِقْمَةٍ ؟ وَمَا أَكْثَرَ الْمُغْتَرِّينَ بِهَا الْعُلَمَاءِ
وَالْفُضَلَاءِ ، فَضْلًا عَنِ الْجُهَّالِ ، وَلَمْ يَعْلَمِ الْمُغْتَرُّ أَنَّ
الذَّنْبَ يَنْقَضُّ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ ، كَمَا يَنْقَضُّ السُّمُّ ، وَكَمَا يَنْقَضُّ
الْجُرْحُ الْمُنْدَمِلُ عَلَى الْغِشِّ وَالدَّغَلِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي
الدَّرْدَاءِ : اعْبُدُوا اللَّهَ كَأَنَّكُمْ تَرَوْنَهُ ، وَعُدُّوا
أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْمَوْتَى ، وَاعْلَمُوا أَنَّ قَلِيلًا يُغْنِيكُمْ ، خَيْرٌ
مِنْ كَثِيرٍ يُلْهِيكُمْ ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْبِرَّ لَا يَبْلَى ، وَأَنَّ
الْإِثْمَ لَا يُنْسَى .
وَنَظَرَ بَعْضُ الْعُبَّادِ إِلَى صَبِيٍّ ،
فَتَأَمَّلَ مَحَاسِنَهُ ، فَأُتِيَ فِي مَنَامِهِ وَقِيلَ لَهُ : لَتَجِدَنَّ
غِبَّهَا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً
.
هَذَا مَعَ أَنَّ لِلذَّنْبِ نَقْدًا مُعَجَّلًا لَا
يَتَأَخَّرُ عَنْهُ ، قَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ : إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ
فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّتُهُ .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ عَجِبْتُ مِنْ
ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ لَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ ،
ثُمَّ هُوَ يُشْمِتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ لَهُ ، قِيلَ : وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ يَعْصِي
اللَّهَ وَيَشْمَتُ بِهِ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ .
وَقَالَ ذُو النُّونِ : مَنْ خَانَ اللَّهَ فِي السِّرِّ
هَتَكَ اللَّهُ سِتْرَهُ فِي الْعَلَانِيَةِ .
[ ص: 54 ] وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنِّي لَأَعْصِي
اللَّهَ فَأَرَى ذَلِكَ فِي خُلُقِ دَابَّتِي ، وَامْرَأَتِي .
وَمِنْهَا :
تَعْسِيرُ أُمُورِهِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَتَوَجَّهُ
لِأَمْرٍ إِلَّا يَجِدُهُ مُغْلَقًا دُونَهُ أَوْ مُتَعَسِّرًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا
كَمَا أَنَّ مَنْ تَلَقَّى اللَّهَ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا ، فَمَنْ عَطَّلَ
التَّقْوَى جَعَلَ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ عُسْرًا ، وَيَا لَلَّهِ الْعَجَبُ! كَيْفَ
يَجِدُ الْعَبْدُ أَبْوَابَ الْخَيْرِ وَالْمَصَالِحِ مَسْدُودَةً عَنْهُ
وَطُرُقَهَا مُعَسَّرَةً عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أُتِيَ ؟
وَمِنْهَا : ظُلْمَةٌ يَجِدُهَا فِي قَلْبِهِ حَقِيقَةً
يَحِسُّ بِهَا كَمَا يَحِسُّ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ الْبَهِيمِ إِذَا ادْلَهَمَّ ،
فَتَصِيرُ ظُلْمَةُ الْمَعْصِيَةِ لِقَلْبِهِ كَالظُّلْمَةِ الْحِسِّيَّةِ
لِبَصَرِهِ ، فَإِنَّ الطَّاعَةَ نُورٌ ، وَالْمَعْصِيَةَ ظُلْمَةٌ ، وَكُلَّمَا
قَوِيَتِ الظُّلْمَةُ ازْدَادَتْ حَيْرَتُهُ ، حَتَّى يَقَعَ فِي الْبِدَعِ
وَالضَّلَالَاتِ وَالْأُمُورِ الْمُهْلِكَةِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ ، كَأَعْمَى
أُخْرِجَ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ يَمْشِي وَحْدَهُ ، وَتَقْوَى هَذِهِ الظُّلْمَةُ
حَتَّى تَظْهَرَ فِي الْعَيْنِ ، ثُمَّ تَقْوَى حَتَّى تَعْلُوَ الْوَجْهَ ، وَتَصِيرُ
سَوَادًا فِي الْوَجْهِ حَتَّى يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ
لِلْحَسَنَةِ ضِيَاءً فِي الْوَجْهِ ، وَنُورًا فِي الْقَلْبِ ، وَسَعَةً فِي
الرِّزْقِ ، وَقُوَّةً فِي الْبَدَنِ ، وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ ،
وَإِنَّلِلسَّيِّئَةِ سَوَادًا فِي الْوَجْهِ ، وَظُلْمَةً فِي الْقَبْرِ
وَالْقَلْبِ ، وَوَهْنًا فِي الْبَدَنِ ، وَنَقْصًا فِي الرِّزْقِ ، وَبُغْضَةً
فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ .
وَمِنْهَا أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُوهِنُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ
، أَمَّا وَهْنُهَا لِلْقَلْبِ فَأَمْرٌ ظَاهِرٌ ، بَلْ لَا تَزَالُ تُوهِنُهُ
حَتَّى تُزِيلَ حَيَاتَهُ بِالْكُلِّيَّةِ .
وَأَمَّا وَهْنُهَا لِلْبَدَنِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ
قُوَّتُهُ مِنْ قَلْبِهِ ، وَكُلَّمَا قَوِيَ قَلْبُهُ قَوِيَ بَدَنُهُ ، وَأَمَّا
الْفَاجِرُ فَإِنَّهُ - وَإِنْ كَانَ قَوِيَّ الْبَدَنِ - فَهُوَ أَضْعَفُ شَيْءٍ عِنْدَ
الْحَاجَةِ ، فَتَخُونُهُ قُوَّتُهُ عِنْدَ أَحْوَجِ مَا يَكُونُ إِلَى نَفْسِهِ
فَتَأَمَّلْ قُوَّةَ أَبْدَانِ فَارِسَ وَالرُّومِ ، كَيْفَ خَانَتْهُمْ ، أَحْوَجَ
مَا كَانُوا إِلَيْهَا ، وَقَهَرَهُمْ أَهْلُ الْإِيمَانِ بِقُوَّةِ أَبْدَانِهِمْ
وَقُلُوبِهِمْ ؟
وَمِنْهَا
: حِرْمَانُ الطَّاعَةِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلذَّنْبِ
عُقُوبَةٌ إِلَّا أَنْ يَصُدَّ عَنْ طَاعَةٍ تَكُونُ بَدَلَهُ ، وَيَقْطَعَ
طَرِيقَ طَاعَةٍ أُخْرَى ، فَيَنْقَطِعَ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَرِيقٌ ثَالِثَةٌ ،
ثُمَّ رَابِعَةٌ ، وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَيَنْقَطِعُ عَلَيْهِ بِالذَّنْبِ طَاعَاتٌ
كَثِيرَةٌ ، كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا
، وَهَذَا كَرَجُلٍ أَكَلَ أَكْلَةً أَوْجَبَتْ لَهُ مِرْضَةً طَوِيلَةً
مَنَعَتْهُ مِنْ عِدَّةِ أَكَلَاتِ أَطْيَبَ مِنْهَا ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
طُولُ الْعُمُرِ وَقِصَرُهُ
وَمِنْهَا
: أَنَّ الْمَعَاصِيَ تُقَصِّرُ الْعُمُرَ وَتَمْحَقُ
بَرَكَتَهُ وَلَا بُدَّ ، فَإِنَّ الْبِرَّ كَمَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ ،
فَالْفُجُورُ يُقَصِّرُ الْعُمُرَ
.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
[ ص: 55 ] فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : نُقْصَانُ عُمُرِ
الْعَاصِي هُوَ ذَهَابُ بَرَكَةِ عُمُرِهِ وَمَحْقُهَا عَلَيْهِ ، وَهَذَا حَقٌّ ،
وَهُوَ بَعْضُ تَأْثِيرِ الْمَعَاصِي
.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلْ تُنْقِصُهُ حَقِيقَةً ،
كَمَا تُنْقِصُ الرِّزْقَ ، فَجَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْبَرَكَةِ فِي
الرِّزْقِ أَسْبَابًا كَثِيرَةً تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ ، وَلِلْبَرَكَةِ فِي
الْعُمُرِ أَسْبَابًا تُكَثِّرُهُ وَتَزِيدُهُ .
قَالُوا وَلَا تُمْنَعُ زِيَادَةُ الْعُمُرِ بِأَسْبَابٍ
كَمَا يُنْقَصُ بِأَسْبَابٍ ، فَالْأَرْزَاقُ وَالْآجَالُ ، وَالسَّعَادَةُ
وَالشَّقَاوَةُ ، وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرُ ، وَإِنْ
كَانَتْ بِقَضَاءِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ ، فَهُوَ يَقْضِي مَا يَشَاءُ بِأَسْبَابٍ
جَعَلَهَا مُوجِبَةً لِمُسَبَّبَاتِهَا مُقْتَضِيَةً لَهَا .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى : تَأْثِيرُ الْمَعَاصِي
فِي مَحْقِ الْعُمُرِ إِنَّمَا هُوَ بِأَنَّ حَقِيقَةَ الْحَيَاةِ هِيَ حَيَاةُ
الْقَلْبِ ، وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْكَافِرَ مَيِّتًا غَيْرَ
حَيٍّ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى ، أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ [ سُورَةُ النَّحْلِ :
21 ] .
فَالْحَيَاةُ فِي الْحَقِيقَةِ حَيَاةُ الْقَلْبِ ،
وَعُمُرُ الْإِنْسَانِ مُدَّةُ حَيَّاتِهِ فَلَيْسَ عُمُرُهُ إِلَّا أَوْقَاتَ
حَيَاتِهِ بِاللَّهِ ، فَتِلْكَ سَاعَاتُ عُمُرِهِ ، فَالْبِرُّ وَالتَّقْوَى
وَالطَّاعَةُ تَزِيدُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ عُمُرِهِ ،
وَلَا عُمُرَ لَهُ سِوَاهَا .
وَبِالْجُمْلَةِ ، فَالْعَبْدُ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ
اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاتِهِ
الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ يَقُولُ : يَالَيْتَنِي
قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [ سُورَةُ الْفَجْرِ : 24 ] .
فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ
تَطَلُّعٌ إِلَى مَصَالِحِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ أَوْ لَا ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ فَقَدْ ضَاعَ عَلَيْهِ عُمُرُهُ كُلُّهُ
، وَذَهَبَتْ حَيَاتُهُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَطَلُّعٌ إِلَى ذَلِكَ
طَالَتْ عَلَيْهِ الطَّرِيقُ بِسَبَبِ الْعَوَائِقِ ، وَتَعَسَّرَتْ عَلَيْهِ
أَسْبَابُ الْخَيْرِ بِحَسْبِ اشْتِغَالِهِ بِأَضْدَادِهَا ، وَذَلِكَ نُقْصَانٌ
حَقِيقِيٌّ مِنْ عُمُرِهِ .
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عُمُرَ الْإِنْسَانِ
مُدَّةُ حَيَّاتِهِ وَلَا حَيَاةَ لَهُ إِلَّا بِإِقْبَالِهِ عَلَى رَبِّهِ ،
وَالتَّنَعُّمِ بِحُبِّهِ وَذِكْرِهِ ، وَإِيثَارِ مَرْضَاتِهِ .
فَصْلٌ: تَوَالُدُ الْمَعَاصِيوَمِنْهَا أَنَّ
الْمَعَاصِيَ تَزْرَعُ أَمْثَالَهَا ، وَتُولِدُ بَعْضَهَا بَعْضًا ، حَتَّى
يَعِزَّ عَلَى الْعَبْدِ مُفَارَقَتُهَا وَالْخُرُوجُ مِنْهَا ، كَمَا قَالَ
بَعْضُ السَّلَفِ : إِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا ،
وَإِنَّ مِنْ ثَوَابِ [ ص: 56 ] الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا ، فَالْعَبْدُ
إِذَا عَمِلَ حَسَنَةً قَالَتْ أُخْرَى إِلَى جَنْبِهَا : اعْمَلْنِي أَيْضًا ، فَإِذَا
عَمِلَهَا ، قَالَتِ الثَّالِثَةُ كَذَلِكَ وَهَلُمَّ جَرًّا ، فَتَضَاعَفُ
الرِّبْحُ ، وَتَزَايَدَتِ الْحَسَنَاتُ .
وَكَذَلِكَ كَانَتِ السَّيِّئَاتُ أَيْضًا ، حَتَّى
تَصِيرَ الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي هَيْئَاتٍ رَاسِخَةً ، وَصِفَاتٍ لَازِمَةً ،
وَمَلَكَاتٍ ثَابِتَةً ، فَلَوْ عَطَّلَ الْمُحْسِنُ الطَّاعَةَ لَضَاقَتْ
عَلَيْهِ نَفْسُهُ ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، وَأَحَسَّ
مِنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ كَالْحُوتِ إِذَا فَارَقَ الْمَاءَ ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا
، فَتَسْكُنَ نَفْسُهُ ، وَتَقَرَّ عَيْنُهُ .
وَلَوْ عَطَّلَ الْمُجْرِمُ الْمَعْصِيَةَ وَأَقْبَلَ
عَلَى الطَّاعَةِ ؛ لَضَاقَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ وَضَاقَ صَدْرُهُ ، وَأَعْيَتْ
عَلَيْهِ مَذَاهِبُهُ ، حَتَّى يُعَاوِدَهَا ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ
الْفُسَّاقِ لَيُوَاقِعُ الْمَعْصِيَةَ مِنْ غَيْرِ لَذَّةٍ يَجِدُهَا ، وَلَا
دَاعِيَةٍ إِلَيْهَا ، إِلَّا بِمَا يَجِدُ مِنَ الْأَلَمِ بِمُفَارَقَتِهَا .
كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ شَيْخُ الْقَوْمِ الْحَسَنُ بْنُ
هَانِئٍ حَيْثُ يَقُولُ :
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ *** وَأُخْرَى
تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وَقَالَ الْآخَرُ :
فَكَانَتْ دَوَائِي وَهْيَ دَائِي بِعَيْنِهِ *** كَمَا
يَتَدَاوَى شَارِبُ الْخَمْرِ بِالْخَمْرِ
وَلَا يَزَالُ الْعَبْدُ يُعَانِي الطَّاعَةَ
وَيَأْلَفُهَا وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بِرَحْمَتِهِ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ تَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا ، وَتُحَرِّضُهُ
عَلَيْهَا ، وَتُزْعِجُهُ عَنْ فِرَاشِهِ وَمَجْلِسِهِ إِلَيْهَا .
وَلَا يَزَالُ يَأْلَفُ الْمَعَاصِيَ وَيُحِبُّهَا وَيُؤْثِرُهَا
، حَتَّى يُرْسِلَ اللَّهُ إِلَيْهِ الشَّيَاطِينَ ، فَتَؤُزُّهُ إِلَيْهَا أَزًّا .
فَالْأَوَّلُ قَوِيٌّ جَنَّدَ الطَّاعَةَ بِالْمَدَدِ ،
فَكَانُوا مِنْ أَكْبَرِ أَعْوَانِهِ ، وَهَذَا قَوِيٌّ جَنَّدَ الْمَعْصِيَةَ
بِالْمَدَدِ فَكَانُوا أَعْوَانًا عَلَيْهِ .
فَصْلٌ:الْمَعْصِيَةُ تُضْعِفُ إِرَادَةَ
الْخَيْرِوَمِنْهَا : - وَهُوَ مِنْ أَخْوَفِهَا عَلَى الْعَبْدِ - أَنَّهَا
تُضْعِفُ الْقَلْبَ عَنْ إِرَادَتِهِ ، فَتُقَوِّي إِرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ ،
وَتُضْعِفُ إِرَادَةَ التَّوْبَةِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، إِلَى أَنْ تَنْسَلِخَ مِنْ
قَلْبِهِ إِرَادَةُ التَّوْبَةِ بِالْكُلِّيَّةِ ، فَلَوْ مَاتَ نِصْفُهُ لَمَا
تَابَ إِلَى اللَّهِ ، فَيَأْتِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَوْبَةِ الْكَذَّابِينَ
بِاللِّسَانِ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ ، وَقَلْبُهُ مَعْقُودٌ بِالْمَعْصِيَةِ ، مُصِرٌّ عَلَيْهَا
، عَازِمٌ عَلَى مُوَاقَعَتِهَا مَتَى أَمْكَنَهُ وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ
الْأَمْرَاضِ وَأَقْرَبِهَا إِلَى الْهَلَاكِ
فَصْلٌ: إِلْفُ الْمَعْصِيَةِ[ ص: 57 ]
وَمِنْهَا :
أَنَّهُ يَنْسَلِخُ مِنَ الْقَلْبِ اسْتِقْبَاحُهَا ،
فَتَصِيرُ لَهُ عَادَةً ، فَلَا يَسْتَقْبِحُ مِنْ نَفْسِهِ رُؤْيَةَ النَّاسِ
لَهُ ، وَلَا كَلَامَهُمْ فِيهِ
.
وَهَذَا عِنْدَ أَرْبَابِ الْفُسُوقِ هُوَ غَايَةُ
التَّهَتُّكِ وَتَمَامُ اللَّذَّةِ ، حَتَّى يَفْتَخِرَ أَحَدُهُمْ بِالْمَعْصِيَةِ
، وَيُحَدِّثَ بِهَا مَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَمِلَهَا ، فَيَقُولُ : يَا
فُلَانُ ، عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا
.
وَهَذَا الضَّرْبُ مِنَ النَّاسِ لَا يُعَافَوْنَ ،
وَتُسَدُّ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ التَّوْبَةِ ، وَتُغْلَقُ عَنْهُمْ أَبْوَابُهَا فِي
الْغَالِبِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلُّ
أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرُونَ ، وَإِنَّ مِنَ الْإِجْهَارِ أَنْ يَسْتُرَ
اللَّهُ عَلَى الْعَبْدِ ثُمَّ يُصْبِحُ يَفْضَحُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ : يَا
فُلَانُ عَمِلْتُ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا ، فَهَتَكَ نَفْسَهُ ،
وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ
.
الْمَعَاصِي مَوَارِيثُ
وَمِنْهَا أَنَّ كُلَّ مَعْصِيَةٍ مِنَ الْمَعَاصِي
فَهِيَ مِيرَاثٌ عَنْ أُمِّةٍ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ .
فَاللُّوطِيَّةُ : مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ .
وَأَخْذُ الْحَقِّ بِالزَّائِدِ وَدَفْعُهُ بِالنَّاقِصِ
، مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ
.
وَالْعُلُوُّ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، مِيرَاثٌ
عَنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ .
وَالتَّكَبُّرُ وَالتَّجَبُّرُ مِيرَاثٌ عَنْ قَوْمِ
هُودٍ .
فَالْعَاصِي لَابِسٌ ثِيَابَ بَعْضِ هَذِهِ الْأُمَمِ ،
وَهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ .
وَقَدْ رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ
الزُّهْدِ لِأَبِيهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ : أَوْحَى اللَّهُ إِلَى
نَبِيٍّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ قُلْ لِقَوْمِكَ : لَا
يَدْخُلُوا مَدَاخِلَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَلْبَسُوا مَلَابِسَ أَعْدَائِي وَلَا يَرْكَبُوا
مَرَاكِبَ أَعْدَائِي ، وَلَا يَطْعَمُوا مَطَاعِمَ أَعْدَائِي ، فَيَكُونُوا
أَعْدَائِي كَمَا هُمْ أَعْدَائِي
.
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : بُعِثْتُ
بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ الذِّلَّةُ
وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ
مِنْهُمْ .
فَصْلٌ: هَوَانُ الْعَاصِي عَلَى رَبِّهِ[ ص: 58 ]
وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَعْصِيَةَ سَبَبٌ لِهَوَانِ
الْعَبْدِ عَلَى رَبِّهِ وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِهِ .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : هَانُوا عَلَيْهِ
فَعَصَوْهُ ، وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ ، وَإِذَا هَانَ الْعَبْدُ
عَلَى اللَّهِ لَمْ يُكْرِمْهُ أَحَدٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ
يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ] وَإِنْ
عَظَّمَهُمُ النَّاسُ فِي الظَّاهِرِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِمْ أَوْ خَوْفًا مِنْ شَرِّهِمْ
، فَهُمْ فِي قُلُوبِهِمْ أَحْقَرُ شَيْءٍ وَأَهْوَنُهُ .
هَوَانُ الْمَعَاصِي عَلَى الْمُصِرِّينَ
وَمِنْهَا :
أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ يَرْتَكِبُ الذَّنْبَ
حَتَّى يَهُونَ عَلَيْهِ وَيَصْغُرَ فِي قَلْبِهِ ، وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْهَلَاكِ
، فَإِنَّ الذَّنَبَ كُلَّمَا صَغُرَ فِي عَيْنِ الْعَبْدِ عَظُمَ عِنْدَ اللَّهِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
قَالَ : إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ
أَنْ يَقَعَ ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى
أَنْفِهِ ، فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ .
فَصْلٌ:شُؤْمُ الذُّنُوبوَمِنْهَا : أَنَّ غَيْرَهُ مِنَ
النَّاسِ وَالدَّوَابِّ يَعُودُ عَلَيْهِ شُؤْمُ ذَنْبِهِ ، فَيَحْتَرِقُ هُوَ
وَغَيْرُهُ بِشُؤْمِ الذُّنُوبِ وَالظُّلْمِ .قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إِنَّ
الْحُبَارَى لَتَمُوتَ فِي وَكْرِهَا مِنْ ظُلْمِ الظَّالِمِ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ : إِنَّ الْبَهَائِمَ تَلْعَنُ عُصَاةَ
بَنِي آدَمَ إِذَا اشْتَدَّتِ السَّنَةُ ، وَأُمْسِكَ الْمَطَرُ ، وَتَقُولُ :
هَذَا بِشُؤْمِ مَعْصِيَةِ ابْنِ آدَمَ .
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا حَتَّى
الْخَنَافِسُ وَالْعَقَارِبُ ، يَقُولُونَ : مُنِعْنَا الْقَطْرَ بِذُنُوبِ بَنِي
آدَمَ .فَلَا يَكْفِيهِ عِقَابُ ذَنْبِهِ ، حَتَّى يَلْعَنَهُ مَنْ لَا ذَنْبَ
لَهُ .
فَصْلٌ: الْمَعْصِيَةُ تُورِثُ الذُّلَّ[ ص: 59 ]
وَمِنْهَا : أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تُورِثُ الذُّلَّ وَلَا بُدَّ ؛ فَإِنَّ الْعِزَّ
كُلَّ الْعِزِّ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ تَعَالَى : مَنْ كَانَ
يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [ سُورَةُ فَاطِرٍ : 10 ] أَيْ
فَلْيَطْلُبْهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُهَا إِلَّا فِي طَاعَةِ
اللَّهِ
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ بَعْضِ السَّلَفِ : اللَّهُمَّ
أَعِزَّنِي بِطَاعَتِكَ وَلَا تُذِلَّنِي بِمَعْصِيَتِكَ .
قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ : إِنَّهُمْ وَإِنْ
طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ ، إِنَّ ذُلَّ
الْمَعْصِيَةِ لَا يُفَارِقُ قُلُوبَهُمْ ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّ
مَنْ عَصَاهُ .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ :
رَأَيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ الْقُلُوبَ *** وَقَدْ
يُورِثُ الذُّلَّ إِدْمَانُهَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلُوبِ *** وَخَيْرٌ
لِنَفْسِكَ عِصْيَانُهَا
وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلَّا الْمُلُوكُ ***
وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُفْسِدُ الْعَقْلَوَمِنْهَا : أَنَّ
الْمَعَاصِيَ تُفْسِدُ الْعَقْلَ ، فَإِنَّ لِلْعَقْلِ نُورًا ، وَالْمَعْصِيَةُ
تُطْفِئُ نُورَ الْعَقْلِ وَلَا بُدَّ ، وَإِذَا طُفِئَ نُورُهُ ضَعُفَ وَنَقَصَ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : مَا عَصَى اللَّهَ أَحَدٌ
حَتَّى يَغِيبَ عَقْلُهُ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ حَضَرَ عَقْلُهُ لَحَجَزَهُ
عَنِ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ فِي قَبْضَةِ الرَّبِّ تَعَالَى ، أَوْ تَحْتَ قَهْرِهِ
، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ ، وَفِي دَارِهِ عَلَى بِسَاطِهِ وَمَلَائِكَتُهُ
شُهُودٌ عَلَيْهِ نَاظِرُونَ إِلَيْهِ ، وَوَاعِظُ الْقُرْآنِ يَنْهَاهُ ،
وَوَاعِظُ الْمَوْتِ يَنْهَاهُ ، وَوَاعِظُ النَّارِ يَنْهَاهُ ، وَالَّذِي
يَفُوتُهُ بِالْمَعْصِيَةِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَضْعَافُ مَا
يَحْصُلُ لَهُ مِنَ السُّرُورِ وَاللَّذَّةِ بِهَا ، فَهَلْ يُقْدِمُ عَلَى
الِاسْتِهَانَةِ بِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ ذُو عَقْلٍ سَلِيمٍ ؟
فَصْلٌ:
الذُّنُوبُ تَطْبَعُ عَلَى الْقُلُوبِ[ ص: 60 ]
وَمِنْهَا : أَنَّ الذُّنُوبَ إِذَا تَكَاثَرَتْ طُبِعَ عَلَى قَلْبِ صَاحِبِهَا ،
فَكَانَ مِنَ الْغَافِلِينَ .
كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى :
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سُورَةُ
الْمُطَفِّفِينَ : 14 ] ، قَالَ : هُوَ الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ : هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ ،
حَتَّى يُعْمِيَ الْقَلْبَ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : لَمَّا كَثُرَتْ ذُنُوبُهُمْ
وَمَعَاصِيهِمْ أَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ .
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْقَلْبَ يَصْدَأُ مِنَ
الْمَعْصِيَةِ ، فَإِذَا زَادَتْ غَلَبَ الصَّدَأُ حَتَّى يَصِيرَ رَانًا ، ثُمَّ
يَغْلِبُ حَتَّى يَصِيرَ طَبْعًا وَقُفْلًا وَخَتْمًا ، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ فِي
غِشَاوَةٍ وَغِلَافٍ ، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْهُدَى وَالْبَصِيرَةِ
انْعَكَسَ فَصَارَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ ، فَحِينَئِذٍ يَتَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ
وَيَسُوقُهُ حَيْثُ أَرَادَ .
فَصْلٌ: الذُّنُوبُ تُدْخِلُ الْعَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَمِنْهَا : أَنَّ
الذُّنُوبَ تُدْخِلُ الْعَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَعَنَ عَلَى مَعَاصِي وَالَّتِي غَيْرُهَا
أَكْبَرُ مِنْهَا ، فَهِيَ أَوْلَى بِدُخُولِ فَاعِلِهَا تَحْتَ اللَّعْنَةِ .
فَلَعَنَ الْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ ،
وَالْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ ، وَالنَّامِصَةَ وَالْمُتَنَمِّصَةَ ،
وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَةَ
.
وَلَعَنَ آكِلَ الرِّبَا وَمُؤْكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ .
وَلَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ .
وَلَعَنَ السَّارِقَ .
وَلَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ وَسَاقِيهَا وَعَاصِرَهَا
وَمُعْتَصِرَهَا ، وَبَائِعَهَا وَمُشْتَرِيهَا ، وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ
إِلَيْهِ .
وَلَعَنَ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ وَهِيَ
أَعْلَامُهَا وَحُدُودُهَا .
وَلَعَنَ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ .
وَلَعَنَ مَنِ اتَّخَذَ شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا
يَرْمِيهِ بِسَهْمٍ .
وَلَعَنَ الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالْمُتَرَجِّلَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
.
[ ص: 61 ] وَلَعَنَ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ .
وَلَعَنَ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا .
وَلَعَنَ الْمُصَوِّرِينَ .
وَلَعَنَ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ .
وَلَعَنَ مَنْ سَبَّ أَبَاهُ وَأُمَّهُ .
وَلَعَنَ مَنْ كَمِهَ أَعْمًى عَنِ الطَّرِيقِ .
وَلَعَنَ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً .
وَلَعَنَ مَنْ وَسَمَ دَابَّةً فِي وَجْهِهَا .
وَلَعَنَ مَنْ ضَارَّ مُسْلِمًا أَوْ مَكَرَ بِهِ .
وَلَعَنَ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ وَالْمُتَّخِذِينَ
عَلَيْهَا الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ
.
وَلَعَنَ مَنْ أَفْسَدَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا ،
أَوْ مَمْلُوكًا عَلَى سَيِّدِهِ
.
وَلَعَنَ مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا .
وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ بَاتَتْ مُهَاجِرَةً لِفِرَاشِ
زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تُصْبِحَ .
وَلَعَنَ مَنِ انْتَسَبَ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ .
وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ
بِحَدِيدَةٍ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَلْعَنُهُ .
وَلَعَنَ مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ .
مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ
وَقَدْ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ
وَقَطَعَ رَحِمَهُ ، وَآذَاهُ وَآذَى رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَلَعَنَ مَنْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى
.
وَلَعَنَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ بِالْفَاحِشَةِ .
وَلَعَنَ مَنْ جَعَلَ سَبِيلَ الْكَافِرِ أَهْدَى مِنْ
سَبِيلِ الْمُسْلِمِ .
وَلَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ
لِبْسَةَ الرَّجُلِ .
وَلَعَنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي وَالرَّائِشَ ،
وَهُوَ : الْوَاسِطَةُ فِي الرِّشْوَةِ
.
وَلَعَنَ عَلَى أَشْيَاءَ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ .
فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِ ذَلِكَ إِلَّا رِضَاءُ
فَاعِلِهِ بِأَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَلْعَنُهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَلَائِكَتُهُ
لَكَانَ فِي ذَلِكَ مَا يَدْعُو إِلَى تَرْكِهِ .
فَصْلٌ: حِرْمَانُ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .[ ص: 62 ] وَمِنْهَا : حِرْمَانُ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعْوَةِ الْمَلَائِكَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
، وَقَالَ تَعَالَى : الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ
بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّشَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا
وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ
وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَقِهِمُ
السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ
هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 7 - 9 ] .
فَهَذَا دُعَاءُ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ
التَّائِبِينَ الْمُتَّبِعِينَ لِكِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ الَّذِينَ لَا
سَبِيلَ لَهُمْ غَيْرُهُمَا ، فَلَا يَطْمَعُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ بِإِجَابَةِ هَذِهِ
الدَّعْوَةِ ، إِذْ لَمْ يَتَّصِفْ بِصِفَاتِ الْمَدْعُوِّ لَهُ بِهَا ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ:
مَا رَآهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُصَاةِوَمِنْ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي مَا رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ : كَانَ
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ
لِأَصْحَابِهِ : هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ الْبَارِحَةَ رُؤْيَا ؟ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ
مَنْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُصَّ ، وَأَنَّهُ قَالَ لَنَا ذَاتَ غَدَاةٍ : إِنَّهُ
أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ ، وَإِنَّهُمَا انْبَعَثَا لِي ، وَإِنَّهُمَا
قَالَا لِي : انْطَلِقْ وَإِنِّي انْطَلَقْتُ مَعَهُمَا ، وَإِنَّا أَتَيْنَا
عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ ، وَإِذَا
هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ ، فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ فَيَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ
هَاهُنَا فَيَقَعُ الْحَجَرُ ، فَيَأْخُذُهُ ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى
يُصْبِحَ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ
مَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : سُبْحَانَ اللَّهِ
مَا هَذَانِ ؟ قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ
، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي
أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ وَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَمَنْخِرَهُ
إِلَى قَفَاهُ ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ
الْآخَرِ ، فَيَفْعَلُ بِهِمِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ ، فَمَا
يَفْرَغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يُصْبِحَ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ ،
ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ،
قَالَ : قُلْتُ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا هَذَانِ ؟ فَقَالَا لِي : انْطَلِقِ
انْطَلِقْ .
[ ص: 63 ] فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى مِثْلِ
التَّنُّورِ ، وَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ ، قَالَ : فَاطَّلَعْنَا فِيهِ ،
فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ
مِنْهُمْ ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللَّهَبُ ضَوْضَوْا ، فَقَالَ : قُلْتُ :
مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : فَقَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ أَحْمَرَ
مِثْلِ الدَّمِ ، فَإِذَا فِي النَّهْرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ
النَّهْرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً ، وَإِذَا ذَلِكَ
السَّابِحُ يَسْبَحُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَسْبَحَ ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ
الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ
حَجَرًا ، فَيَنْطَلِقُ فَيَسْبَحُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ كُلَّمَا رَجَعَ
إِلَيْهِ ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا ، قُلْتُ لَهُمَا : مَا
هَذَانِ ؟ قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ
الْمَرْآةِ ، أَوْ كَأَكْرِهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْأًى ، وَإِذَا هُوَ
عِنْدَهُ نَارٌ يَحُثُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا ، قَالَ : قُلْتُ لَهُمَا : مَا هَذَا ؟ قَالَ :
قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ
.
فَانْطَلَقْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعَتَمَّةٍ فِيهَا مِنْ
كُلِّ نُورِ الرَّبِيعِ ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهَرَانَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ
، لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُطُولًا فِي السَّمَاءِ ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ
مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ ، قَالَ : قُلْتُ : مَا هَذَا ؟ وَمَا
هَؤُلَاءِ ؟ قَالَ : قَالَا لِي : انْطَلِقِ انْطَلِقْ .
فَانْطَلَقْنَا ، فَأَتَيْنَا إِلَى دَوْحَةٍ عَظِيمَةٍ
لَمْ أَرَ دَوْحَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا ، وَلَا أَحْسَنَ ، قَالَ : قَالَا لِي
: ارْقَ فِيهَا ، فَارْتَقَيْنَا فِيهَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ
ذَهَبٍ ، وَلَبِنٍ فِضَّةٍ ، قَالَ : فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ ، فَاسْتَفْتَحْنَا
، فَفُتِحَ لَنَا ، فَدَخَلْنَاهَا ، فَتَلَقَّانَا رِجَالٌ ، شَطْرٌ مِنْ
خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ ، وَشَطْرٌ مِنْهُمْ كَأَقْبَحِ مَا
أَنْتَ رَاءٍ ، قَالَ : قَالَا لَهُمْ : اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهَرِ
، قَالَ : وَإِذَا نَهَرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي
الْبَيَاضِ ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا ، قَدْ
ذَهَبَ ذَلِكَ السُّوءُ عَنْهُمْ ، قَالَ : قَالَا لِي : هَذِهِ جَنَّةُ عَدْنٍ
وَهَا ذَاكَ مَنْزِلُكَ .
قَالَ :
فَسَمَا بَصْرِي صُعُدًا ، فَإِذَا قَصْرٌ مِثْلُ
الرَّبَابَةِ الْبَيْضَاءِ ، قَالَ : قَالَا لِي : هَذَا مَنْزِلُكَ ، قُلْتُ
لَهُمَا : بَارَكَ اللَّهُ فِيكُمَا ، فَذَرَانِي فَأَدْخُلُهُ ، قَالَا : أَمَّا الْآنَ
فَلَا ، وَأَنْتَ دَاخِلُهُ .
قُلْتُ لَهُمَا : فَإِنِّي رَأَيْتُ مُنْذُ اللَّيْلَةِ
عَجَبًا ، فَمَا هَذَا الَّذِي رَأَيْتُ ؟ قَالَ : قَالَا لِي : أَمَا إِنَّا
سَنُخْبِرُكَ .
أَمَّا الرَّجُلُ الْأَوَّلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ
يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ
فَيَرْفُضُهُ ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ
يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ ، وَعَيْنُهُ إِلَى
قَفَاهُ ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو إِلَى بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذْبَةَ
تَبْلُغُ الْآفَاقَ .
[ ص: 64 ] وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ
الَّذِينَ هُمْ فِي مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ
وَالزَّوَانِي .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يَسْبَحُ
فِي النَّهْرِ وَيُلْقَمُ الْحِجَارَةَ ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَنْظَرِ الَّذِي
عِنْدَ النَّارِ يَحُثُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا ، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ
جَهَنَّمَ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي فِي الرَّوْضَةِ
، فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ .
وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ ، فَكُلُّ
مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ - وَفِي رِوَايَةِ الْبَرْقَانِيِّ : وُلِدَ
عَلَى الْفِطْرَةِ - فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ .
وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا شَطْرٌ مِنْهُمْ
حَسَنٌ وَشَطْرٌ مِنْهُمْ قَبِيحٌ ، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا
وَآخَرَ سَيِّئًا تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُمْ .
فَصْلٌ: الذُّنُوبُ تُحْدِثُ الْفَسَادَ فِي
الْأَرْضِوَمِنْ آثَارِ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي : أَنَّهَا تُحْدِثُ فِي
الْأَرْضِ أَنْوَاعًا مِنَ الْفَسَادِ فِي الْمِيَاهِ وَالْهَوَاءِ ، وَالزَّرْعِ
، وَالثِّمَارِ ، وَالْمَسَاكِنِ ، قَالَ تَعَالَى : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ سُورَةُ الرُّومِ : 41 ] .
قَالَ مُجَاهِدٌ : إِذَا وَلِيَ الظَّالِمُ سَعَى
بِالظُّلْمِ وَالْفَسَادِ فَيَحْبِسُ اللَّهُ بِذَلِكَ الْقَطْرَ ، فَيَهْلِكُ الْحَرْثُ
وَالنَّسْلُ ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ، ثُمَّ قَرَأَ : ظَهَرَ
الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ
لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [ سُورَةُ
الرُّومِ : 41 ] .
ثُمَّ قَالَ : أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بَحْرُكُمْ
هَذَا ، وَلَكِنْ كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ جَارٍ فَهُوَ بَحْرٌ ،
وَقَالَ عِكْرِمَةُ : ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ لَكُمْ : بَحْرُكُمْ هَذَا ، وَلَكِنْ
كُلُّ قَرْيَةٍ عَلَى مَاءٍ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : أَمَّا الْبَرُّ فَأَهْلُ
الْعَمُودِ ، وَأَمَّا الْبَحْرُ فَأَهْلُ الْقُرَى وَالرِّيفِ ، قُلْتُ : وَقَدْ
سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَاءَ الْعَذْبَ بَحْرًا ، فَقَالَ : وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ
هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ [ سُورَةُ فَاطِرٍ
: 12 ] .
[ ص: 65 ] وَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ بَحْرٌ حُلْوٌ
وَاقِفٌ ، وَإِنَّمَا هِيَ الْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ ، وَالْبَحْرُ الْمَالِحُ
هُوَ السَّاكِنُ ، فَسَمَّى الْقُرَى الَّتِي عَلَيْهَا الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ
بِاسْمِ تِلْكَ الْمِيَاهِ .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ قَالَ : الذُّنُوبُ
.
قُلْتُ :
أَرَادَ أَنَّ الذُّنُوبَ سَبَبُ الْفَسَادِ الَّذِي
ظَهَرَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْفَسَادَ الَّذِي ظَهَرَ هُوَ الذُّنُوبُ
نَفْسُهَا فَتَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ : لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي
عَمِلُوا لَامَ الْعَاقِبَةِ وَالتَّعْلِيلِ ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ
: النَّقْصُ وَالشَّرُّ وَالْآلَامُ الَّتِي يُحْدِثُهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ
عِنْدَ مَعَاصِي الْعِبَادِ ، فَكُلَّمَا أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثَ اللَّهُ
لَهُمْ عُقُوبَةً ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كُلَّمَا أَحْدَثْتُمْ ذَنْبًا
أَحْدَثَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ سُلْطَانِهِ عُقُوبَةً .
وَالظَّاهِرُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - أَنَّ الْفَسَادَ
الْمُرَادَ بِهِ الذُّنُوبُ وَمُوجِبَاتُهَا ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ
تَعَالَى : لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا فَهَذَا حَالُنَا ، وَإِنَّمَا
أَذَاقَنَا الشَّيْءَ الْيَسِيرَ مِنْ أَعْمَالِنَا ، وَلَوْ أَذَاقَنَا كُلَّ
أَعْمَالِنَا لَمَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ.
الْمَعَاصِي سَبَبُ الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ
وَمِنْ تَأْثِيرِ مَعَاصِي اللَّهِ فِي الْأَرْضِ مَا
يَحِلُّ بِهَا مِنَ الْخَسْفِ وَالزَّلَازِلِ ، وَيَمْحَقُ بَرَكَتَهَا ، وَقَدْ مَرَّ
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى دِيَارِ ثَمُودَ ، فَمَنَعَهُمْ
مِنْ دُخُولِ دِيَارِهِمْ إِلَّا وَهُمْ بَاكُونَ ، وَمِنْ شُرْبِ مِيَاهِهِمْ ،
وَمِنَ الِاسْتِسْقَاءِ مِنْ آبَارِهِمْ ، حَتَّى أَمَرَ أَنْ لَا يُعْلَفَ
الْعَجِينُ الَّذِي عُجِنَ بِمِيَاهِهِمْ لِلنَّوَاضِحِ ، لِتَأْثِيرِ شُؤْمِ
الْمَعْصِيَةِ فِي الْمَاءِ ، وَكَذَلِكَ شُؤْمِ تَأْثِيرِ الذُّنُوبِ فِي نَقْصِ
الثِّمَارِ وَمَا تَرَى بِهِ مِنَ الْآفَاتِ .
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ فِي
ضِمْنِ حَدِيثٍ قَالَ : وُجِدَتْ فِي خَزَائِنَ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ ، حِنْطَةٌ
، الْحَبَّةُ بِقَدْرِ نَوَاةِ التَّمْرَةِ ، وَهِيَ فِي صُرَّةٍ مَكْتُوبٌ
عَلَيْهَا : كَانَ هَذَا يَنْبُتُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْعَدْلِ ، وَكَثِيرٌ مِنْ
هَذِهِ الْآفَاتِ أَحْدَثَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا أَحْدَثَ
الْعِبَادُ مِنَ الذُّنُوبِ .
وَأَخْبَرَنِي جَمَاعَةٌ مِنْ شُيُوخِ الصَّحْرَاءِ
أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْهَدُونَ الثِّمَارَ أَكْبَرَ مِمَّا هِيَ الْآنَ ،
وَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْآفَاتِ الَّتِي تُصِيبُهَا لَمْ يَكُونُوا يَعْرِفُونَهَا
، وَإِنَّمَا حَدَثَتْ مِنْ قُرْبٍ
.
تَأْثِيرُ الذُّنُوبِ فِي الصُّوَرِ
وَأَمَّا تَأْثِيرُ الذُّنُوبِ فِي الصُّوَرِ
وَالْخَلْقِ ، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ فِي
السَّمَاءِ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، وَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ حَتَّى الْآنَ .
فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنَ
الظَّلَمَةِ وَالْخَوَنَةِ وَالْفَجَرَةِ ، يُخْرِجُ عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ مِنْ
أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَمْلَأُ
الْأَرْضَ قِسْطًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْرًا ، وَيَقْتُلُ الْمَسِيحُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
، [ ص: 66 ] وَيُقِيمُ الدِّينَ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ ،
وَتُخْرِجَ الْأَرْضُ بَرَكَاتِهَا ، وَتَعُودُ كَمَا كَانَتْ ، حَتَّى إِنَّ
الْعِصَابَةَ مِنَ النَّاسِ لَيَأْكُلُونِ الرُّمَّانَةَ وَيَسْتَظِلُّونَ
بِقِحْفِهَا ، وَيَكُونُ الْعُنْقُودُ مِنَ الْعِنَبِ وَقْرَ بَعِيرٍ ، وَلَبَنُ
اللِّقْحَةِ الْوَاحِدَةِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ ، وَهَذِهِ لِأَنَّ
الْأَرْضَ لَمَّا طَهُرَتْ مِنَ الْمَعَاصِي ظَهَرَتْ فِيهَا آثَارُ الْبَرَكَةِ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي مَحَقَتْهَا الذُّنُوبُ وَالْكُفْرُ ، وَلَا رَيْبَ
أَنَّ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي الْأَرْضِ بَقِيَتْ آثَارُهَا
سَارِيَةً فِي الْأَرْضِ تَطْلُبُ مَا يُشَاكِلُهَا مِنَ الذُّنُوبِ الَّتِي هِيَ
آثَارُ تِلْكَ الْجَرَائِمِ الَّتِي عُذِّبَتْ بِهَا الْأُمَمُ ، فَهَذِهِ
الْآثَارُ فِي الْأَرْضِ مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ ، كَمَا أَنَّ هَذِهِ
الْمَعَاصِي مِنْ آثَارِ تِلْكَ الْجَرَائِمِ ، فَتَنَاسَبَتْ كَلِمَةُ اللَّهِ
وَحُكْمَهُ الْكَوْنِيُّ أَوَّلًا وَآخِرًا ، وَكَانَ الْعَظِيمُ مِنَ
الْعُقُوبَةِ لِلْعَظِيمِ مِنَ الْجِنَايَةِ ، وَالْأَخَفُّ لِلْأَخَفِّ ،
وَهَكَذَا يَحْكُمُ سُبْحَانَهُ بَيْنَ خَلْقِهِ فِي دَارِالْبَرْزَخِ وَدَارِ الْجَزَاءِ .
وَتَأَمَّلْ مُقَارَنَةَ الشَّيْطَانِ وَمَحِلَّهُ
وَدَارَهُ ، فَإِنَّهُ لَمَّا قَارَنَ الْعَبْدَ وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ نُزِعَتِ
الْبَرَكَةُ مِنْ عُمُرِهِ ، وَعَمَلِهِ ، وَقَوْلِهِ ، وَرِزْقِهِ ، وَلَمَّا
أَثَّرَتْ طَاعَتُهُ فِي الْأَرْضِ مَا أَثَّرَتْ ، وَنُزِعَتِ الْبَرَكَةُ مِنْ كُلِّ
مَحِلٍّ ظَهَرَتْ فِيهِ طَاعَتُهُ ، وَكَذَلِكَ مَسَكْنُهُ لَمَّا كَانَ
الْجَحِيمَ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنَ الرُّوحِ وَالرَّحْمَةِ وَالْبَرَكَةِ .
فَصْلٌ: الذُّنُوبُ تُطْفِئُ الْغَيْرَةَوَمِنْ عُقُوبَاتِ
الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُطْفِئُ مِنَ الْقَلْبِ نَارَ الْغَيْرَةِ الَّتِي هِيَ
لِحَيَاتِهِ وَصَلَاحِهِ كَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ لِحَيَاةِ جَمِيعِ
الْبَدَنِ ، فَالْغَيْرَةُ حَرَارَتُهُ وَنَارُهُ الَّتِي تُخْرِجُ مَا فِيهِ مِنَ
الْخُبْثِ وَالصِّفَاتِ الْمَذْمُومَةِ ، كَمَا يُخْرِجُ الْكِيرُ خُبْثَ
الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْحَدِيدِ ، وَأَشْرَفُ النَّاسِ وَأَعْلَاهُمْ هِمَّةً
أَشَدُّهُمْ غَيْرَةً عَلَى نَفْسِهِ وَخَاصَّتِهِ وَعُمُومِ النَّاسِ ، وَلِهَذَا
كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَغْيَرَ الْخَلْقِ عَلَى
الْأُمَّةِ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَشَدُّ غَيْرَةً مِنْهُ ، كَمَا ثَبَتَ فِي
الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :
أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاللَّهُ
أَغْيَرُ مِنِّي .
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ فِي
خُطْبَةِ الْكُسُوفِ : يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ مَا أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ
يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ .
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا أَحَدَ
أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ ،
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ، وَلَا أَحَدَ
أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى
نَفْسِهِ .
[ ص: 67
] فَجَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ الْغَيْرَةِ
الَّتِي أَصْلُهَا كَرَاهَةُ الْقَبَائِحِ وَبُغْضُهَا ، وَبَيْنَ مَحَبَّةِ
الْعُذْرِ الَّذِي يُوجِبُ كَمَالَ الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ - مَعَ شِدَّةِ غَيْرَتِهِ - يُحِبُّ أَنْ يَعْتَذِرَ إِلَيْهِ
عَبْدُهُ ، وَيَقْبَلُ عُذْرَ مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ ، وَأَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُ
عَبِيدَهُ بِارْتِكَابِ مَا يَغَارُ مِنَ ارْتِكَابِهِ حَتَّى يَعْذُرَ إِلَيْهِمْ
، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ إِعْذَارًا
وَإِنْذَارًا ، وَهَذَا غَايَةُ الْمَجْدِ وَالْإِحْسَانِ ، وَنِهَايَةُ
الْكَمَالِ .
فَإِنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ تَشْتَدُّ غَيْرَتُهُ مِنَ
الْمَخْلُوقِينَ تَحْمِلُهُ شِدَّةُ الْغَيْرَةِ عَلَى سُرْعَةِ الْإِيقَاعِ
وَالْعُقُوبَةِ مِنْ غَيْرِ إِعْذَارٍ مِنْهُ ، وَمِنْ غَيْرِ قَبُولٍ لِعُذْرِ
مَنِ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ ، بَلْ يَكُونُ لَهُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عُذْرٌ وَلَا
تَدَعُهُ شِدَّةُ الْغَيْرَةِ أَنْ يَقْبَلَ عُذْرَهُ ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ
يَقْبَلُ الْمَعَاذِيرَ يَحْمِلُهُ عَلَى قَبُولِهَا قِلَّةُ الْغَيْرَةِ حَتَّى يَتَوَسَّعَ
فِي طُرُقِ الْمَعَاذِيرِ ، وَيَرَى عُذْرًا مَا لَيْسَ بِعُذْرٍ ، حَتَّى
يَعْتَذِرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بِالْقَدَرِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا غَيْرُ مَمْدُوحٍ
عَلَى الْإِطْلَاقِ .
وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ مِنَ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّهَا اللَّهُ ،
وَمِنْهَا مَا يَبْغَضُهَا اللَّهُ ، فَالَّتِي يَبْغَضُهَا اللَّهُ الْغَيْرَةُ
مِنْ غَيْرِ رِيبَةٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثِ .
وَإِنَّمَا الْمَمْدُوحُ اقْتِرَانُ الْغَيْرَةِ بِالْعُذْرِ
، فَيَغَارُ فِي مَحِلِّ الْغَيْرَةِ ، وَيَعْذُرُ فِي مَوْضِعِ الْعُذْرِ ،
وَمَنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَالْمَمْدُوحُ حَقًّا .
وَلَمَّا جَمَعَ سُبْحَانَهُ صِفَاتِ الْكَمَالِ
كُلَّهَا كَانَ أَحَقَّ بِالْمَدْحِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ ، وَلَا يَبْلُغُ أَحَدٌ
أَنْ يَمْدَحَهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ ، بَلْ هُوَ كَمَا مَدَحَ نَفْسَهُ
وَأَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ ، فَالْغَيُورُ قَدْ وَافَقَ رَبَّهُ سُبْحَانَهُ فِي
صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ ، وَمَنْ وَافَقَ اللَّهَ فِي صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ
قَادَتْهُ تِلْكَ الصِّفَةُ إِلَيْهِ بِزِمَامِهِ ، وَأَدْخَلَتْهُ عَلَى رَبِّهِ
، وَأَدْنَتْهُ مِنْهُ ، وَقَرَّبَتْهُ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَصَيَّرَتْهُ مَحْبُوبًا
، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ رَحِيمٌ يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ ، كَرِيمٌ يُحِبُّ الْكُرَمَاءَ
، عَلِيمٌ يُحِبُّ الْعُلَمَاءَ ، قَوِيٌّ يُحِبُّ الْمُؤْمِنَ الْقَوِيَّ ،
وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، حَتَّى يُحِبَّ أَهْلَ
الْحَيَاءِ ، جَمِيلٌ يُحِبُّ أَهْلَ الْجَمَالِ ، وَتْرٌ يُحِبُّ أَهْلَ
الْوَتْرِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي إِلَّا
أَنَّهَا تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا ضِدَّ هَذِهِ الصِّفَاتِ وَتَمْنَعُهُ مِنَ
الِاتِّصَافِ بِهَا لَكَفَى بِهَا عُقُوبَةً ، فَإِنَّ الْخَطْرَةَ تَنْقَلِبُ وَسْوَسَةً
، وَالْوَسْوَسَةُ تَصِيرُ إِرَادَةً ، وَالْإِرَادَةُ تَقْوَى فَتَصِيرُ
عَزِيمَةً ، ثُمَّ تَصِيرُ فِعْلًا ، ثُمَّ تَصِيرُ صِفَةً لَازِمَةً وَهَيْئَةً
ثَابِتَةً رَاسِخَةً ، وَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْهُمَا كَمَا
يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَائِمَةِ بِهِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ كُلَّمَا اشْتَدَّتْ مُلَابَسَتُهُ
لِلذُّنُوبِ أَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ الْغَيْرَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ
وَعُمُومِ النَّاسِ ، وَقَدْتَضْعُفُ فِي الْقَلْبِ جِدًّا حَتَّى لَا
يَسْتَقْبِحَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَبِيحَ لَا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ ،
وَإِذَا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَقَدْدَخَلَ فِي بَابِ الْهَلَاكِ .
[ ص: 68 ] وَكَثِيرٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَقْتَصِرُ
عَلَى عَدَمِ الِاسْتِقْبَاحِ ، بَلْ يُحَسِّنُ الْفَوَاحِشَ وَالظُّلْمَ
لِغَيْرِهِ ، وَيُزَيِّنُهُ لَهُ ، وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ ، وَيَحُثُّهُ عَلَيْهِ ،
وَيَسْعَى لَهُ فِي تَحْصِيلِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ الدَّيُّوثُ أَخْبَثَ خَلْقِ
اللَّهِ ، وَالْجَنَّةُ حَرَامٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ مُحَلِّلُ الظُّلْمِ
وَالْبَغْيِ لِغَيْرِهِ وَمُزَيِّنُهُ لَهُ ، فَانْظُرْ مَا الَّذِي حَمَلَتْ
عَلَيْهِ قِلَّةُ الْغَيْرَةِ .
وَهَذَا يَدُلُّكَ عَلَى أَنَّ أَصْلَ الدِّينِ الْغَيْرَةُ
، وَمَنْ لَا غَيْرَةَ لَهُ لَا دِينَ لَهُ ، فَالْغَيْرَةُ تَحْمِي الْقَلْبَ
فَتَحْمِي لَهُ الْجَوَارِحَ، فَتَدْفَعُ السُّوءَ وَالْفَوَاحِشَ ، وَعَدَمُ
الْغَيْرَةِ تُمِيتُ الْقَلْبَ ، فَتَمُوتُ لَهُ الْجَوَارِحُ ؛ فَلَا يَبْقَى
عِنْدَهَا دَفْعٌ الْبَتَّةَ .
وَمَثَلُ الْغَيْرَةِ فِي الْقَلْبِ مَثَلُ الْقُوَّةِ
الَّتِي تَدْفَعُ الْمَرَضَ وَتُقَاوِمُهُ ، فَإِذَا ذَهَبَتِ الْقُوَّةُ وَجَدَ
الدَّاءُ الْمَحِلَّ قَابِلًا ، وَلَمْ يَجِدْ دَافِعًا ، فَتَمَكَّنَ ، فَكَانَ
الْهَلَاكُ ، وَمِثْلُهَا مِثْلُ صَيَاصِيِّ الْجَامُوسِ الَّتِي تَدْفَعُ بِهَا
عَنْ نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ ، فَإِذَا تَكَسَّرَتْ طَمِعَ فِيهَا عَدُوُّهُ .
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُذْهِبُ الْحَيَاءَوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا :
ذَهَابُ الْحَيَاءِ الَّذِي هُوَ مَادَّةُ حَيَاةِ الْقَلْبِ ، وَهُوَ أَصْلُ
كُلِّ خَيْرٍ ، وَذَهَابُهُ ذَهَابُ الْخَيْرِ أَجْمَعِهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ .
وَقَالَ :
إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسَ مِنْ كَلَامِ
النُّبُوَّةِ الْأُولَى : إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ وَفِيهِ
تَفْسِيرَانِ :
أَحَدُهُمَا :
أَنَّهُ عَلَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ ، وَالْمَعْنَى
مَنْ لَمْ يَسْتَحِ فَإِنَّهُ يَصْنَعُ مَا شَاءَ مِنَ الْقَبَائِحِ ، إِذِ الْحَامِلُ
عَلَى تَرْكِهَا الْحَيَاءُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَيَاءٌ يَرْدَعُهُ
عَنِ الْقَبَائِحِ ، فَإِنَّهُ يُوَاقِعُهَا ، وَهَذَا تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْفِعْلَ إِذَا لَمْ تَسْتَحِ
مِنْهُ مِنَ اللَّهِ فَافْعَلْهُ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْبَغِي تَرْكُهُ هُوَ
مَا يُسْتَحَى مِنْهُ مِنَ اللَّهِ ، وَهَذَا تَفْسِيرُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ فِي
رِوَايَةِ ابْنِ هَانِئٍ .
فَعَلَى الْأَوَّلِ : يَكُونُ تَهْدِيدًا ، كَقَوْلِهِ :
اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 40 ] .
وَعَلَى الثَّانِي : يَكُونُ إِذْنًا وَإِبَاحَةً .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى حَمْلِهِ
عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ ؟ [ ص:
69 ] قُلْتُ : لَا ، وَلَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَحْمِلُ
الْمُشْتَرَكَ عَلَى جَمِيعِ مَعَانِيهِ ، لِمَا بَيْنَ الْإِبَاحَةِ
وَالتَّهْدِيدِ مِنَ الْمُنَافَاةِ ، وَلَكِنَّ اعْتِبَارَ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ
يُوجِبُ اعْتِبَارَ الْآخَرِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُضْعِفُ الْحَيَاءَ
مِنَ الْعَبْدِ ، حَتَّى رُبَّمَا انْسَلَخَ مِنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ ، حَتَّى
إِنَّهُ رُبَّمَا لَا يَتَأَثَّرُ بِعِلْمِ النَّاسِ بِسُوءِ حَالِهِ وَلَا
بِاطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ ، بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ يُخْبِرُ عَنْ حَالِهِ وَقُبْحِ
مَا يَفْعَلُ ، وَالْحَامِلُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ انْسِلَاخُهُ مِنَ الْحَيَاءِ ،
وَإِذَا وَصَلَ الْعَبْدُ إِلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَبْقَ فِي صَلَاحِهِ
مَطْمَعٌ
وَإِذَا رَأَى إِبْلِيسُ طَلْعَةَ وَجْهِهِ حَيَّا
وَقَالَ : فَدَيْتُ مَنْ لَا يُفْلِحُ
وَالْحَيَاءُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَيَاةِ ، وَالْغَيْثُ
يُسَمَّى حَيَا - بِالْقَصْرِ -
لِأَنَّ بِهِ حَيَاةُ الْأَرْضِ وَالنَّبَاتِ
وَالدَّوَابِّ ، وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ بِالْحَيَاءِ حَيَاةُ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ، فَمَنْ لَا حَيَاءَ فِيهِ فَهُوَ مَيِّتٌ فِي الدُّنْيَا شَقِيٌّ
فِي الْآخِرَةِ ، وَبَيْنَ الذُّنُوبِ وَبَيْنَ قِلَّةِ الْحَيَاءِ وَعَدَمِ الْغَيْرَةِ
تَلَازُمٌ مِنَ الطَّرَفَيْنِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يَسْتَدْعِي الْآخَرَ وَيَطْلُبُهُ
حَثِيثًا ، وَمَنِ اسْتَحَى مِنَ اللَّهِ عِنْدَ مَعْصِيَتِهِ ، اسْتَحَى اللَّهُ
مِنْ عُقُوبَتِهِ يَوْمَ يَلْقَاهُ ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَحِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ لَمْ
يَسْتَحِ اللَّهُ مِنْ عُقُوبَتِهِ
.
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ
الرَّبِّوَمِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ
تَعْظِيمَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَتُضْعِفُ وَقَارَهُ فِي قَلْبِ الْعَبْدِ
وَلَا بُدَّ ، شَاءَ أَمْ أَبَى ، وَلَوْ تَمَكَّنَ وَقَارُ اللَّهِ وَعَظَمَتُهُ
فِي قَلْبِ الْعَبْدِ لَمَا تَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِيهِ ، وَرُبَّمَا اغْتَرَّ الْمُغْتَرُّ
، وَقَالَ : إِنَّمَا يَحْمِلُنِي عَلَى الْمَعَاصِي حُسْنُ الرَّجَاءِ ،
وَطَمَعِي فِي عَفْوِهِ ، لَا ضَعْفُ عَظْمَتِهِ فِي قَلْبِي ، وَهَذَا مِنْ
مُغَالَطَةِ النَّفْسِ ؛ فَإِنَّ عَظَمَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالَهُ فِي
قَلْبِ الْعَبْدِ تَقْتَضِي تَعْظِيمَ حُرُمَاتِهِ ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِهِ
يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الذُّنُوبِ ، وَالْمُتَجَرِّئُونَ عَلَى مَعَاصِيهِ مَا
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، وَكَيْفَيَقْدِرُهُ حَقَّ قَدْرِهِ ، أَوْ
يُعَظِّمُهُ وَيُكَبِّرُهُ ، وَيَرْجُو وَقَارَهُ وَيُجِلُّهُ ، مَنْ يَهُونُ
عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ ؟ هَذَا مِنْ أَمْحَلِ الْمُحَالِ ، وَأَبَيْنِ
الْبَاطِلِ ، وَكَفَى بِالْعَاصِي عُقُوبَةً أَنْ يَضْمَحِلَّ مِنْ قَلْبِهِ
تَعْظِيمُ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ ، وَتَعْظِيمُ حُرُمَاتِهِ ، وَيَهُونُ
عَلَيْهِ حَقُّهُ .
وَمِنْ بَعْضِ عُقُوبَةِ هَذَا : أَنْ يَرْفَعَ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ مَهَابَتَهُ مِنْ قُلُوبِ الْخَلْقِ ، وَيَهُونُ عَلَيْهِمْ ، وَيَسْتَخِفُّونَ
بِهِ ، كَمَا هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَاسْتَخَفَّ بِهِ ، فَعَلَى قَدْرِ
مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ يُحِبُّهُ النَّاسُ ، وَعَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنَ
اللَّهِ يَخَافُهُ الْخَلْقُ ، وَعَلَى قَدْرِ تَعْظِيمِهِ لِلَّهِ وَحُرُمَاتِهِ
يُعَظِّمُهُ النَّاسُ ، وَكَيْفَ يَنْتَهِكُ عَبْدٌ حُرُمَاتِ اللَّهِ ،
وَيَطْمَعُ أَنْ لَا يَنْتَهِكَ النَّاسُ حُرُمَاتِهِ أَمْ كَيْفَ يَهُونُ
عَلَيْهِ حَقُّ اللَّهِ وَلَا يُهَوِّنُهُ اللَّهُ عَلَى النَّاسِ ؟ أَمْ كَيْفَ
يَسْتَخِفُّ بِمَعَاصِي اللَّهِ وَلَا يَسْتَخِفُّ بِهِ الْخَلْقُ ؟
[ ص: 70 ] وَقَدْ أَشَارَ سُبْحَانَهُ إِلَى هَذَا فِي
كِتَابِهِ عِنْدَ ذِكْرِ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ ، وَأَنَّهُ أَرْكَسَ أَرْبَابَهَا
بِمَا كَسَبُوا ، وَغَطَّى عَلَى قُلُوبِهِمْ ، وَطَبَعَ عَلَيْهَا بِذُنُوبِهِمْ
، وَأَنَّهُ نَسِيَهُمْ كَمَا نَسُوهُ ، وَأَهَانَهُمْ كَمَا أَهَانُوا دِينَهُ ، وَضَيَّعَهُمْ
كَمَا ضَيَّعُوا أَمْرَهُ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى فِي آيَةِ سُجُودِ
الْمَخْلُوقَاتِ لَهُ : وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [ سُورَةُ
الْحَجِّ : 18 ] فَإِنَّهُمْ لَمَّا هَانَ عَلَيْهِمُ السُّجُودُ لَهُ
وَاسْتَخَفُّوا بِهِ وَلَمْ يَفْعَلُوهُ أَهَانَهُمُ اللَّهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ
مِنْ مُكْرِمٍ بَعْدَ أَنْ أَهَانَهُمُ اللَّهُ ، وَمَنْ ذَا يُكْرِمْ مَنْ
أَهَانَهُ اللَّهُ ؟ أَوْ يُهِنْ مَنْ أَكْرَمَهُ اللَّهُ ؟
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُنْسِي اللَّهَوَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَسْتَدْعِي نِسْيَانَ اللَّهِ لِعَبْدِهِ ، وَتَرْكَهُ
وَتَخْلِيَتَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَشَيْطَانِهِ ، وَهُنَالِكَ
الْهَلَاكُ الَّذِي لَا يُرْجَى مَعَهُ نَجَاةٌ ، قَالَ اللَّهُ : يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلَا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ [ سُورَةُ الْحَشْرِ : 18 - 19 ] .
فَأَمَرَ بِتَقْوَاهُ وَنَهَى أَنْ يَتَشَبَّهَ
عِبَادُهُ الْمُؤْمِنُونَ بِمَنْ نَسِيَهُ بِتَرْكِ تَقْوَاهُ ، وَأَخْبَرَ
أَنَّهُ عَاقَبَ مَنْ تَرَكَ التَّقْوَى بِأَنْ أَنْسَاهُ نَفْسَهُ ، أَيْ
أَنْسَاهُ مَصَالِحَهَا ، وَمَا يُنْجِيهَا مِنْ عَذَابِهِ ، وَمَا يُوجِبُ لَهُ
الْحَيَاةَ الْأَبَدِيَّةَ ، وَكَمَالَ لَذَّتِهَا وَسُرُورِهَا وَنَعِيمِهَا ،
فَأَنْسَاهُ اللَّهُ ذَلِكَ كُلَّهُ جَزَاءً لِمَا نَسِيَهُ مِنْ عَظَمَتِهِ
وَخَوْفِهِ ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ ، فَتَرَى الْعَاصِيَ مُهْمِلًا لِمَصَالِحِ
نَفْسِهِ مُضَيِّعًا لَهَا ، قَدْ أَغْفَلَ اللَّهُ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِهِ ،
وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ، قَدِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ
مَصَالِحُ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ ، وَقَدْ فَرَّطَ فِي سَعَادَتِهِ الْأَبَدِيَّةِ
، وَاسْتَبْدَلَ بِهَا أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ لَذَّةٍ ، إِنَّمَا هِيَ سَحَابَةُ
صَيْفٍ ، أَوْ خَيَالُ طَيْفٍ كَمَا قِيلَ :
أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ إِنَّ اللَّبِيبَ
بِمِثْلِهَا لَا يُخْدَعُ
وَأَعْظَمُ الْعُقُوبَاتِ نِسْيَانُ الْعَبْدِ
لِنَفْسِهِ ، وَإِهْمَالُهُ لَهَا ، وَإِضَاعَتُهُ حَظَّهَا وَنَصِيبَهَا مِنَ
اللَّهِ ، وَبَيْعُهَا ذَلِكَ بِالْغَبْنِ وَالْهَوَانِ وَأَبْخَسِ الثَّمَنِ ،
فَضَيَّعَ مَنْ لَا غِنَى لَهُ عَنْهُ ، وَلَا عِوَضَ لَهُ مِنْهُ ، وَاسْتَبْدَلَ
بِهِ مَنْ عَنْهُ كُلُّ الْغِنَى أَوْ مِنْهُكُلُّ الْعِوَضِ :
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضٌ وَمَا مِنَ
اللَّهِ إِنْ ضَيَّعْتَ مِنْ عِوَضِ
[ ص: 71 ] فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يُعَوِّضُ عَنْ كُلِّ
شَيْءٍ مَا سِوَاهُ وَلَا يُعَوِّضُ مِنْهُ شَيْءٌ ، وَيُغْنِي عَنْ كُلِّ شَيْءٍ
وَلَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْءٌ ، وَيُجِيرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يُجِيرُ مِنْهُ شَيْءٌ
، وَيَمْنَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ شَيْءٌ ، كَيْفَ
يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ عَنْ طَاعَةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ؟ وَكَيْفَ
يَنْسَى ذِكْرَهُ وَيُضَيِّعُ أَمْرَهُ حَتَّى يُنْسِيَهُ نَفْسَهُ ،
فَيَخْسَرُهَا وَيَظْلِمُهَا أَعْظَمَ الظُّلْمِ ؟ فَمَا ظَلَمَ الْعَبْدُ رَبَّهُ
وَلَكِنْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ، وَمَا ظَلَمَهُ رَبُّهُ وَلَكِنْ هُوَ الَّذِي ظَلَمَ
نَفْسَهُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ دَائِرَةِ
الْإِحْسَانِوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا
: أَنَّهَا تُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ دَائِرَةِ
الْإِحْسَانِ وَتَمْنَعُهُ مِنْ ثَوَابِ الْمُحْسِنِينَ ، فَإِنَّ الْإِحْسَانَ
إِذَا بَاشَرَ الْقَلْبَ مَنَعَهُ عَنِ الْمَعَاصِي ، فَإِنَّ مَنْ عَبَدَ اللَّهَ
كَأَنَّهُ يَرَاهُ، لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ إِلَّا لِاسْتِيلَاءِ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ
وَخَوْفِهِ وَرَجَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ ، بِحَيْثُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ يُشَاهِدُهُ
، وَذَلِكَ سَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِرَادَةِ الْمَعْصِيَةِ ، فَضْلًا عَنْ
مُوَاقَعَتِهَا ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحْسَانِ ، فَاتَهُ صُحْبَةُ
رُفْقَتِهِ الْخَاصَّةِ ، وَعَيْشُهُمُ الْهَنِيءُ ، وَنَعِيمُهُمُ التَّامُّ ،
فَإِنْ أَرَادَ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا أَقَرَّهُ فِي دَائِرَةِ عُمُومِ
الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ عَصَاهُبِالْمَعَاصِي الَّتِي تُخْرِجُهُ مِنْ دَائِرَةِ الْإِيمَانِ
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي
وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ ،
وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَمُؤْمِنٌ ، وَلَا يَنْتَهِبُ
نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ إِلَيْهِ فِيهَا النَّاسُ أَبْصَارَهُمْ حِينَ
يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَإِيَّاكُمْ إِيَّاكُمْ ، وَالتَّوْبَةُ
مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ .
فَصْلٌ: الْعَاصِي يَفُوتُهُ ثَوَابُ
الْمُؤْمِنِينَوَمَنْ فَاتَهُ رُفْقَةُ الْمُؤْمِنِينَ ، وَحُسْنُ دِفَاعِ اللَّهِ
عَنْهُمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَفَاتَهُ كُلُّ خَيْرٍ
رَتَّبَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى الْإِيمَانِ ، وَهُوَ نَحْوُ مِائَةِ
خَصْلَةٍ ، كُلُّ خَصْلَةٍ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا .
فَمِنْهَا : الْأَجْرُ الْعَظِيمُ : وَسَوْفَ يُؤْتِ
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 146 ] .
وَمِنْهَا :
الدَّفْعُ عَنْهُمْ شُرُورَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ :
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْحَجِّ : 38 ] .
[ ص: 72
] وَمِنْهَا : اسْتِغْفَارُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ لَهُمُ :
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ غَافِرٍ : 7 ] .
وَمِنْهَا : مُوَالَاةُ اللَّهِ لَهُمْ ، وَلَا يَذِلُّ مَنْ
وَالَاهُ اللَّهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [
سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 257 ] .
وَمِنْهَا
: أَمْرُهُ مَلَائِكَتَهُ بِتَثْبِيتِهِمْ : إِذْ يُوحِي
رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [
سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 12 ] .
وَمِنْهَا : أَنَّ لَهُمُ الدَّرَجَاتِ عِنْدَ رَبِّهِمْ
وَالْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ الْكَرِيمَ .
وَمِنْهَا :
الْعِزَّةُ : وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [ سُورَةُ
الْمُنَافِقُونَ : 8 ] .
وَمِنْهَا : مَعِيَّةُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ :
وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 19 ] .
وَمِنْهَا :
الرِّفْعَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : يَرْفَعِ
اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [
سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ : 11 ]
.
وَمِنْهَا : إِعْطَاؤُهُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ
وَإِعْطَاؤُهُمْ نُورًا يَمْشُونَ بِهِ وَمَغْفِرَةُ ذُنُوبِهِمْ .
وَمِنْهَا :
الْوُدُّ الَّذِي يَجْعَلُهُ سُبْحَانَهُ لَهُمْ ،
وَهُوَ أَنَّهُ يُحِبُّهُمْ وَيُحَبِّبُهُمْ إِلَى مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ
الصَّالِحِينَ .
وَمِنْهَا : أَمَانُهُمْ مِنَ الْخَوْفِ يَوْمَ
يَشْتَدُّ الْخَوْفُ : فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا
هُمْ يَحْزَنُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 48 ] .
وَمِنْهَا :
أَنَّهُمُ الْمُنْعَمُ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ أُمِرْنَا
أَنْ نَسْأَلَهُ أَنْ يَهْدِيَنَا إِلَى صِرَاطِهِمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ
سَبْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً .
وَمِنْهَا : أَنَّ الْقُرْآنَ إِنَّمَا هُوَ هُدًى لَهُمْ
وَشِفَاءٌ : [ ص: 73 ] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ
يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 44 ] .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ جَالِبٌ لِكُلِّ
خَيْرٍ ، وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ الْإِيمَانُ ،
وَكُلُّ شَرٍّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَسَبَبُهُ عَدَمُ الْإِيمَانِ ،
فَكَيْفَ يَهُونُ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَرْتَكِبَ شَيْئًا يُخْرِجُهُ مِنْ
دَائِرَةِ الْإِيمَانِ ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَلَكِنْ لَا يَخْرُجُ
مِنْ دَائِرَةِ عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَى الذُّنُوبِ
وَأَصَرَّ عَلَيْهَا خِيفَ عَلَيْهِ أَنْ يَرِينَ عَلَى قَلْبِهِ ، فَيُخْرِجُهُ
عَنِ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ، وَمِنْ هَاهُنَا اشْتَدَّ خَوْفُ السَّلَفِ ،
كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ : أَنْتُمْ تَخَافُونَ الذُّنُوبَ ، وَأَنَا أَخَافُ الْكُفْرَ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْقَلْبَوَمِنْ
عُقُوبَتِهَا : أَنَّهَا تُضْعِفُ سَيْرَ الْقَلْبِ إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ
، أَوْ تَعُوقُهُ أَوْ تُوقِفُهُ وَتَقْطَعُهُ عَنِ السَّيْرِ ، فَلَا تَدَعُهُ
يَخْطُو إِلَى اللَّهِ خُطْوَةً ، هَذَا إِنْ لَمْ تَرُدَّهُ عَنْ وُجْهَتِهِ
إِلَى وَرَائِهِ ، فَالذَّنْبُ يَحْجِبُ الْوَاصِلَ ، وَيَقْطَعُ السَّائِرَ ،
وَيُنَكِّسُ الطَّالِبَ ، وَالْقَلْبُ إِنَّمَا يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ بِقُوَّتِهِ
، فَإِذَا مَرِضَبِالذُّنُوبِ ضَعُفَتْ تِلْكَ الْقُوَّةُ الَّتِي تُسَيِّرُهُ ، فَإِنْ
زَالَتْ بِالْكُلِّيَّةِ انْقَطَعَ عَنِ اللَّهِ انْقِطَاعًا يَبْعُدُ تَدَارُكُهُ
، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَالذَّنْبُ إِمَّا يُمِيتُ الْقَلْبَ ، أَوْ يُمْرِضُهُ
مَرَضًا مُخَوِّفًا ، أَوْ يُضْعِفُ قُوَّتَهُ وَلَا بُدَّ حَتَّى يَنْتَهِيَ
ضَعْفُهُ إِلَى الْأَشْيَاءِ الثَّمَانِيَةِ الَّتِي اسْتَعَاذَ مِنْهَا
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ : [ الْهَمُّ ،
وَالْحَزَنُ ، وَالْعَجْزُ ، وَالْكَسَلُ ، وَالْجُبْنُ ، وَالْبُخْلُ ، وَضَلَعُ
الدَّيْنِ ، وَغَلَبَةُ الرِّجَالِ ] وَكُلُّ اثْنَيْنِ مِنْهَا قَرِينَانِ .
فَالْهَمُّ وَالْحَزَنُ قَرِينَانِ : فَإِنَّ
الْمَكْرُوهَ الْوَارِدَ عَلَى الْقَلْبِ إِنْ كَانَ مِنْ أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ
يَتَوَقَّعُهُ أَحْدَثَ الْهَمَّ ، وَإِنْكَانَ مِنْ أَمْرٍ مَاضٍ قَدْ وَقَعَ
أَحْدَثَ الْحَزَنَ .
وَالْعَجْزُ وَالْكَسَلُ قَرِينَانِ : فَإِنْ تَخَلَّفَ
الْعَبْدُ عَنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ وَالْفَلَاحِ ، إِنْ كَانَ لِعَدَمِ
قُدْرَتِهِ فَهُوَ الْعَجْزُ ، وَإِنْ كَانَ لِعَدَمِ إِرَادَتِهِ فَهُوَ
الْكَسَلُ .
وَالْجُبْنُ وَالْبُخْلُ قَرِينَانِ : فَإِنَّ عَدَمَ
النَّفْعِ مِنْهُ إِنْ كَانَ بِبَدَنِهِ فَهُوَ الْجُبْنُ ، وَإِنْ كَانَ
بِمَالِهِ فَهُوَ الْبُخْلُ .
وَضَلَعُ الدَّيْنِ وَقَهْرُ الرِّجَالِ قَرِينَانِ :
فَإِنَّ اسْتِعْلَاءَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ بِحَقٍّ فَهُوَ مِنْ ضَلَعِ
الدَّيْنِ ، وَإِنْ كَانَ بِبَاطِلٍ فَهُوَ مِنْ قَهْرِ الرِّجَالِ .
[ ص: 74
] وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ مِنْ أَقْوَى
الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِهَذِهِ الثَّمَانِيَةِ ، كَمَا أَنَّهَا مِنْ أَقْوَى
الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِجَهْدِ الْبَلَاءِ ، وَدَرَكِ الشَّقَاءِ ، وَسُوءِ الْقَضَاءِ
، وَشَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ ، وَمِنْ أَقْوَى الْأَسْبَابِ الْجَالِبَةِ لِزَوَالِ
نِعَمِ اللَّهِ ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ إِلَى نِقْمَتِهِ وَتَجْلِبُ جَمِيعَ
سُخْطِهِ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمَوَمِنْ عُقُوبَاتِ
الذُّنُوبِ : أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ ، وَتُحِلُّ النِّقَمَ ، فَمَا زَالَتْ
عَنِ الْعَبْدِ نِعْمَةٌ إِلَّا بِذَنْبٍ ، وَلَا حَلَّتْ بِهِ نِقْمَةٌ إِلَّا
بِذَنْبٍ ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
مَا نَزَلْ بَلَاءٌ إِلَّا بِذَنْبٍ ، وَلَا رُفِعَ إِلَّا بِتَوْبَةٍ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [ سُورَةُ
الشُّورَى : 30 ] . وَقَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ
مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 53 ] .
فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ
نِعَمَهُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي
يُغَيِّرُ مَا بِنَفْسِهِ ، فَيُغَيِّرُطَاعَةَ اللَّهِ بِمَعْصِيَتِهِ ،
وَشُكْرَهُ بِكُفْرِهِ ، وَأَسْبَابَ رِضَاهُ بِأَسْبَابِ سُخْطِهِ ، فَإِذَا
غَيَّرَ غَيَّرَ عَلَيْهِ ، جَزَاءً وِفَاقًا ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ .
فَإِنْ غَيَّرَ الْمَعْصِيَةَ بِالطَّاعَةِ ، غَيَّرَ
اللَّهُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ بِالْعَافِيَةِ ، وَالذُّلَّ بِالْعِزِّ .
وَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا
بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ
سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [ سُورَةُ
الرَّعْدِ : 11 ] .
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ الْإِلَهِيَّةِ ، عَنِ الرَّبِّ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلَالِي ، لَا يَكُونُ عَبْدٌ
مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أُحِبُّ ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أَكْرَهُ ،
إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى مَا يَكْرَهُ ، وَلَا يَكُونُ عَبْدٌ
مِنْ عَبِيدِي عَلَى مَا أَكْرَهُ ، فَيَنْتَقِلُ عَنْهُ إِلَى مَا أُحِبُّ ،
إِلَّا انْتَقَلْتُ لَهُ مِمَّا يَكْرَهُ إِلَى مَا يُحِبُّ . [ ص: 75 ]
وَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ :
إِذَا كُنْتَ فِي نِعْمَةٍ فَارْعَهَا *** فَإِنَّ
الذُّنُوبَ تُزِيلُ النِّعَمْ
وَحُطْهَا بِطَاعَةِ رَبِّ الْعِبَادِ *** فَرَبُّ
الْعِبَادِ سَرِيعُ النِّقَمْ
وَإِيَّاكَ وَالظُّلْمَ مَهْمَا اسْتَطَعْت *** فَظُلْمُ
الْعِبَادِ شَدِيدُ الْوَخَمْ
وَسَافِرْ بِقَلْبِكَ بَيْنَ الْوَرَى *** لِتَبْصُرَ
آثَارَ مَنْ قَدْ ظَلَمْ
فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ بَعْدَهُمْ *** شُهُودٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا تَتَّهِمْ
وَمَا كَانَ شَيْءٌ عَلَيْهِمْ أَضَرَّ *** مِنَ
الظُّلْمِ وَهُوَ الَّذِي قَدْ قَصَمْ
فَكَمْ تَرَكُوا مِنْ جِنَانٍ وَمِنْ *** قُصُورٍ
وَأُخْرَى عَلَيْهِمْ أُطُمْ
صَلَوْا بِالْجَحِيمِ وَفَاتَ النَّعِيمُ *** وَكَانَ
الَّذِي نَالَهُمْ كَالْحُلُمْ
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُلْقِي الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ فِي
الْقُلُوبِوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا مَا يُلْقِيهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
مِنَ الرُّعْبِ وَالْخَوْفِ فِي قَلْبِ الْعَاصِي ، فَلَا تَرَاهُ إِلَّا خَائِفًا
مَرْعُوبًا .
فَإِنَّ الطَّاعَةَ حِصْنُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ ، مَنْ
دَخَلَهُ كَانَ مِنَ الْآمِنِينَ مِنْ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ،
وَمَنْ خَرَجَ عَنْهُ أَحَاطَتْ بِهِ الْمَخَاوِفُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، فَمَنْ
أَطَاعَ اللَّهَ انْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي حَقِّهِ أَمَانًا ، وَمَنْ عَصَاهُ
انْقَلَبَتْ مَآمِنُهُ مَخَاوِفَ ، فَلَا تَجِدُ الْعَاصِيَ إِلَّا وَقَلْبُهُ
كَأَنَّهُ بَيْنَ جَنَاحَيْ طَائِرٍ ، إِنْ حَرَّكَتِ الرِّيحُ الْبَابَ قَالَ :
جَاءَ الطَّلَبُ ، وَإِنْ سَمِعَ وَقْعَ قَدَمٍ خَافَ أَنْ يَكُونَ نَذِيرًا
بِالْعَطَبِ ، يَحْسَبُ أَنَّ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِ ، وَكُلَّ مَكْرُوهٍ
قَاصِدٌ إِلَيْهِ ، فَمَنْ خَافَ اللَّهَ آمَنَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ، وَمَنْ لَمْ
يَخَفِ اللَّهَ أَخَافَهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ :
بِذَا قَضَى اللَّهُ بَيْنَ الْخَلْقِ مُذْ خُلِقُوا
أَنَّ الْمَخَاوِفَ وَالْأَجْرَامَ فِي قَرَنِ
************** الْمَعَاصِي تُوقِعُ فِي الْوَحْشَةِ **************
وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا أَنَّهَا تُوقِعُ الْوَحْشَةَ
الْعَظِيمَةَ فِي الْقَلْبِ فَيَجِدُ الْمُذْنِبُ نَفْسَهُ مُسْتَوْحِشًا ، قَدْ
وَقَعَتِ الْوَحْشَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ
نَفْسِهِ ، وَكُلَّمَا كَثُرَتِ الذُّنُوبُ اشْتَدَّتِ الْوَحْشَةُ ، وَأَمَرُّ الْعَيْشِ
عَيْشُ الْمُسْتَوْحِشِينَ الْخَائِفِينَ ، وَأَطْيَبُ الْعَيْشِ عَيْشُ
الْمُسْتَأْنِسِينَ ، فَلَوْ نَظَرَالْعَاقِلُ وَوَازَنَ لَذَّةَ الْمَعْصِيَةِ
وَمَا تُوقِعُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْوَحْشَةِ ، لَعَلِمَ سُوءَ حَالِهِ ،
وَعَظِيمَ غَبْنِهِ ، إِذْ بَاعَ أُنْسَ الطَّاعَةِ وَأَمْنَهَا وَحَلَاوَتَهَا
بِوَحْشَةِ الْمَعْصِيَةِ وَمَا تُوجِبُهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالضَّرَرِ الدَّاعِي
لَهُ .
كَمَا قِيلَ
:
فَإِنْ كُنْتَ قَدْ أَوْحَشَتْكَ الذُّنُوبُ ***
فَدَعْهَا إِذَا شِئْتَ وَاسْتَأْنِسِ
[ ص: 76 ] وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الطَّاعَةَ
تُوجِبُ الْقُرْبَ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ ، فَكُلَّمَا اشْتَدَّ الْقُرْبُ
قَوِيَ الْأُنْسُ ، وَالْمَعْصِيَةُ تُوجِبُ الْبُعْدَ مِنَ الرَّبِّ ، وَكُلَّمَا
زَادَ الْبُعْدُ قَوِيَتِ الْوَحْشَةُ.
وَلِهَذَا يَجِدُ الْعَبْدُ وَحْشَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ
عَدُوِّهِ لِلْبُعْدِ الَّذِي بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ مُلَابِسًا لَهُ ،
قَرِيبًا مِنْهُ ، وَيَجِدُ أُنْسًا قَوِيًّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُحِبُّ ،
وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ .
وَالْوَحْشَةُ سَبَبُهَا الْحِجَابُ ، وَكُلَّمَا غَلُظَ
الْحِجَابُ زَادَتِ الْوَحْشَةُ ، فَالْغَفْلَةُ تُوجِبُ الْوَحْشَةَ ، وَأَشَدُّ
مِنْهَا وَحْشَةُ الْمَعْصِيَةِ ، وَأَشَدُّ مِنْهَا وَحْشَةُ الشِّرْكِ
وَالْكُفْرِ ، وَلَا تَجِدُ أَحَدًا مُلَابِسًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا
وَيَعْلُوهُ مِنَ الْوَحْشَةِ بِحَسْبِ مَا لَابَسَهُ مِنْهُ ، فَتَعْلُو
الْوَحْشَةُ وَجْهَهُ وَقَلْبَهُ فَيَسْتَوْحِشُ وَيُسْتَوْحَشُ مِنْهُ .
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُمْرِضُ الْقُلُوبَوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا :
أَنَّهَا تَصْرِفُ الْقَلْبَ عَنْ صِحَّتِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ إِلَى مَرَضِهِ
وَانْحِرَافِهِ ، فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا مَعْلُولًا لَا يَنْتَفِعُ
بِالْأَغْذِيَةِ الَّتِي بِهَا حَيَاتُهُ وَصَلَاحُهُ ، فَإِنَّ تَأْثِيرَ
الذُّنُوبِ فِي الْقُلُوبِ كَتَأْثِيرِ الْأَمْرَاضِ فِي الْأَبْدَانِ ، بَلِ
الذُّنُوبُ أَمْرَاضُ الْقُلُوبِ وَدَاؤُهَا ، وَلَا دَوَاءَ لَهَا إِلَّا
تَرْكُهَا .
وَقَدْ أَجْمَعَ السَّائِرُونَ إِلَى اللَّهِ أَنَّ
الْقُلُوبَ لَا تُعْطَى مُنَاهَا حَتَّى تَصِلَ إِلَى مَوْلَاهَا ، وَلَا تَصِلُ
إِلَى مَوْلَاهَا حَتَّى تَكُونَ صَحِيحَةً سَلِيمَةً ، وَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً
سَلِيمَةً حَتَّى يَنْقَلِبَ دَاؤُهَا ، فَيَصِيرَ نَفْسَ دَوَائِهَا ، وَلَا
يَصِحُّ لَهَا ذَلِكَ إِلَّا بِمُخَالَفَةِ هَوَاهَا ، فَهَوَاهَا مَرَضُهَا ، وَشِفَاؤُهَا
مُخَالَفَتُهُ ، فَإِنِ اسْتَحْكَمَ الْمَرَضُ قَتَلَ أَوْ كَادَ .
وَكَمَا أَنَّ مَنْ نَهَى نَفْسَهُ عَنِ الْهَوَى
كَانَتِ الْجَنَّةُ مَأْوَاهُ ، فَكَذَا يَكُونُ قَلْبُهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي
جَنَّةٍ عَاجِلَةٍ ، لَا يُشْبِهُ نَعِيمُ أَهْلِهَا نَعِيمًا الْبَتَّةَ ، بَلِ
التَّفَاوُتُ الَّذِي بَيْنَ النَّعِيمَيْنِ ، كَالتَّفَاوُتِ الَّذِي بَيْنَ
نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُصَدِّقُ بِهِ إِلَّا مَنْ
بَاشَرَ قَلْبُهُ هَذَا وَهَذَا
.
وَلَا تَحْسَبُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : إِنَّ
الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [ سُورَةُ
الِانْفِطَارِ : 13 - 14 ] مَقْصُورٌ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَجَحِيمِهَا فَقَطْ بَلْ
فِي دُورِهِمُ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ - أَعْنِي دَارَ الدُّنْيَا ، وَدَارَ الْبَرْزَخِ
، وَدَارَ الْقَرَارِ - فَهَؤُلَاءِ فِي نَعِيمٍ ، وَهَؤُلَاءِ فِي جَحِيمٍ ،
وَهَلِ النَّعِيمُ إِلَّا نَعِيمُ الْقَلْبِ ؟ وَهَلِ الْعَذَابُ إِلَّا عَذَابُ
الْقَلْبِ ؟ وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْخَوْفِ وَالْهَمِّ وَالْحُزْنِ ،
وَضِيقِ الصَّدْرِ ، وَإِعْرَاضِهِ عَنِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ،
وَتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ ، وَانْقِطَاعِهِ عَنِ اللَّهِ ، بِكُلِّ وَادٍ
مِنْهُ شُعْبَةٌ ؟ وَكُلُّ شَيْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ وَأَحَبَّهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
فَإِنَّهُ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ
.
[ ص: 77 ] فَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ
عُذِّبَ بِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَهُوَ يُعَذَّبُ بِهِ
قَبْلَ حُصُولِهِ حَتَّى يَحْصُلَ ، فَإِذَا حَصَلَ عُذِّبَ بِهِ حَالَ حُصُولِهِ
بِالْخَوْفِ مِنْ سَلْبِهِ وَفَوَاتِهِ ، وَالتَّنْغِيصِ وَالتَّنْكِيدِ عَلَيْهِ
، وَأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي هَذِهِ الْمُعَارَضَاتِ ، فَإِذَا سُلِبَهُ
اشْتَدَّ عَلَيْهِ عَذَابُهُ ، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ فِي
هَذِهِ الدَّارِ .
وَأَمَّا فِي الْبَرْزَخِ : فَعَذَابٌ يُقَارِنُهُ
أَلَمُ الْفِرَاقِ الَّذِي لَا يَرْجُو عَوْدَةً وَأَلَمُ فَوَاتِ مَا فَاتَهُ
مِنَ النَّعِيمِ الْعَظِيمِ بِاشْتِغَالِهِ بِضِدِّهِ ، وَأَلَمُ الْحِجَابِ عَنِ
اللَّهِ ، وَأَلَمُ الْحَسْرَةِ الَّتِي تَقْطَعُ الْأَكْبَادَ ، فَالْهَمُّ
وَالْغَمُّ وَالْحُزْنُ تَعْمَلُ فِي نُفُوسِهِمْ نَظِيرَ مَا يَعْمَلُ
الْهَوَامُّ وَالدِّيدَانُ فِي أَبْدَانِهِمْ ، بَلْ عَمَلُهَا فِي النُّفُوسِ
دَائِمٌ مُسْتَمِرٌّ ، حَتَّى يَرُدَّهَا اللَّهُ إِلَى أَجْسَادِهَا ،
فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ الْعَذَابُ إِلَى نَوْعٍ هُوَ أَدْهَى وَأَمَرُّ ،
فَأَيْنَ هَذَا مِنْ نَعِيمِ مَنْ يَرْقُصُ قَلْبُهُ طَرَبًا وَفَرَحًا وَأُنْسًا بِرَبِّهِ
، وَاشْتِيَاقًا إِلَيْهِ ، وَارْتِيَاحًا بِحُبِّهِ ، وَطُمَأْنِينَةً بِذِكْرِهِ
؟ حَتَّى يَقُولَ بَعْضُهُمْ فِي حَالِ نَزْعِهِ : وَاطَرَبَاهُ .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : مَسَاكِينُ أَهْلُ الدُّنْيَا ،
خَرَجُوا مِنْهَا وَمَا ذَاقُوا لَذِيذَ الْعَيْشِ فِيهَا ، وَمَا ذَاقُوا
أَطْيَبَ مَا فِيهَا .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ
وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ .
وَيَقُولُ الْآخَرُ : إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً مَنْ
لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ .
فَيَا مَنْ بَاعَ حَظَّهُ الْغَالِي بِأَبْخَسِ
الثَّمَنِ ، وَغُبِنَ كُلَّ الْغَبْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ
قَدْ غُبِنَ ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ خِبْرَةٌ بِقِيمَةِ السِّلْعَةِ فَسَلِ
الْمُقَوِّمِينَ ، فَيَا عَجَبًا مِنْ بِضَاعَةٍ مَعَكَ اللَّهُ مُشْتَرِيهَا
وَثَمَنُهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ، وَالسَّفِيرُ الَّذِي جَرَى عَلَى يَدِهِ عَقْدُ
التَّبَايُعِ وَضَمِنَ الثَّمَنَ عَنِ الْمُشْتَرِي هُوَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَدْ بِعْتَهَا بِغَايَةِ الْهَوَانِ ، كَمَا قَالَ
الْقَائِلُ :
إِذَا كَانَ هَذَا فِعْلُ عَبْدٍ بِنَفْسِهِ فَمَنْ ذَا
لَهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ يُكْرِمُ
وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ] .
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُعْمِي الْبَصِيرَةَوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا :
أَنَّهَا تُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ ، وَتَطْمِسُ نُورَهُ ، وَتَسُدُّ طُرُقَ
الْعِلْمِ ، وَتَحْجُبُ مَوَادَّ الْهِدَايَةِ .
[ ص: 78 ] وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ لِلشَّافِعِيِّ لَمَّا
اجْتَمَعَ بِهِ وَرَأَى تِلْكَ الْمَخَايِلَ : إِنِّي أَرَى اللَّهَ تَعَالَى قَدْ
أَلْقَى عَلَى قَلْبِكَ نُورًا ، فَلَا تُطْفِئْهُ بِظُلْمَةِ الْمَعْصِيَةِ .
وَلَا يَزَالُ هَذَا النُّورُ يَضْعُفُ وَيَضْمَحِلُّ ،
وَظَلَامُ الْمَعْصِيَةِ يَقْوَى حَتَّى يَصِيرَ الْقَلْبُ فِي مِثْلِ اللَّيْلِ
الْبَهِيمِ ، فَكَمْ مِنْ مُهْلَكٍ يَسْقُطُ فِيهِ وَلَا يُبْصِرُ ، كَأَعْمَى
خَرَجَ بِاللَّيْلِ فِي طَرِيقٍ ذَاتِ مَهَالِكَ وَمَعَاطِبَ ، فَيَا عِزَّةَ
السَّلَامَةِ وَيَا سُرْعَةَ الْعَطَبِ ، ثُمَّ تَقْوَى تِلْكَ الظُّلُمَاتُ ،
وَتَفِيضُ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الْجَوَارِحِ ، فَيَغْشَى الْوَجْهَ مِنْهَا
سَوَادٌ ، بِحَسَبِ قُوَّتِهَا وَتَزَايُدِهَا ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ ظَهَرَتْ
فِي الْبَرْزَخِ ، فَامْتَلَأَ الْقَبْرُ ظُلْمَةً ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ هَذِهِ الْقُبُورَ مُمْتَلِئَةٌ عَلَى
أَهْلِهَا ظُلْمَةً ، وَإِنَّ اللَّهَ يُنَوِّرُهَا بِصَلَاتِي عَلَيْهِمْ .
فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمَعَادِ ، وَحُشِرَ الْعِبَادُ
، عَلَتِ الظُّلْمَةُ الْوُجُوهَ عُلُوًّا ظَاهِرًا يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ ، حَتَّى
يَصِيرَ الْوَجْهُ أَسْوَدَ مِثْلَ الْحُمَمَةِ ، فَيَالَهَا مِنْ عُقُوبَةٍ لَا
تُوَازَنُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا ،
فَكَيْفَ بِقِسْطِ الْعَبْدِ الْمُنَغَّصِ الْمُنَكَّدِ الْمُتْعَبِ فِي زَمَنٍ
إِنَّمَا هُوَ سَاعَةٌ مِنْ حُلْمٍ ؟ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُصَغِّرُ النَّفْسَوَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُصَغِّرُ النَّفْسَ ، وَتَقْمَعُهَا ، وَتُدَسِّيهَا ،
وَتَحْقِرُهَا ، حَتَّى تَكُونَ أَصْغَرَ كُلِّ شَيْءٍ وَأَحْقَرَهُ ، كَمَا أَنَّ
الطَّاعَةَ تُنَمِّيهَا وَتُزَكِّيهَا وَتُكَبِّرُهَا ، قَالَ تَعَالَى : قَدْ
أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [ سُورَةُ الشَّمْسِ : 9 -
10 ] ، وَالْمَعْنَى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
كَبَّرَهَا وَأَعْلَاهَا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَأَظْهَرَهَا ، وَقَدْ خَسِرَ مَنْ
أَخْفَاهَا وَحَقَّرَهَا وَصَغَّرَهَا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ .
وَأَصْلُ التَّدْسِيَةِ : الْإِخْفَاءُ ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُ تَعَالَى : أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 59 ] .
فَالْعَاصِي يَدُسُّ نَفْسَهُ فِي الْمَعْصِيَةِ ،
وَيُخْفِي مَكَانَهَا ، يَتَوَارَى مِنَ الْخَلْقِ مِنْ سُوءِ مَا يَأْتِي بِهِ ،
وَقَدِ انْقَمَعَ عِنْدَ نَفْسِهِ ، وَانْقَمَعَ عِنْدَ اللَّهِ ، وَانْقَمَعَ
عِنْدَ الْخَلْقِ ، فَالطَّاعَةُ وَالْبِرُّ تُكَبِّرُ النَّفْسَ وَتُعِزُّهَا
وَتُعْلِيهَا ، حَتَّى تَصِيرَ أَشْرَفَ شَيْءٍ وَأَكْبَرَهُ ، وَأَزْكَاهُ
وَأَعْلَاهُ ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهِيَ أَذَلُّ شَيْءٍ وَأَحْقَرُهُ وَأَصْغَرُهُ
لِلَّهِ تَعَالَى ، وَبِهَذَا الذُّلِّ حَصَلَ لَهَا هَذَا الْعِزُّ وَالشَّرَفُ وَالنُّمُوُّ
، فَمَا أَصْغَرَ النُّفُوسَ مِثْلُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، وَمَا كَبَّرَهَا
وَشَرَّفَهَا وَرَفَعَهَا مِثْلُ طَاعَةِ اللَّهِ.
[ ص: 79 ]
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي فِي سِجْنِ الشَّيْطَانِوَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّ الْعَاصِيَ دَائِمًا فِي أَسْرِ شَيْطَانِهِ ، وَسِجْنِ
شَهَوَاتِهِ ، وَقُيُودِ هَوَاهُ ، فَهُوَ أَسِيرٌ مَسْجُونٌ مُقَيَّدٌ ، وَلَا
أَسِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ أَسِيرٍ أَسَرَهُ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ ، وَلَا سِجْنَ
أَضْيَقُ مِنْ سِجْنِ الْهَوَى ، وَلَا قَيْدَ أَصْعَبُ مِنْ قَيْدِ الشَّهْوَةِ ،
فَكَيْفَ يَسِيرُ إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ قَلْبٌ مَأْسُورٌ مَسْجُونٌ
مُقَيَّدٌ ؟ وَكَيْفَ يَخْطُو خُطْوَةً وَاحِدَةً ؟
وَإِذَا قُيِّدَ الْقَلْبُ طَرَقَتْهُ الْآفَاتُ مِنْ
كُلِّ جَانِبٍ بِحَسَبِ قُيُودِهِ ، وَمَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الطَّائِرِ ، كُلَّمَا
عَلَا بَعُدَ عَنِ الْآفَاتِ ، وَكُلَّمَا نَزَلَ اسْتَوْحَشَتْهُ الْآفَاتُ .
وَفِي الْحَدِيثِ : الشَّيْطَانُ ذِئْبُ الْإِنْسَانِ .
وَكَمَا أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي لَا حَافِظَ لَهَا
وَهِيَ بَيْنَ الذِّئَابِ سَرِيعَةُ الْعَطَبِ ، فَكَذَا الْعَبْدُ إِذَا لَمْ
يَكُنْ عَلَيْهِ حَافِظٌ مِنَ اللَّهِفَذِئْبُهُ مُفْتَرِسُهُ وَلَا بُدَّ ،
وَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَيْهِ حَافِظٌ مِنَ اللَّهِ بِالتَّقْوَى ، فَهِيَ
وِقَايَةٌ وَجُنَّةٌ ، حَصِينَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِئْبِهِ ، كَمَا هِيَ
وِقَايَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَكُلَّمَا
كَانَتِ الشَّاةُ أَقْرَبَ مِنَ الرَّاعِي كَانَتْ أَسْلَمَ مِنَ الذِّئْبِ ، وَكُلَّمَا
بَعُدَتْ عَنِ الرَّاعِي كَانَتْ أَقْرَبَ إِلَى الْهَلَاكِ ، فَأَسْلَمُ مَا
تَكُونُ الشَّاةُ إِذَا قَرُبَتْ مِنَ الرَّاعِي ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الذِّئْبُ
الْقَاصِيَةَ مِنَ الْغَنَمِ ، وَهِيَ أَبْعَدُ مِنَ الرَّاعِي .
وَأَصْلُ هَذَا كُلِّهِ : أَنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا
كَانَ أَبْعَدَ مِنَ اللَّهِ كَانَتِ الْآفَاتُ إِلَيْهِ أَسْرَعَ ، وَكُلَّمَا
قَرُبَ مِنَ اللَّهِ بَعُدَتْ عَنْهُالْآفَاتُ .
وَالْبُعْدُ مِنَ اللَّهِ مَرَاتِبٌ ، بَعْضُهَا أَشَدُّ
مِنْ بَعْضٍ ، فَالْغَفْلَةُ تُبْعِدُ الْقَلْبَ عَنِ اللَّهِ ، وَبُعْدُ
الْمَعْصِيَةِ أَعْظَمُ مِنْ بُعْدِ الْغَفْلَةِ ، وَبُعْدُ الْبِدْعَةِ أَعْظَمُ
مِنْ بُعْدِ الْمَعْصِيَةِ ، وَبُعْدُ النِّفَاقِ وَالشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُسْقِطُ الْكَرَامَةَوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا
: سُقُوطُ الْجَاهِ وَالْمَنْزِلَةِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ
خَلْقِهِ ، فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ ،
وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَطْوَعُهُمْ لَهُ ، وَعَلَى قَدْرِ طَاعَةِ
الْعَبْدِ تَكُونُ لَهُ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ ، فَإِذَا عَصَاهُ وَخَالَفَ
أَمْرَهُ سَقَطَ مِنْ عَيْنِهِ ، فَأَسْقَطَهُ مِنْ قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِذَا
لَمْ يَبْقَ لَهُ جَاهٌ عِنْدَ الْخَلْقِوَهَانَ عَلَيْهِمْ عَامَلُوهُ عَلَى
حَسْبِ ذَلِكَ ، فَعَاشَ بَيْنَهُمْ أَسْوَأَ عَيْشٍ خَامِلَ الذِّكْرِ ، [ ص: 80
] سَاقِطَ الْقَدْرِ ، زَرِيَّ الْحَالِ ، لَا حُرْمَةَ لَهُ وَلَا فَرَحَ لَهُ
وَلَا سُرُورَ ، فَإِنَّ خُمُولَ الذِّكْرِ وَسُقُوطَ الْقَدْرِ وَالْجَاهِ مَعَهُ
كُلُّ غَمٍّ وَهَمٍّ وَحَزَنٍ ، وَلَا سُرُورَ مَعَهُ وَلَا فَرَحَ ، وَأَيْنَ
هَذَا الْأَلَمُ مِنْ لَذَّةِ الْمَعْصِيَةِ لَوْلَا سُكْرُ الشَّهْوَةِ ؟
وَمِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ : أَنْ يَرْفَعَ
لَهُ بَيْنَ الْعَالَمِينَ ذِكْرَهُ ، وَيُعْلِي قَدْرَهُ ، وَلِهَذَا خَصَّ
أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ ، كَمَا قَالَ
تَعَالَى : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي
الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ [
سُورَةُ ص 45 : - 46 ] .
أَيْ :
خَصَصْنَاهُمْ بِخِصِّيصَةٍ ، وَهُوَ الذِّكْرُ
الْجَمِيلُ الَّذِي يُذْكَرُونَ بِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَهُوَ لِسَانُ
الصِّدْقِ الَّذِي سَأَلَهُ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ حَيْثُ قَالَ : وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 84 ] .
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهُ وَعَنْ بَنِيهِ :
وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا
[ سُورَةُ مَرْيَمَ : 50 ] .
وَقَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [ سُورَةُ الشَّرْحِ : 4 ] .
فَأَتْبَاعُ الرُّسُلِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ ذَلِكَ
بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمْ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمُتَابَعَتِهِمْ ، وَكُلُّ مَنْ
خَالَفَهُمْ فَإِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَسَبِ مُخَالَفَتِهِمْ
وَمَعْصِيَتِهِمْ .
فَصْلٌ:
الْمَعْصِيَةُ مَجْلَبَةٌ لِلذَّمِّوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا
: أَنَّهَا تَسْلُبُ صَاحِبَهَا أَسْمَاءَ الْمَدْحِ وَالشَّرَفِ ، وَتَكْسُوهُ أَسْمَاءَ
الذَّمِّ وَالصَّغَارِ ، فَتَسْلُبُهُ اسْمَ الْمُؤْمِنِ ، وَالْبَرِّ ،
وَالْمُحْسِنِ ، وَالْمُتَّقِي ، وَالْمُطِيعِ ، وَالْمُنِيبِ ، وَالْوَلِيِّ ،
وَالْوَرِعِ ، وَالصَّالِحِ ، وَالْعَابِدِ ، وَالْخَائِفِ ، وَالْأَوَّابِ ،
وَالطَّيِّبِ ، وَالْمَرَضِيِّ وَنَحْوِهَا .
وَتَكْسُوهُ اسْمَ الْفَاجِرِ ، وَالْعَاصِي ،
وَالْمُخَالِفِ ، وَالْمُسِيءِ ، وَالْمُفْسِدِ ، وَالْخَبِيثِ ، وَالْمَسْخُوطِ ،
وَالزَّانِي ، وَالسَّارِقِ ، وَالْقَاتِلِ ، وَالْكَاذِبِ ، وَالْخَائِنِ ، وَاللُّوطِيِّ
، وَقَاطِعِ الرَّحِمِ ، وَالْغَادِرِ وَأَمْثَالِهَا .
[ ص: 81 ] فَهَذِهِ أَسْمَاءُ الْفُسُوقِ وَ بِئْسَ
الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ [ سُورَةُ الْحُجُرَاتِ : 11 ] الَّذِي
يُوجِبُ غَضَبَ الدَّيَّانِ ، وَدُخُولَ النِّيرَانِ ، وَعَيْشَ الْخِزْيِ
وَالْهَوَانِ .
وَتِلْكَ أَسْمَاءٌ تُوجِبُ رِضَاءَ الرَّحْمَنِ ،
وَدُخُولَ الْجِنَانِ ، وَتُوجِبُ شَرَفَ الْمُسَمَّى بِهَا عَلَى سَائِرِ
أَنْوَاعِ الْإِنْسَانِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي عُقُوبَةِ الْمَعْصِيَةِ إِلَّا
اسْتِحْقَاقُ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ وَمُوجِبَاتِهَا لَكَانَ فِي الْعَقْلِ نَاهٍ
عَنْهَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ثَوَابِ الطَّاعَةِ إِلَّا الْفَوْزُ بِتِلْكَ الْأَسْمَاءِ
وَمُوجِبَاتِهَا لَكَانَ فِي الْعَقْلِ آمِرٌ بِهَا ، وَلَكِنْ لَا مَانِعَ لِمَا
أَعْطَى اللَّهُ ، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدَ ،
وَلَا مُبْعِدَ لِمَنْ قَرَّبَ ، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 18 ]
فَصْلٌ: الْمَعْصِيَةُ تُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِوَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُؤَثِّرُ بِالْخَاصَّةِ فِي نُقْصَانِ الْعَقْلِ ،
فَلَا تَجِدُ عَاقِلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُطِيعٌ لِلَّهِ وَالْآخَرُ عَاصٍ ، إِلَّا
وَعَقْلُ الْمُطِيعِ مِنْهُمَا أَوْفَرُ وَأَكْمَلُ ، وَفِكْرُهُ أَصَحُّ ،
وَرَأْيُهُ أَسَدُّ ، وَالصَّوَابُ قَرِينُهُ .
وَلِهَذَا تَجِدُ خِطَابَ الْقُرْآنِ إِنَّمَا هُوَ مَعَ
أُولِي الْعُقُولِ وَالْأَلْبَابِ ، كَقَوْلِهِ : وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ
[ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 197 ] ، وَقَوْلِهِ : فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي
الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 100 ] ،
وَقَوْلِهِ : وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ
: 269 ] ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَكَيْفَ يَكُونُ عَاقِلًا وَافِرَ الْعَقْلِ مَنْ
يَعْصِي مَنْ هُوَ فِي قَبْضَتِهِ وَفِي دَارِهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ
يَرَاهُ وَيُشَاهِدُهُ فَيَعْصِيهِ وَهُوَ بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُتَوَارٍ عَنْهُ ، وَيَسْتَعِينُ
بِنِعَمِهِ عَلَى مَسَاخِطِهِ ، وَيَسْتَدْعِي كُلَّ وَقْتٍ غَضَبَهُ عَلَيْهِ ،
وَلَعْنَتَهُ لَهُ ، وَإِبْعَادَهُ مِنْ قُرْبِهِ ، وَطَرْدَهُ عَنْ بَابِهِ ،
وَإِعْرَاضَهُ عَنْهُ ، وَخِذْلَانَهُ لَهُ ، وَالتَّخْلِيَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
نَفْسِهِ وَعَدُوِّهِ ، وَسُقُوطَهُ مِنْ عَيْنِهِ ، وَحِرْمَانَهُ رُوحَ رِضَاهُ
[ ص: 82 ] وَحُبَّهُ ، وَقُرَّةَ الْعَيْنِ بِقُرْبِهِ ، وَالْفَوْزَ بِجِوَارِهِ
، وَالنَّظَرَ إِلَى وَجْهِهِ فِي زُمُرَةِ أَوْلِيَائِهِ ، إِلَى أَضْعَافِ
أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَتِهِ أَهْلَ الطَّاعَةِ ، وَأَضْعَافِ أَضْعَافِ
ذَلِكَ مِنْ عُقُوبَةِ أَهْلِ الْمَعْصِيَةِ .
فَأَيُّ عَقْلٍ لِمَنْ آثَرَ لَذَّةَ سَاعَةٍ أَوْ
يَوْمٍ أَوْ دَهْرٍ ، ثُمَّ تَنْقَضِي كَأَنَّهَا حُلْمٌ لَمْ يَكُنْ ، عَلَى
هَذَا النَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، وَالْفَوْزِ الْعَظِيمِ ؟ بَلْ هُوَ سَعَادَةُ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَلَوْلَا الْعَقْلُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ عَلَيْهِ
الْحُجَّةُ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَانِينِ ، بَلْ قَدْ يَكُونُ الْمَجَانِينُ
أَحْسَنَ حَالًا مِنْهُ وَأَسْلَمَ عَاقِبَةً ، فَهَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَأَمَّا تَأْثِيرُهَا فِي نُقْصَانِ الْعَقْلِ
الْمَعِيشِ ، فَلَوْلَا الِاشْتِرَاكُ فِي هَذَا النُّقْصَانِ ، لَظَهَرَ
لِمُطِيعِنَا نُقْصَانُ عَقْلِ عَاصِينَا ، وَلَكِنَّ الْجَائِحَةَ عَامَّةٌ ،
وَالْجُنُونَ فُنُونٌ .
وَيَا عَجَبًا لَوْ صَحَّتِ الْعُقُولُ لَعَلِمَتْ أَنَّ
طَرِيقَ تَحْصِيلِ اللَّذَّةِ وَالْفَرْحَةِ وَالسُّرُورِ وَطِيبِ الْعَيْشِ ،
إِنَّمَا هُوَ فِي رِضَاءِ مَنِ النَّعِيمُ كُلُّهُ فِي رِضَاهُ ، وَالْأَلَمُ
وَالْعَذَابُ كُلُّهُ فِي سُخْطِهِ وَغَضَبِهِ ، فَفِي رِضَاهُ قُرَّةُ الْعُيُونِ
، وَسُرُورُ النُّفُوسِ ، وَحَيَاةُالْقُلُوبِ ، وَلَذَّةُ الْأَرْوَاحِ ، وَطِيبُ
الْحَيَاةِ ، وَلَذَّةُ الْعَيْشِ ، وَأَطْيَبُ النَّعِيمِ ، وَمِمَّا لَوْ وُزِنَ
مِنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ بِنَعِيمِالدُّنْيَا لَمْ يَفِ بِهِ ، بَلْ إِذَا حَصَلَ
لِلْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ أَيْسَرُ نَصِيبٍ لَمْ يَرْضَ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا
عِوَضًا مِنْهُ ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ يَتَنَعَّمُ بِنَصِيبِهِ مِنَ الدُّنْيَا
أَعْظَمَ مِنْ تَنَعُّمِ الْمُتْرَفِينَ فِيهَا ، وَلَا يَشُوبُ تَنَعُّمَهُ
بِذَلِكَ الْحَظِّ الْيَسِيرِ مَا يَشُوبُ تَنَعُّمَ الْمُتْرَفِينَ مِنَ
الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَحْزَانِ الْمُعَارِضَاتِ ، بَلْ قَدْ حَصَلَ لَهُ
عَلَى النَّعِيمَيْنِ وَهُوَ يَنْتَظِرُ نَعِيمَيْنِ آخَرَيْنِ أَعْظَمَ مِنْهُمَا
، وَمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي خِلَالِ ذَلِكَ مِنَ الْآلَامِ ، فَالْأَمْرُ كَمَا
قَالَ تَعَالَى : إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا
تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ [ سُورَةُ النِّسَاءِ :
104 ] .
فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا أَنْقَصَ عَقْلَ مَنْ
بَاعَ الدُّرَّ بِالْبَعْرِ ، وَالْمِسْكَ بِالرَّجِيعِ ، وَمُرَافَقَةَ الَّذِينَ
أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْمِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ
، بِمُرَافَقَةِ الَّذِينَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
.
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُوجِبُ الْقَطِيعَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ
وَالرَّبِّوَمِنْ أَعْظَمِ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُوجِبُ الْقَطِيعَةَ بَيْنَ
الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَإِذَا وَقَعَتِ الْقَطِيعَةُ
انْقَطَعَتْعَنْهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ وَاتَّصَلَتْ بِهِ أَسْبَابُ الشَّرِّ ،
فَأَيُّ فَلَاحٍ ، وَأَيُّ رَجَاءٍ ، وَأَيُّ عَيْشٍ لِمَنِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ
أَسْبَابُ الْخَيْرِ ، وَقَطَعَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلِيِّهِ وَمَوْلَاهُ
الَّذِي لَا غِنَى عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَلَا بَدَلَ لَهُ مِنْهُ ، وَلَا
عِوَضَ لَهُ عَنْهُ ، وَاتَّصَلَتْ بِهِ أَسْبَابُ الشَّرِّ ، وَوَصَلَ مَا
بَيْنَهُ [ ص: 83 ] وَبَيْنَ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ : فَتَوَلَّاهُ عَدُوُّهُ
وَتَخَلَّى عَنْهُ وَلِيُّهُ ؟ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا فِي هَذَا الِانْقِطَاعِ
وَالِاتِّصَالِ مِنْ أَنْوَاعِ الْآلَامِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : رَأَيْتُ الْعَبْدَ مُلْقًى بَيْنَ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَبَيْنَ الشَّيْطَانِ ، فَإِنْ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ
تَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ ، وَإِنْ تَوَلَّاهُ اللَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ
الشَّيْطَانُ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا
لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُأَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 50 ] .
يَقُولُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ : أَنَا أَكْرَمْتُ
أَبَاكُمْ ، وَرَفَعْتُ قَدْرَهُ ، وَفَضَّلْتُهُ عَلَى غَيْرِهِ ، فَأَمَرْتُ
مَلَائِكَتِي كُلَّهُمْ أَنْ يَسْجُدُوا لَهُ ، تَكْرِيمًا لَهُ وَتَشْرِيفًا ، فَأَطَاعُونِي
، وَأَبَى عَدُوِّي وَعَدُوُّهُ ، فَعَصَى أَمْرِي ، وَخَرَجَ عَنْ طَاعَتِي ،
فَكَيْفَ يَحْسُنُ بِكُمْ بَعْدَ هَذَا أَنْ تَتَّخِذُوهُ وَذُرِّيَّتَهُ
أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي ، فَتُطِيعُونَهُ فِي مَعْصِيَتِي ، وَتُوَالُونَهُ فِي
خِلَافِ مَرْضَاتِي وَهُمْ أَعْدَى عَدُوٍّلَكُمْ ؟ فَوَالَيْتُمْ عَدُوِّي وَقَدْ
أَمَرْتُكُمْ بِمُعَادَاتِهِ ، وَمَنْ وَالَى أَعْدَاءَ الْمَلِكِ ، كَانَ هُوَ وَأَعْدَاؤُهُ
عِنْدَهُ سَوَاءً ، فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ وَالطَّاعَةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا
بِمُعَادَاةِ أَعْدَاءِ الْمُطَاعِ وَمُوَالَاةِ أَوْلِيَائِهِ ، وَأَمَّا أَنْ
تُوَالِيَ أَعْدَاءَ الْمَلِكِ ثُمَّ تَدَّعِي أَنَّكَ مُوَالٍ لَهُ ، فَهَذَا
مُحَالٌ .
هَذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ عَدُوُّ الْمَلِكِ عَدُوًّا
لَكُمْ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَ عَدُوَّكُمْ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَالْعَدَاوَةُ
الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ أَعْظَمُ مِنَ الْعَدَاوَةِ الَّتِي بَيْنَ
الشَّاةِ وَبَيْنَ الذِّئْبِ ؟ فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يُوَالِيَ
عَدُوَّهُ عَدُوَّ وَلِيِّهِ وَمَوْلَاهُ الَّذِي لَا مَوْلَى لَهُ سِوَاهُ ، وَنَبَّهَ
سُبْحَانَهُ عَلَى قُبْحِ هَذِهِ الْمُوَالَاةِ بِقَوْلِهِ : وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [ سُورَةُ
الْكَهْفِ : 50 ] ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى قُبْحِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : فَفَسَقَ
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 50 ] ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَدَاوَتَهُ
لِرَبِّهِ وَعَدَاوَتَهُ لَنَا ، كُلٌّ مِنْهُمَا سَبَبٌ يَدْعُو إِلَى
مُعَادَاتِهِ ، فَمَا هَذِهِ الْمُوَالَاةُ ؟ وَمَا هَذَا الِاسْتِبْدَالُ ؟
بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا
.
وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ نَوْعٌ
مِنَ الْعِتَابِ لَطِيفٌ عَجِيبٌ وَهُوَ أَنِّي عَادَيْتُ إِبْلِيسَ إِذْ لَمْ
يَسْجُدْ لِأَبِيكُمْ آدَمَ مَعَ مَلَائِكَتِي فَكَانَتْ مُعَادَاتُهُ
لِأَجْلِكُمْ ، ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةُ هَذِهِ الْمُعَادَاةِ أَنْ عَقَدْتُمْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ عَقْدَ الْمُصَالَحَةِ
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تَمْحَقُ الْبَرَكَةَ[ ص: 84 ]
وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ
الْعُمُرِ ، وَبَرَكَةَ الرِّزْقِ ، وَبَرَكَةَ الْعِلْمِ ، وَبَرَكَةَ الْعَمَلِ
، وَبَرَكَةَ الطَّاعَةِ .
وَبِالْجُمْلَةِ أَنَّهَا تَمْحَقُ بَرَكَةَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا
، فَلَا تَجِدُ أَقَلَّ بَرَكَةٍ فِي عُمُرِهِ وَدِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِمَّنْ
عَصَى اللَّهَ ، وَمَا مُحِقَتِ الْبَرَكَةُ مِنَ الْأَرْضِ إِلَّا بِمَعَاصِي
الْخَلْقِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا
وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [
الْأَعْرَافِ : 96 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [ الْجِنِّ :
16 - 17 ] .
وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ
يُصِيبُهُ .
وَفِي الْحَدِيثِ : إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي
رُوعِي أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا ، فَاتَّقُوا
اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ ، فَإِنَّهُ لَا يُنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا
بِطَاعَتِهِ ، وَإِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَحَ فِي الرِّضَى
وَالْيَقِينِ ، وَجَعَلَ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْأَثَرُ الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ فِي
كِتَابِ الزُّهْدِ : أَنَا اللَّهُ ، إِذَا رَضِيتُ بَارَكْتُ ، وَلَيْسَ
لِبَرَكَتِي مُنْتَهًى ، وَإِذَا غَضِبْتُ لَعَنْتُ ، وَلَعْنَتِي تُدْرِكُ
السَّابِعَ مِنَ الْوَلَدِ .
وَلَيْسَتْ سَعَةُ الرِّزْقِ وَالْعَمَلِ بِكَثْرَتِهِ ،
وَلَا طُولُ الْعُمُرِ بِكَثْرَةِ الشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ ، وَلَكِنَّ سَعَةَ
الرِّزْقِ وَطُولَ الْعُمُرِ بِالْبَرَكَةِ فِيهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمْرَ الْعَبْدِ هُوَ مُدَّةُ
حَيَاتِهِ ، وَلَا حَيَاةَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ ،
بَلْ حَيَاةُ الْبَهَائِمِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ ، فَإِنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ
بِحَيَاةِ قَلْبِهِ وَرُوحِهِ ، وَلَا حَيَاةَ لِقَلْبِهِ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ
فَاطِرِهِ ، وَمَحَبَّتِهِ ، وَعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ،
وَالطُّمَأْنِينَةِ بِذِكْرِهِ ، وَالْأُنْسِ بِقُرْبِهِ ، وَمَنْ فَقَدَ هَذِهِ
الْحَيَاةَ فَقَدَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَوْ تَعَرَّضَ عَنْهَا بِمَا تَعَوَّضَ مِمَّا
فِي الدُّنْيَا ، بَلْ لَيْسَتِ الدُّنْيَا بِأَجْمَعِهَا عِوَضًا عَنْ هَذِهِ
الْحَيَاةِ ، فَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَفُوتُ الْعَبْدَ عِوَضٌ ، وَإِذَا فَاتَهُ
اللَّهُ لَمْ يُعَوِّضْ عَنْهُ شَيْءٌ الْبَتَّةَ .
وَكَيْفَ يُعَوَّضُ الْفَقِيرُ بِالذَّاتِ عَنِ الْغَنِيِّ
بِالذَّاتِ ، وَالْعَاجِزُ بِالذَّاتِ عَنِ الْقَادِرِ بِالذَّاتِ ، وَالْمَيِّتُ
عَنِ الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ، وَالْمَخْلُوقُ عَنِ الْخَالِقِ ، وَمَنْ لَا
وُجُودَ لَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ [ ص: 85 ] ذَاتِهِ الْبَتَّةَ عَمَّنْ
غِنَاهُ وَحَيَاتُهُ وَكَمَالُهُ وَوُجُودُهُ وَرَحْمَتُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ
؟ وَكَيْفَ يُعَوَّضُ مَنْ لَا يَمْلِكُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ عَمَّنْ لَهُ مُلْكُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ .
وَإِنَّمَا كَانَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ سَبَبًا لِمَحْقِ
بَرَكَةِ الرِّزْقِ وَالْأَجَلِ ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ مُوَكَّلٌ بِهَا
وَبِأَصْحَابِهَا ، فَسُلْطَانُهُ عَلَيْهِمْ ، وَحَوَالَتُهُ عَلَى هَذَا
الدِّيوَانِ وَأَهْلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ يَتَّصِلُ بِهِ
الشَّيْطَانُ وَيُقَارِنُهُ ، فَبَرَكَتُهُ مَمْحُوقَةٌ ، وَلِهَذَا شُرِعَ ذِكْرُ
اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ وَالْجِمَاعِ
لِمَا فِي مُقَارَنَةِ اسْمِ اللَّهِ مِنَ الْبَرَكَةِ ، وَذِكْرُ اسْمِهِ
يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ فَتَحْصُلُ الْبَرَكَةُ وَلَا مُعَارِضَ لَهُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ
لَا يَكُونُ لِلَّهِ فَبَرَكَتُهُ مَنْزُوعَةٌ ، فَإِنَّ الرَّبَّ هُوَ الَّذِي
يُبَارِكُ وَحْدَهُ ، وَالْبَرَكَةُ كُلُّهَا مِنْهُ ، وَكُلُّ مَا نُسِبَ
إِلَيْهِ مُبَارَكٌ ، فَكَلَامُهُ مُبَارَكٌ ، وَرَسُولُهُ مُبَارَكٌ ، وَعَبْدُهُ
الْمُؤْمِنُ النَّافِعُ لِخَلْقِهِ مُبَارَكٌ ، وَبَيْتُهُ الْحَرَامُ مُبَارَكٌ ،
وَكِنَانَتُهُ مِنْ أَرْضِهِ ، وَهِيَ الشَّامُ أَرْضُ الْبَرَكَةِ ، وَصَفَهَا
بِالْبَرَكَةِ فِي سِتِّ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ ، فَلَا مُبَارِكَ إِلَّا هُوَ
وَحْدَهُ ، وَلَا مُبَارَكَ إِلَّا مَا نُسِبَ إِلَيْهِ ، أَعْنِي إِلَى
أُلُوهِيَّتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ ، وَإِلَّا فَالْكَوْنُ كُلُّهُ مَنْسُوبٌ
إِلَى رُبُوبِيَّتِهِ وَخَلْقِهِ ، وَكُلُّ مَا بَاعَدَهُ مِنْ نَفْسِهِ مِنَ
الْأَعْيَانِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فَلَا بَرَكَةَ فِيهِ ، وَلَا خَيْرَ
فِيهِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْهُ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ مِنَ الْبَرَكَةِ
عَلَى حَسَبِ قُرْبِهِ مِنْهُ .
وَضِدُّ الْبَرَكَةِ اللَّعْنَةُ ؛ فَأَرْضٌ لَعَنَهَا
اللَّهُ أَوْ شَخْصٌ لَعَنَهُ اللَّهُ أَوْ عَمَلٌ لَعَنَهُ اللَّهُ أَبْعَدُ
شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ ، وَكُلَّمَا اتَّصَلَ بِذَلِكَ وَارْتَبَطَ
بِهِ وَكَانَ مِنْهُ بِسَبِيلٍ فَلَا بَرَكَةَ فِيهِ الْبَتَّةَ .
وَقَدْ لَعَنَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ وَجَعَلَهُ أَبْعَدَ
خَلْقِهِ مِنْهُ ، فَكُلُّ مَا كَانَ جِهَتَهُ فَلَهُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ بِقَدْرِ
قُرْبِهِ وَاتِّصَالِهِ بِهِ ، فَمِنْ هَاهُنَا كَانَ لِلْمَعَاصِي أَعْظَمُ
تَأْثِيرٍ فِي مَحْقِ بَرَكَةِ الْعُمُرِ وَالرِّزْقِ وَالْعِلْمِ وَالْعَمَلِ ،
وَكُلُّ وَقْتٍ عَصَيْتَ اللَّهَفِيهِ ، أَوْ مَالٍ عُصِيَ اللَّهُ بِهِ ، أَوْ
بَدَنٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ عِلْمٍ أَوْ عَمَلٍ فَهُوَ عَلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ لَهُ ،
فَلَيْسَ لَهُ مِنْ عُمُرِهِ وَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَجَاهِهِ وَعِلْمِهِ
وَعَمَلِهِ إِلَّا مَا أَطَاعَ اللَّهَ بِهِ .
وَلِهَذَا مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعِيشُ فِي هَذِهِ
الدَّارِ مِائَةَ سَنَةٍ أَوْ نَحْوَهَا ، وَيَكُونُ عُمُرُهُ لَا يَبْلُغُ
عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا ، كَمَا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَمْلِكُ
الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَيَكُونُ مَالُهُ فِي
الْحَقِيقَةِ لَا يَبْلُغُ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ نَحْوَهَا ، وَهَكَذَا الْجَاهُ
وَالْعِلْمُ .
وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا ، إِلَّا ذِكْرُ
اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ ، أَوْ عَالِمٌ أَوْ مُتَعَلِّمٌ .
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ : الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا
فِيهَا إِلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي فِيهِ الْبَرَكَةُ خَاصَّةً
، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعْصِيَةُ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا مِنَ
السَّفَلَةِ[ ص: 86 ]
وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَجْعَلُ صَاحِبَهَا
مِنَ السَّفَلَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُهَيَّئًا لِأَنْ يَكُونَ مِنَ الْعِلْيَةِ ،
فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ خَلْقَهُ قِسْمَيْنِ : عِلْيَةً ، وَسَفَلَةً ، وَجَعَلَ عِلِّيِّينَ
مُسْتَقَرَّ الْعِلْيَةِ ، وَأَسْفَلَ سَافِلِينَ مُسْتَقَرَّ السَّفَلَةِ ،
وَجَعَلَ أَهْلَ طَاعَتِهِالْأَعْلَيْنَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَأَهْلَ
مَعْصِيَتِهِ الْأَسْفَلِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، كَمَا جَعَلَ أَهْلَ
طَاعَتِهِ أَكْرَمَ خَلْقِهِعَلَيْهِ ، وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ أَهْوَنَ خَلْقِهِ
عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ الْعِزَّةَ لِهَؤُلَاءِ ، وَالذِّلَّةَ وَالصَّغَارَ
لِهَؤُلَاءِ ، كَمَا فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : بُعِثْتُ
بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي ، وَجُعِلَ
الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي
فَكُلَّمَا عَمِلَ الْعَبْدُ مَعْصِيَةً نَزَلَ إِلَى
أَسْفَلَ ، دَرَجَةً ، وَلَا يَزَالُ فِي نُزُولٍ حَتَّى يَكُونَ مِنَ
الْأَسْفَلِينَ ، وَكُلَّمَا عَمِلَ طَاعَةً ارْتَفَعَ بِهَا دَرَجَةً ، وَلَا
يَزَالُ فِي ارْتِفَاعٍ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْأَعْلَيْنَ .
وَقَدْ يَجْتَمِعُ لِلْعَبْدِ فِي أَيَّامِ حَيَاتِهِ
الصُّعُودُ مِنْ وَجْهٍ ، وَالنُّزُولُ مِنْ وَجْهٍ ، وَأَيُّهُمَا كَانَ أَغْلَبَ
عَلَيْهِ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَلَيْسَ مَنْ صَعِدَ مِائَةَ دَرَجَةٍ وَنَزَلَ
دَرَجَةً وَاحِدَةً ، كَمَنْ كَانَ بِالْعَكْسِ .
وَلَكِنْ يَعْرِضُ هَاهُنَا لِلنُّفُوسِ غَلَطٌ عَظِيمٌ
، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَنْزِلُ نُزُولًا بَعِيدًا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ، وَمِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَلَا
يَفِي صُعُودُهُ أَلْفَ دَرَجَةٍ بِهَذَا النُّزُولِ الْوَاحِدِ ، كَمَا فِي
الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ
: إِنَّ الْعَبْدَ لِيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ ، لَا يُلْقِي لَهَا
بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ .
فَأَيُّ صُعُودٍ يُوَازِنُ هَذِهِ النَّزْلَةَ ؟
وَالنُّزُولُ أَمْرٌ لَازِمٌ لِلْإِنْسَانِ ، وَلَكِنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ
نُزُولُهُ إِلَى غَفْلَةٍ ، فَهَذَا مَتَى اسْتَيْقَظَ مِنْ غَفْلَتِهِ عَادَ
إِلَى دَرَجَتِهِ ، أَوْ إِلَى أَرْفَعَ مِنْهَا بِحَسْبَ يَقَظَتِهِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نُزُولُهُ إِلَى مُبَاحٍ لَا
يَنْوِي بِهِ الِاسْتِعَانَةَ عَلَى الطَّاعَةِ ، فَهَذَا مَتَى رَجَعَ إِلَى
الطَّاعَةِ فَقَدْ يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ ، وَقَدْ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا ،
وَقَدْ يَرْتَفِعُ عَنْهَا ، فَإِنَّهُ قَدْ يَعُودُ أَعْلَى هِمَّةً مِمَّا كَانَ
، وَقَدْ يَكُونُ أَضْعَفَ هِمَّةً ، وَقَدْ تَعُودُ هِمَّتُهُ كَمَا كَانَتْ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ نُزُولُهُ إِلَى مَعْصِيَةٍ ،
إِمَّا صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ ، فَهَذَا يَحْتَاجُ فِي عَوْدِهِ إِلَى
دَرَجَتِهِ إِلَى تَوْبَةٍ نَصُوحٍ ، وَإِنَابَةٍ صَادِقَةٍ .
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَعُودُ بَعْدَ التَّوْبَةِ
إِلَى دَرَجَتِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ [ ص: 87
] تَمْحُو أَثَرَ الذَّنْبِ ، وَتَجْعَلُ وَجُودَهُ كَعَدَمِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ ، أَوْ لَا يَعُودُ ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ تَأْثِيرُهَا فِي إِسْقَاطِالْعُقُوبَةِ
، وَأَمَّا الدَّرَجَةُ الَّتِي فَاتَتْهُ فَإِنَّهُ لَا يَصِلُ إِلَيْهَا .
قَالُوا : وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ مُسْتَعِدًّا
بِاشْتِغَالِهِ بِالطَّاعَةِ فِي الزَّمَنِ الَّذِي عَصَى فِيهِ لِصُعُودٍ آخَرَ
وَارْتِقَاءٍ تَحْمِلُهُ أَعْمَالُهُ السَّالِفَةُ ، بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ
الرَّجُلِ كُلَّ يَوْمٍ بِجُمْلَةِ مَالِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ ، وَكُلَّمَا
تَضَّاعَفَ الْمَالُ تَضَّاعَفَ الرِّبْحُ ، فَقَدْ رَاحَ عَلَيْهِ فِي زَمَنِ
الْمَعْصِيَةِ ارْتِفَاعٌ وَرِبْحٌ تَحْمِلُهُ أَعْمَالُهُ ، فَإِذَا اسْتَأْنَفَ
الْعَمَلَ اسْتَأْنَفَ صُعُودًا مِنْ نُزُولٍ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ صَاعِدًا
مِنْ أَسْفَلَ إِلَى أَعْلَى ، وَبَيْنَهُمَا بَوْنٌ عَظِيمٌ .
قَالُوا : وَمَثَلُ ذَلِكَ رَجُلَانِ يَرْتَقِيَانِ فِي
سُلَّمَيْنِ لَا نِهَايَةَ لَهُمَا ، وَهُمَا سَوَاءٌ ، فَنَزَلَ أَحَدُهُمَا
إِلَى أَسْفَلَ ، وَلَوْ دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الصُّعُودَ ،
فَإِنَّ الَّذِي لَمْ يَنْزِلْ يَعْلُو عَلَيْهِ وَلَا بُدَّ .
وَحَكَمَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ حُكْمًا مَقْبُولًا فَقَالَ :
التَّحْقِيقُ أَنَّ مِنَ التَّائِبِينَ مَنْ يَعُودُ
إِلَى أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَعُودُ إِلَى مِثْلِ
دَرَجَتِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَى دَرَجَتِهِ .
قُلْتُ : وَهَذَا بِحَسْبِ قُوَّةِ التَّوْبَةِ
وَكَمَالِهَا ، وَمَا أَحْدَثَتْهُ الْمَعْصِيَةُ لِلْعَبْدِ مِنَ الذُّلِّ
وَالْخُضُوعِ وَالْإِنَابَةِ ، وَالْحَذَرِوَالْخَوْفِ مِنَ اللَّهِ ،
وَالْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، فَقَدْ تَقْوَى هَذِهِ الْأُمُورُ ، حَتَّى
يَعُودَ التَّائِبُ إِلَى أَرْفَعَ مِنْ دَرَجَتِهِ ، وَيَصِيرَ بَعْدَ التَّوْبَةِ
خَيْرًا مِنْهُ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ ، فَهَذَا قَدْ تَكُونُ الْخَطِيئَةُ فِي
حَقِّهِ رَحْمَةً ، فَإِنَّهَا نَفَتْ عَنْهُ دَاءَ الْعُجْبِ، وَخَلَّصَتْهُ مِنْ
ثِقَتِهِ بِنَفْسِهِ وَإِدْلَالِهِ بِأَعْمَالِهِ ، وَوَضَعَتْ خَدَّ ضَرَاعَتِهِ
وَذُلَّهُ وَانْكِسَارَهُ عَلَى عَتَبَةِ بَابِ سَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ ، وَعَرَّفَتْهُ
قَدْرَهُ ، وَأَشْهَدَتْهُ فَقْرَهُ وَضَرُورَتَهُ إِلَى حِفْظِ مَوْلَاهُ لَهُ ،
وَإِلَى عَفْوِهِ عَنْهُ وَمَغْفِرَتِهِ لَهُ ، وَأَخْرَجَتْ مِنْ قَلْبِهِ
صَوْلَةَ الطَّاعَةِ ، وَكَسَرَتْ أَنْفَهُ مِنْ أَنْ يَشْمَخَ بِهَا أَوْ
يَتَكَبَّرَ بِهَا ، أَوْ يَرَى نَفْسَهُ بِهَا خَيْرًا مِنْ غَيْرِهِ ،
وَأَوْقَفَتْهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مَوْقِفَ الْخَطَّائِينَ الْمُذْنِبِينَ ،
نَاكِسَ الرَّأْسِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ ، مُسْتَحِيًا خَائِفًا مِنْهُ وَجِلًا ،
مُحْتَقِرًا لِطَاعَتِهِ مُسْتَعْظِمًا لِمَعْصِيَتِهِ ، عَرَفَ نَفْسَهُ
بِالنَّقْصِ وَالذَّمِّ . وَرَبُّهُ مُتَفَرِّدٌ بِالْكَمَالِ وَالْحَمْدِ وَالْوَفَاءِ
كَمَا قِيلَ :
اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ وَبِالْحَمْدِ ***
وَوَلَّى الْمَلَامَةَ الرَّجُلَا
فَأَيُّ نِعْمَةٍ وَصَلَتْ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ
اسْتَكْثَرَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَرَأَى نَفْسَهُ دُونَهَا وَلَمْ يَرَهَا أَهْلًا
، وَأَيُّ نِقْمَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍوَصَلَتْ إِلَيْهِ رَأَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِمَا
هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا ، وَرَأَى مَوْلَاهُ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ ، إِذْ لَمْ يُعَاقِبْهُ
عَلَى قَدْرِ جُرْمِهِ وَلَا شَطْرِهِ ، وَلَا أَدْنَى جُزْءٍ مِنْهُ .
[ ص: 88 ] فَإِنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ
لَا تَحْمِلُهُ الْجِبَالُ الرَّاسِيَاتُ ، فَضْلًا عَنْ هَذَا الْعَبْدِ الضَّعِيفِ
الْعَاجِزِ ، فَإِنَّ الذَّنْبَ وَإِنْ صَغُرَ ، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْعَظِيمِ
الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ ، الْكَبِيرِ الَّذِي لَا شَيْءَ أَكْبَرُ
مِنْهُ ، الْجَلِيلِ الَّذِي لَا أَجَلَّ مِنْهُ وَلَا أَجْمَلَ ، الْمُنْعِمِ
بِجَمِيعِ أَصْنَافِ النِّعَمِ دَقِيقِهَا وَجُلِّهَا - مِنْ أَقْبَحِ الْأُمُورِ
وَأَفْظَعِهَا وَأَشْنَعِهَا ، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ الْعُظَمَاءِ وَالْأَجِلَّاءِ وَسَادَاتِ
النَّاسِ بِمِثْلِ ذَلِكَ يَسْتَقْبِحُهُ كُلُّ أَحَدٍ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ .
وَأَرْذَلُ النَّاسِ وَأَسْقَطُهُمْ مُرُوءَةً مَنْ قَابَلَهُمْ بِالرَّذَائِلِ ،
فَكَيْفَ بِعَظِيمِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمَلِكِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ ، وَإِلَهِ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ؟ وَلَوْلَا أَنَّ
رَحْمَتَهُ سَبَقَتْ غَضَبَهُ ، وَمَغْفِرَتَهُ سَبَقَتْ عُقُوبَتَهُ ، وَإِلَّا
لَتَدَكْدَكَتِ الْأَرْضُ بِمَنْ قَابَلَهُ بِمَا لَا يَلِيقُ مُقَابَلَتُهُ بِهِ
، وَلَوْلَا حِلْمُهُ وَمَغْفِرَتُهُ لَزُلْزِلَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مِنْ
مَعَاصِي الْعِبَادِ ، قَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ سُورَةُ فَاطِرٍ : 41 ] .
فَتَأَمَّلْ خَتْمَ هَذِهِ الْآيَةِ بِاسْمَيْنِ مِنْ
أَسْمَائِهِ ، وَهُمَا : " الْحَلِيمُ ، وَالْغَفُورُ " كَيْفَ تَجِدُ تَحْتَ ذَلِكَ
أَنَّهُ لَوْلَا حِلْمُهُ عَنِالْجُنَاةِ وَمَغْفِرَتُهُ لِلْعُصَاةِ لَمَا
اسْتَقَرَّتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ؟
وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ كُفْرِ بَعْضِ
عِبَادِهِ أَنَّهُ : تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ
الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا [ سُورَةُ مَرْيَمَ : 90 ]
وَقَدْ أَخْرَجَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَبَوَيْنِ مِنَ
الْجَنَّةِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ارْتَكَبَاهُ وَخَالَفَا فِيهِ نَهْيَهُ ، وَلَعَنَ
إِبْلِيسَ وَطَرَدَهُ وَأَخْرَجَهُ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
بِذَنْبٍ وَاحِدٍ ارْتَكَبَهُ وَخَالَفَ فِيهِ أَمْرَهُ ، وَنَحْنُ مَعَاشِرُ
الْحَمْقَى كَمَا قِيلَ :
نَصِلُ الذُّنُوبَ إِلَى الذُّنُوبِ وَنَرْتَجِي ***
دَرَجَ الْجِنَانِ لِذِي النَّعِيمِ الْخَالِدِ
وَلَقَدْ عَلِمْنَا أَخْرَجَ الْأَبَوَيْنِ مِنْ ***
مَلَكُوتِهِ الْأَعْلَى بِذَنْبٍ وَاحِدِ
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَبْدَ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ
التَّوْبَةِ خَيْرًا مِمَّا كَانَ قَبْلَ الْخَطِيئَةِ وَأَرْفَعَ دَرَجَةً ،
وَقَدْ تُضْعِفُ الْخَطِيئَةُ هِمَّتَهُ وَتُوهِنُ عَزْمَهُ ، وَتُمْرِضُ قَلْبَهُ
، فَلَا يَقْوَى دَوَاءُ التَّوْبَةِ عَلَى إِعَادَتِهِ إِلَى الصِّحَّةِ
الْأَوْلَى ، فَلَا يَعُودُ إِلَى دَرَجَتِهِ ، وَقَدْ يَزُولُ الْمَرَضُ بِحَيْثُ
تَعُودُ الصِّحَّةُ كَمَا كَانَتْ وَيَعُودُ إِلَى مِثْلِ عَمَلِهِ ، فَيَعُودُ
إِلَى دَرَجَتِهِ .
هَذَا كُلُّهُ إِذَا كَانَ نُزُولُهُ إِلَى مَعْصِيَةٍ ،
فَإِنْ كَانَ نُزُولُهُ إِلَى أَمْرٍ يَقْدَحُ فِي أَصْلِ إِيمَانِهِ ، مِثْلِ
الشُّكُوكِ وَالرِّيَبِ وَالنِّفَاقِ ، فَذَاكَ نُزُولٌ لَا يُرْجَى لِصَاحِبِهِ
صُعُودٌ إِلَّا بِتَجْدِيدِ إِسْلَامِهِ .
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُجَرِّئُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْدَاءَهُ[
ص: 89 ] وَمِنْ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُجَرِّئُ عَلَى الْعَبْدِ مَا لَمْ
يَكُنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ مِنْ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ ، فَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِ
الشَّيَاطِينَ بِالْأَذَى وَالْإِغْوَاءِ وَالْوَسْوَسَةِ وَالتَّخْوِيفِ
وَالتَّحْزِينِ ، وَإِنْسَائِهِ مَا بِهِ مَصْلَحَتُهُ فِي ذِكْرِهِ ،
وَمَضَرَّتُهُ فِي نِسْيَانِهِ ، فَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِ الشَّيَاطِينُ حَتَّى
تَؤُزَّهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَزًّا .
وَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ بِمَا
تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَذَى فِي غَيْبَتِهِ وَحُضُورِهِ ، وَيَجْتَرِئُ
عَلَيْهِ أَهْلُهُ وَخَدَمُهُ وَأَوْلَادُهُ وَجِيرَانُهُ حَتَّى الْحَيَوَانُ
الْبَهِيمُ .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنِّي لَأَعْصِي اللَّهَ
فَأَعْرِفُ ذَلِكَ فِي خُلُقِ امْرَأَتِي وَدَابَّتِي .
وَكَذَلِكَ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ الْأَمْرِ
بِالْعُقُوبَةِ الَّتِي إِنْ عَدَلُوا فِيهَا أَقَامُوا عَلَيْهِ حُدُودَ اللَّهِ
، وَتَجْتَرِئُ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فَتَتَأَسَّدُ عَلَيْهِ وَتَصْعُبُ عَلَيْهِ ،
فَلَوْ أَرَادَهَا لِخَيْرٍ لَمْ تُطَاوِعْهُ وَلَمْ تَنْقَدْ لَهُ ، وَتَسُوقُهُ إِلَى
مَا فِيهِ هَلَاكُهُ ، شَاءَ أَمْ أَبِي .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الطَّاعَةَ حِصْنُ الرَّبِّ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى الَّذِي مَنْ دَخَلَهُ كَانَ مِنَ الْآمِنِينَ ، فَإِذَا فَارَقَ
الْحِصْنَ اجْتَرَأَ عَلَيْهِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ وَغَيْرُهُمْ ، وَعَلَى حَسَبِ
اجْتِرَائِهِ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ يَكُونُ اجْتِرَاءُ هَذِهِ الْآفَاتِ
وَالنُّفُوسِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يَرُدُّ عَنْهُ . فَإِنَّ ذِكْرَ
اللَّهِ وَطَاعَتَهُ وَالصَّدَقَةَ وَإِرْشَادَ الْجَاهِلِ ، وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ - وِقَايَةٌ تَرُدُّ عَنِ الْعَبْدِ ، بِمَنْزِلَةِ
الْقُوَّةِ الَّتِي تَرُدُّ الْمَرَضَ وَتُقَاوِمُهُ ، فَإِذَا سَقَطَتِ
الْقُوَّةُ غَلَبَ وَارِدُ الْمَرَضِ فَكَانَ الْهَلَاكُ ، فَلَابُدَّ لِلْعَبْدِ
مِنْ شَيْءٍ يَرُدُّ عَنْهُ ، فَإِنَّ مُوجِبَ السَّيِّئَاتِ وَالْحَسَنَاتِ
تَتَدَافَعُ وَيَكُونُ الْحُكْمُ لِلْغَالِبِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكُلَّمَا قَوِيَ
جَانِبُ الْحَسَنَاتِ كَانَ الرَّدُّ أَقْوَى كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ
عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ، وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، فَبِحَسَبِ قُوَّةِ
الْإِيمَانِ يَكُونُ الدَّفْعُ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْعَبْدَ أَمَامَ نَفْسِهِوَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تَخُونُ الْعَبْدَ أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَى نَفْسِهِ
، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا
يَضُرُّهُ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ أَعْرَفُهُمْ بِذَلِكَ
عَلَى التَّفْصِيلِ ، وَأَقْوَاهُمْ وَأَكْيَسُهُمْ مَنْ قَوِيَ عَلَى نَفْسِهِ
وَإِرَادَتِهِ ، فَاسْتَعْمَلَهَا فِيمَا يَنْفَعُهُ وَكَفَّهَا عَمَّا يَضُرُّهُ
، [ ص: 90 ] وَفِي ذَلِكَ تَتَفَاوَتُ مَعَارِفُ النَّاسِ وَهِمَمُهُمْ وَمَنَازِلُهُمْ
، فَأَعْرَفُهُمْ مَنْ كَانَ عَارِفًا بِأَسْبَابِ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ ،
وَأَرْشَدُهُمْ مَنْ آثَرَ هَذِهِ عَلَى هَذِهِ ، كَمَا أَنَّ أَسْفَهَهُمْ مَنْ
عَكَسَ الْأَمْرَ .
وَالْمَعَاصِي تَخُونُ الْعَبْدَ أَحْوَجَ مَا كَانَ
إِلَى نَفْسِهِ فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْعِلْمِ ، وَإِيثَارِ الْحَظِّ الْأَشْرَفِ
الْعَالِي الدَّائِمِ عَلَى الْحَظِّ الْخَسِيسِ الْأَدْنَى الْمُنْقَطِعِ ،
فَتَحْجُبُهُ الذُّنُوبُ عَنْ كَمَالِ هَذَا الْعِلْمِ ، وَعَنْ الِاشْتِغَالِ
بِمَا هُوَ أَوْلَى بِهِ ، وَأَنْفَعُ لَهُ فِي الدَّارَيْنِ .
فَإِذَا وَقَعَ مَكْرُوهٌ وَاحْتَاجَ إِلَى التَّخَلُّصِ
مِنْهُ ، خَانَهُ قَلْبُهُ وَنَفْسُهُ وَجَوَارِحُهُ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ
رَجُلٍ مَعَهُ سَيْفٌ قَدْ غَشِيَهُ الصَّدَأُ وَلَزِمَ قِرَابَهُ ، بِحَيْثُ لَا
يَنْجَذِبُ مَعَ صَاحِبِهِ إِذَا جَذَبَهُ ، فَعَرَضَ لَهُ عَدُوٌّ يُرِيدُ
قَتْلَهُ ، فَوَضَعَ يَدِهِ عَلَى قَائِمِسَيْفِهِ وَاجْتَهَدَ لِيُخْرِجَهُ ،
فَلَمْ يَخْرُجْ مَعَهُ ، فَدَهَمَهُ الْعَدُوُّ وَظَفِرَ بِهِ .
كَذَلِكَ الْقَلْبُ يَصْدَأُ بِالذُّنُوبِ وَيَصِيرُ
مُثْخَنًا بِالْمَرَضِ ، فَإِذَا احْتَاجَ إِلَى مُحَارَبَةِ الْعَدُوِّ لَمْ
يَجِدْ مَعَهُ مِنْهُ شَيْئًا ، وَالْعَبْدُ إِنَّمَا يُحَارِبُ وَيُصَاوِلُ
وَيُقْدِمُ بِقَلْبِهِ ، وَالْجَوَارِحُ تَبَعٌ لِلْقَلْبِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ
عِنْدَ مَلِكِهَا قُوَّةٌ يَدْفَعُ بِهَا ، فَمَا الظَّنُّ بِهَا ؟
وَكَذَلِكَ النَّفْسُ فَإِنَّهَا تَخْبُثُ بِالشَّهَوَاتِ
وَالْمَعَاصِي وَتَضْعُفُ ، أَعْنِي النَّفْسَ الْمُطْمَئِنَّةَ ، وَإِنْ كَانَتِ
الْأَمَّارَةُ تَقْوَى وَتَتَأَسَّدُ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ هَذِهِ ضَعُفَتْ
تِلْكَ ، فَيَبْقَى الْحُكْمُ وَالتَّصَرُّفُ لِلْأَمَّارَةِ .
وَرُبَّمَا مَاتَتْ نَفْسُهُ الْمُطْمَئِنَّةُ مَوْتًا
لَا يُرْتَجَى مَعَهُ حَيَاةٌ يَنْتَفِعُ بِهَا ، بَلْ حَيَاتُهُ حَيَاةٌ يُدْرِكُ
بِهَا الْأَلَمَ فَقَطْ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا وَقَعَ فِي
شِدَّةٍ أَوْ كُرْبَةٍ أَوْ بَلِيَّةٍ خَانَهُ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ وَجَوَارِحُهُ
عَمَّا هُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لَهُ، فَلَا يَنْجَذِبُ قَلْبُهُ لِلتَّوَكُّلِ عَلَى
اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ وَالْجَمْعِيَّةِ عَلَيْهِ
وَالتَّضَرُّعِ وَالتَّذَلُّلِ وَالِانْكِسَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَلَا
يُطَاوِعُهُ لِسَانُهُ لِذِكْرِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بِلِسَانِهِ لَمْ يَجْمَعْ
بَيْنَ قَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ، فَيَنْحَبِسُ الْقَلْبُ عَلَى اللِّسَانِ بِحَيْثُ يُؤَثِّرُ
الذِّكْرُ ، وَلَا يَنْحَبِسُ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ عَلَى الذِّكْرِ ، بَلْ إِنْ
ذَكَرَ أَوْ دَعَا ذَكَرَ بِقَلْبٍ لَاهٍ سَاهٍ غَافِلٍ ، وَلَوْ أَرَادَ مِنْ
جَوَارِحِهِ أَنْ تُعِينَهُ بِطَاعَةٍ تَدْفَعُ عَنْهُ لَمْ تَنْقَدْ لَهُ وَلَمْ
تُطَاوِعْهُ .
وَهَذَا كُلُّهُ أَثَرُ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي كَمَنْ
لَهُ جُنْدٌ يَدْفَعُ عَنْهُ الْأَعْدَاءَ ، فَأَهْمَلَ جُنْدَهُ ، وَضَيَّعَهُمْ
، وَأَضْعَفَهُمْ ، وَقَطَعَ أَخْبَارَهُمْ ، ثُمَّ أَرَادَ مِنْهُمْ عِنْدَ هُجُومِ
الْعَدُوِّ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفْرِغُوا وُسْعَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُ
بِغَيْرِ قُوَّةٍ .
هَذَا ، وَثَمَّ أَمْرٌ أَخْوَفُ مِنْ ذَلِكَ وَأَدْهَى
مِنْهُ وَأَمَرُّ ، وَهُوَ أَنْ يَخُونَهُ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ عِنْدَ [ ص: 91 ]
الِاحْتِضَارِ وَالِانْتِقَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَرُبَّمَا تَعَذَّرَ
عَلَيْهِ النُّطْقُ بِالشَّهَادَةِ ، كَمَا شَاهَدَ النَّاسُ كَثِيرًا مِنَ
الْمُحْتَضَرِينَ أَصَابَهُمْ ذَلِكَ ، حَتَّى قِيلَ لِبَعْضِهِمْ : قُلْ لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَالَ
: آهْ آهْ ، لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقُولَهَا .
وَقِيلَ لِآخَرَ : قُلْ : لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ،
فَقَالَ : شَاهْ رُخْ ، غَلَبْتُكَ . ثُمَّ قَضَى .
وَقِيلَ لِآخَرَ : قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ،
فَقَالَ :
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ *** أَيْنَ
الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ
ثُمَّ قَضَى
.
وَقِيلَ لِآخَرَ : قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ،
فَجَعَلَ يَهْذِي بِالْغِنَاءِ وَيَقُولُ : تَاتِنَا تِنِنْتَا . حَتَّى قَضَى
وَقِيلَ لِآخَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَمَا يَنْفَعُنِي
مَا تَقُولُ وَلَمْ أَدَعْ مَعْصِيَةً إِلَّا رَكِبْتُهَا ؟ ثُمَّ قَضَى وَلَمْ
يَقُلْهَا .
وَقِيلَ لِآخَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَمَا يُغْنِي
عَنِّي ، وَمَا أَعْرِفُ أَنِّي صَلَّيْتُ لِلَّهِ صَلَاةً ؟ ثُمَّ قَضَى وَلَمْ
يَقُلْهَا .
وَقِيلَ لِآخَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : هُوَ كَافِرٌ بِمَا
تَقُولُ . وَقَضَى .
وَقِيلَ لِآخَرَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : كُلَّمَا أَرَدْتُ
أَنْ أَقُولَهَا لِسَانِي يُمْسِكُ عَنْهَا .
وَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَ بَعْضَ الشَّحَّاذِينَ عِنْدَ
مَوْتِهِ ، فَجَعَلَ يَقُولُ : لِلَّهِ ، فِلْسٌ لِلَّهِ . حَتَّى قَضَى .
وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ التُّجَّارِ عَنْ قَرَابَةٍ لَهُ
أَنَّهُ احْتُضِرَ وَهُوَ عِنْدَهُ ، وَجَعَلُوا يُلَقِّنُونَهُ : لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : هَذِهِ الْقِطْعَةُ رَخِيصَةٌ ، هَذَا مُشْتَرٍ
جَيِّدٌ ، هَذِهِ كَذَا . حَتَّى قَضَى
.
وَسُبْحَانَ اللَّهِ ! كَمْ شَاهَدَ النَّاسُ مِنْ هَذَا
عِبَرًا ؟ وَالَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِمْ مِنْ أَحْوَالِ الْمُحْتَضِرِينَ أَعْظَمُ
وَأَعْظَمُ .
فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي حَالِ حُضُورِ ذِهْنِهِ
وَقُوَّتِهِ وَكَمَالِ إِدْرَاكِهِ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ ،
وَاسْتَعْمَلَهُ فِيمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ ، وَقَدْ أَغْفَلَ
قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَطَّلَ لِسَانَهُ عَنْ ذِكْرِهِ
وَجَوَارِحَهُ عَنْ طَاعَتِهِ ، فَكَيْفَ الظَّنُّ بِهِ عِنْدَ سُقُوطِ قُوَاهُ
وَاشْتِغَالِ قَلْبِهِ وَنَفَسِهِ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ أَلَمِ النَّزْعِ ؟
وَجَمَعَ الشَّيْطَانُ لَهُ كُلَّ قُوَّتِهِ وَهِمَّتِهِ
، وَحَشَدَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لِيَنَالَ مِنْهُ فُرْصَتَهُ
، فَإِنَّ ذَلِكَ آخِرُ الْعَمَلِ ، فَأَقْوَى مَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْطَانُهُ ذَلِكَ
الْوَقْتِ ، وَأَضْعَفُ مَا يَكُونُ هُوَ فِي تِلْكَ [ ص: 92 ] الْحَالِ ، فَمَنْ تُرَى يَسْلَمُ
عَلَى ذَلِكَ ؟ فَهُنَاكَ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ
الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ
الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 27 ] .
فَكَيْفَ يُوَفَّقُ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ مَنْ أَغْفَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِهِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ
فُرُطًا .
فَبَعِيدٌ مَنْ قَلْبُهُ بَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى
، غَافِلٌ عَنْهُ مُتَعَبِّدٌ لِهَوَاهُ أَسِيرٌ لِشَهَوَاتِهِ ، وَلِسَانُهُ
يَابِسٌ مِنْ ذِكْرِهِ ، وَجَوَارِحُهُ مُعَطَّلَةٌ مِنْ طَاعَتِهِ مُشْتَغِلَةٌ بِمَعْصِيَتِهِ
- أَنْ يُوَفَّقَ لِلْخَاتِمَةِ بِالْحُسْنَى .
وَلَقَدْ قَطَعَ خَوْفُ الْخَاتِمَةِ ظُهُورَ
الْمُتَّقِينَ ، وَكَأَنَّ الْمُسِيئِينَ الظَّالِمِينَ قَدْ أَخَذُوا تَوْقِيعًا
بِالْأَمَانِ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ
[ سُورَةُ الْقَلَمِ : 39 - 40
]
كَمَا قِيلَ
:
يَا آمِنًا مِنْ قَبِيحِ الْفِعْلِ مِنْهُ أَهَلْ ***
أَتَاكَ تَوْقِيعُ أَمْنٍ أَنْتَ تَمْلِكُهُ
جَمَعْتَ شَيْئَيْنِ أَمْنًا وَاتِّبَاعَ هَوًى ***
هَذَا وَإِحْدَاهُمَا فِي الْمَرْءِ تُهْلِكُهُ
وَالْمُحْسِنُونَ عَلَى دَرْبِ الْمَخَاوِفِ قَدْ ***
سَارُوا وَذَلِكَ دَرْبٌ لَسْتَ تَسْلُكُهُ
فَرَّطْتَ فِي الزَّرْعِ وَقْتَ الْبَذْرِ مِنْ سَفَهٍ
*** فَكَيْفَ عِنْدَ حَصَادِ النَّاسِ تُدْرِكُهُ
هَذَا وَأَعْجَبُ شَيْءٍ مِنْكَ زُهْدُكَ فِي *** دَارِ
الْبَقَاءِ بِعَيْشٍ سَوْفَ تَتْرُكُهُ
مَنِ السَّفِيهُ إِذًا بِاللَّهِ أَنْتَ أَمِ الْ ***
مَغْبُونُ فِي الْبَيْعِ غَبْنًا سَوْفَ يُدْرِكُهُ
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي تُعْمِي الْقَلْبَوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا
أَنَّهَا تُعْمِي الْقَلْبَ ، فَإِنْ لَمْ تُعْمِهِ أَضْعَفَتْ بَصِيرَتَهُ
وَلَابُدَّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ أَنَّهَا تُضْعِفُهُ وَلَابُدَّ ، فَإِذَا
عَمِيَ الْقَلْبُ وَضَعُفَ ، فَاتَهُ مِنْ مَعْرِفَةِ الْهُدَى وَقُوَّتِهِ عَلَى تَنْفِيذِهِ
فِي نَفْسِهِ وَفِي غَيْرِهِ ، بِحَسَبِ ضَعْفِ بَصِيرَتِهِوَقُوَّتِهِ .
فَإِنَّ الْكَمَالَ الْإِنْسَانِيَّ مَدَارُهُ عَلَى
أَصْلَيْنِ : مَعْرِفَةِ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ ، وَإِيثَارِهِ عَلَيْهِ .
وَمَا تَفَاوَتَتْ مَنَازِلُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ
تَعَالَى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِقَدْرِ تَفَاوُتِ مَنَازِلِهِمْ
فِي هَذَيْنِ [ ص: 93 ] الْأَمْرَيْنِ ، وَهُمَا اللَّذَانِ أَثْنَى اللَّهُ بِهِمَا سُبْحَانَهُ
عَلَى أَنْبِيَائِهِ بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ سُورَةُ ص : 45 ] .
فَالْأَيْدِي
: الْقُوَّةُ فِي تَنْفِيذِ الْحَقِّ ، وَالْأَبْصَارُ :
الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ ، فَوَصَفَهُمْ بِكَمَالِ إِدْرَاكِ الْحَقِّ وَكَمَالِ
تَنْفِيذِهِ ، وَانْقَسَمَ النَّاسُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ ،
فَهَؤُلَاءِ أَشْرَفُ الْأَقْسَامِ مِنَ الْخَلْقِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ
تَعَالَى .
الْقِسْمُ الثَّانِي : عَكْسُ هَؤُلَاءِ ، مَنْ لَا
بَصِيرَةَ لَهُ فِي الدِّينِ ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى تَنْفِيذِ الْحَقِّ ، وَهُمْ
أَكْثَرُ هَذَا الْخَلْقِ ، وَهُمُ الَّذِينَ رُؤْيَتُهُمْ قَذَى الْعُيُونِ
وَحُمَّى الْأَرْوَاحِ وَسَقَمُ الْقُلُوبِ ، يُضَيِّقُونَ الدِّيَارَ وَيُغْلُونَ
الْأَسْعَارَ ، وَلَا يُسْتَفَادُ مِنْ صُحْبَتِهِمْ إِلَّا الْعَارُ وَالشَّنَارُ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَنْ لَهُ بَصِيرَةٌ بِالْحَقِّ
وَمَعْرِفَةٌ بِهِ ، لَكِنَّهُ ضَعِيفٌ لَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى تَنْفِيذِهِ وَلَا
الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ ، وَهَذَا حَالُ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَالْمُؤْمِنُ
الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْهُ .
الْقِسْمُ الرَّابِعُ : مَنْ لَهُ قُوَّةٌ وَهِمَّةٌ
وَعَزِيمَةٌ ، لَكِنَّهُ ضَعِيفُ الْبَصِيرَةِ فِي الدِّينِ ، لَا يَكَادُ
يُمَيِّزُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الرَّحْمَنِ وَأَوْلِيَاءِ الشَّيْطَانِ ، بَلْ
يَحْسَبُ كُلَّ سَوْدَاءَ تَمْرَةً وَكُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ، يَحْسَبُ
الْوَرَمَ شَحْمًا وَالدَّوَاءَ النَّافِعَ سُمًّا .
وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي
الدِّينِ ، وَلَا هُوَ مَوْضِعٌ لَهَا سِوَى الْقِسْمِ الْأَوَّلِ ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا
بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ سُورَةُ السَّجْدَةِ : 24 ] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ بِالصَّبْرِ وَالْيَقِينِ
نَالُوا الْإِمَامَةَ فِي الدِّينِ ، وَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَاسِرِينَ ، وَأَقْسَمَ بِالْعَصْرِ - الَّذِي
هُوَ زَمَنُ سَعْيِ الْخَاسِرِينَ وَالرَّابِحِينَ - عَلَى أَنَّ مَنْ عَدَاهُمْ فَهُوَ
مِنَ الْخَاسِرِينَ ، فَقَالَ تَعَالَى وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي
خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا
بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ
[ الْعَصْرِ : 1 - 3 ] .
وَلَمْ يَكْتَفِ مِنْهُمْ بِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ وَالصَّبْرِ
عَلَيْهِ ، حَتَّى يُوصِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِهِ وَيُرْشِدَهُ إِلَيْهِ
وَيَحُضَّهُ عَلَيْهِ .
وَإِذَا كَانَ مَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ فَهُوَ خَاسِرٌ ،
فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَعَاصِيَ وَالذُّنُوبَ تُعْمِي بَصِيرَةَ الْقَلْبِ فَلَا
يُدْرِكُ الْحَقَّ كَمَا يَنْبَغِي ، وَتَضْعُفُ قُوَّتُهُ وَعَزِيمَتُهُ فَلَا
يَصْبِرُ عَلَيْهِ ، بَلْ قَدْ يَتَوَارَدُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى [ ص: 94 ]
يَنْعَكِسَ إِدْرَاكُهُ كَمَا يَنْعَكِسُ سَيْرُهُ ، فَيُدْرِكُ الْبَاطِلَ حَقًّا
وَالْحَقَّ بَاطِلًا ، وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ، فَيَنْتَكِسُ
فِي سَيْرِهِ وَيَرْجِعُ عَنْ سَفَرِهِ إِلَى اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ،
إِلَى سَفَرِهِ إِلَى مُسْتَقَرِّ النُّفُوسِ الْمُبْطِلَةِ الَّتِي رَضِيَتْ
بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَاطْمَأَنَّتْ بِهَا ، وَغَفَلَتْ عَنِ اللَّهِ
وَآيَاتِهِ ، وَتَرَكَتْ الِاسْتِعْدَادَ لِلِقَائِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي
عُقُوبَةِ الذُّنُوبِ إِلَّا هَذِهِ وَحْدَهَا لَكَانَتْ دَاعِيَةً إِلَى
تَرْكِهَا وَالْبُعْدِ مِنْهَا ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَهَذَا كَمَا أَنَّ الطَّاعَةَ تُنَوِّرُ الْقَلْبَ
وَتَجْلُوهُ وَتَصْقُلُهُ ، وَتُقَوِّيهِ وَتُثَبِّتُهُ حَتَّى يَصِيرَ
كَالْمِرْآةِ الْمَجْلُوَّةِ فِي جَلَائِهَا وَصَفَائِهَا فَيَمْتَلِئَ نُورًا ،
فَإِذَا دَنَا الشَّيْطَانُ مِنْهُ أَصَابَهُ مِنْ نُورِهِ مَا يُصِيبُ مُسْتَرِقَ
السَّمْعِ مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ ، فَالشَّيْطَانُ يَفْرَقُ مِنْ هَذَا
الْقَلْبِ أَشَدَّ مِنْ فَرَقِ الذِّئْبِ مِنَالْأَسَدِ ، حَتَّى إِنَّ صَاحِبَهُ
لَيَصْرَعُ الشَّيْطَانَ فَيَخِرُّ صَرِيعًا ، فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ
الشَّيَاطِينُ ، فَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : مَا شَأْنُهُ ؟ فَيُقَالُ :
أَصَابَهُ إِنْسِيٌّ ، وَبِهِ نَظْرَةٌ مِنَ الْإِنْسِ :
فَيَا نَظْرَةً مِنْ قَلْبِ حُرٍّ مُنَوَّرٍ يَكَادُ
لَهَا الشَّيْطَانُ بِالنُّورِ يُحْرَقُ
أَفَيَسْتَوِي هَذَا الْقَلْبُ وَقَلْبٌ مُظْلِمٌ
أَرْجَاؤُهُ ، مُخْتَلِفَةٌ أَهْوَاؤُهُ ، قَدِ اتَّخَذَهُ الشَّيْطَانُ وَطَنَهُ
وَأَعَدَّهُ مَسْكَنَهُ ، إِذَا تَصَبَّحَ بِطَلْعَتِهِ حَيَّاهُ ، وَقَالَ :
فَدَيْتُ مَنْ لَا يُفْلِحُ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي أُخْرَاهُ ؟
قَرِينُكَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْحَشْرِ بَعْدَهَا ***
فَأَنْتَ قَرِينٌ لِي بِكُلِّ مَكَانِ
فَإِنْ كُنْتَ فِي دَارِ الشَّقَاءِ فَإِنَّنِي ***
وَأَنْتَ جَمِيعًا فِي شَقَا وَهَوَانِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ
الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ
لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ حَتَّى
إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
فَبِئْسَ الْقَرِينُ وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي
الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 36 - 39 ] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَنْ عَشِيَ عَنْ ذِكْرِهِ
، وَهُوَ كِتَابُهُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ ،
وَعَمِيَ عَنْهُ ، وَعَشَتْ بَصِيرَتُهُ عَنْ فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِهِ وَمَعْرِفَةِ
مُرَادِ اللَّهِ مِنْهُ - قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ شَيْطَانًا عُقُوبَةً لَهُ بِإِعْرَاضِهِ
عَنْ كِتَابِهِ ، فَهُوَ قَرِينُهُ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ فِي الْإِقَامَةِ
وَلَا فِي الْمَسِيرِ ، وَمَوْلَاهُ وَعَشِيرُهُ الَّذِي هُوَ بِئْسَ الْمَوْلَى
وَبِئْسَ الْعَشِيرُ .
رَضِيعَا لِبَانِ ثَدْيِ أُمٍّ تَقَاسَمَا ***
بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لَا نَتَفَرَّقُ
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصُدُّ
قَرِينَهُ وَوَلِيَّهُ عَنْ سَبِيلِهِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ وَإِلَى جَنَّتِهِ ،
وَيَحْسَبُ هَذَا الضَّالُّ الْمَصْدُودُ أَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ هُدًى ، حَتَّى
إِذَا جَاءَ الْقَرِينَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ : يَالَيْتَ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ كُنْتَ لِي فِي
الدُّنْيَا ، أَضْلَلْتَنِي [ ص: 95 ] عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ،
وَصَدَدْتَنِي عَنِ الْحَقِّ وَأَغْوَيْتَنِي حَتَّى هَلَكْتُ ، وَبِئْسَ
الْقَرِينُ أَنْتَ لِي الْيَوْمَ
.
وَلَمَّا كَانَ الْمُصَابُ إِذَا شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي
مُصِيبَةٍ ، حَصَلَ لَهُ بِالتَّأَسِّي نَوْعُ تَخْفِيفٍ وَتَسْلِيَةٍ ، أَخْبَرَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ وَغَيْرُ حَاصِلٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِكِينَ
فِي الْعَذَابِ ، وَأَنَّ الْقَرِينَ لَا يَجِدُ رَاحَةً وَلَا أَدْنَى فَرَحٍ
بِعَذَابِ قَرِينِهِ مَعَهُ ، وَإِنْ كَانَتِ الْمَصَائِبُ فِي الدُّنْيَا إِذَا
عَمَّتْ صَارَتْ مَسْلَاةً ، كَمَا قَالَتِ الْخَنْسَاءُ فِي أَخِيهَا صَخْرٍ :
وَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي *** عَلَى
إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ *** أُعَزِّي
النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأَسِّي
فَمَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا الْقَدْرَ مِنَ
الرَّاحَةِ عَلَى أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ : وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ
ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ : 39 ]
فَصْلٌ:
الْمَعَاصِي عَدُوٌّ لَدُودٌوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا :
أَنَّهَا مَدَدٌ مِنَ الْإِنْسَانِ يَمُدُّ بِهِ عَدُوَّهُ عَلَيْهِ ، وَجَيْشٌ
يُقَوِّيهِ بِهِ عَلَى حَرْبِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ابْتَلَى
هَذَا الْإِنْسَانَ بِعَدُوٍّ لَا يُفَارِقُهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَلَا يَنَامُ مِنْهُ
وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ ، يَرَاهُ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ ،
يَبْذُلُ جَهْدَهُ فِي مُعَادَاتِهِ فِي كُلِّ حَالٍ ، وَلَا يَدَعُ أَمْرًا
يَكِيدُهُ بِهِ يَقْدِرُ عَلَى إِيصَالِهِ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ إِلَيْهِ ،
وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهِ بِبَنِي جِنْسِهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ ، وَغَيْرِهِمْ
مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ ، فَقَدْ نَصَبَ لَهُ الْحَبَائِلَ ، وَبَغَى لَهُ
الْغَوَائِلَ ، وَمَدَّ حَوْلَهُ الْأَشْرَاكَ ، وَنَصَبَ لَهُ الْفِخَاخَ
وَالشِّبَاكَ ، وَقَالَ لِأَعْوَانِهِ : دُونَكُمْ عَدُوَّكُمْ وَعَدُوَّ
أَبِيكُمْ لَا يَفُوتُكُمْ وَلَا يَكُونُ حَظُّهُ الْجَنَّةَ وَحَظُّكُمُ النَّارَ
، وَنَصِيبُهُ الرَّحْمَةَ وَنَصِيبُكُمُ اللَّعْنَةَ ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ
مَا جَرَى عَلَيَّ وَعَلَيْكُمْ مِنَ الْخِزْيِ وَالْإِبْعَادِ مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ بِسَبَبِهِ وَمِنْ أَجْلِهِ، فَابْذُلُوا جَهْدَكُمْ أَنْ يَكُونُوا
شُرَكَاءَنَا فِي هَذِهِ الْبَلِيَّةِ ، إِذْ قَدْ فَاتَنَا شَرِكَةَ صَالِحِيهِمْ
فِي الْجَنَّةِ . وَقَدْ أَعْلَمَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ مِنْ
عَدُوِّنَا وَأَمَرَنَا أَنْ نَأْخُذَ لَهُ أُهْبَتَهُ وَنُعِدَّ لَهُ عُدَّتَهُ .
وَلَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ آدَمَ وَبَنِيهِ قَدْ
بُلُوا بِهَذَا الْعَدُوِّ وَأَنَّهُ قَدْ سُلِّطَ عَلَيْهِمْ أَمَدَهُمْ
بِعَسَاكِرَ وَجُنْدٍ يَلْقَوْنَهُمْ بِهَا ، وَأَمَدَّ عَدُوَّهُمْ أَيْضًا
بِجُنْدٍ وَعَسَاكِرَ يَلْقَاهُمْ بِهَا ، وَأَقَامَ سُوقَ الْجِهَادِ فِي هَذِهِ الدَّارِ
فِي مُدَّةِ الْعُمُرِ الَّتِي هِيَ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْآخِرَةِ كَنَفَسٍ
وَاحِدٍ مِنْ أَنْفَاسِهَا ، وَاشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ، يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ [ ص: 96 ] ذَلِكَ وَعْدٌ
مُؤَكَّدٌ عَلَيْهِ فِي أَشْرَفِ كُتُبِهِ ، وَهِيَ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ
وَالْقُرْآنُ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَا أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْهُ سُبْحَانَهُ ،
ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَبْشِرُوا بِهَذِهِ الصَّفْقَةِ الَّتِي مَنْ أَرَادَ
أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَهَا فَلْيَنْظُرْ إِلَى الْمُشْتَرِي مَنْ هُوَ ؟ وَإِلَى الثَّمَنِ
الْمَبْذُولِ فِي هَذِهِ السِّلْعَةِ ، وَإِلَى مَنْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ هَذَا
الْعَقْدُ ، فَأَيُّ فَوْزٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا ؟ وَأَيُّ تِجَارَةٍ أَرْبَحُ
مِنْهُ ؟
ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ مَعَهُمْ هَذَا الْأَمْرَ
بِقَوْلِهِ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ
تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ
وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ
طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَأُخْرَى
تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [
سُورَةُ الصَّفِّ : 10 - 13 ] .
وَلَمْ يُسَلِّطْ سُبْحَانَهُ هَذَا الْعَدُوَّ عَلَى
عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي هُوَ أَحَبُّ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ ، إِلَّا
لِأَنَّ الْجِهَادَ أَحَبُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ ، وَأَهْلَهُ أَرْفَعُ الْخَلْقِ عِنْدَهُ
دَرَجَاتٍ ، وَأَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ وَسِيلَةً ، فَعَقَدَ سُبْحَانَهُ لِوَاءَ
هَذِهِ الْحَرْبِ لِخُلَاصَةِ مَخْلُوقَاتِهِ ، وَهُوَ الْقَلْبُ الَّذِي مَحَلُّ
مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، وَعُبُودِيَّتِهِ وَالْإِخْلَاصِ لَهُ ،
وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، فَوَلَّاهُ أَمْرَ هَذِهِ
الْحَرْبِ ، وَأَيَّدَهُ بِجُنْدٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يُفَارِقُونَهُ لَهُ
مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ [ سُورَةُ الرَّعْدِ :
11 ] .
يَعْقُبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، كُلَّمَا ذَهَبَ بَدَلٌ جَاءَ
بَدَلٌ آخَرُ يُثَبِّتُونَهُ وَيَأْمُرُونَهُ بِالْخَيْرِ وَيَحُضُّونَهُ عَلَيْهِ
، وَيَعِدُونَهُ بِكَرَامَةِ اللَّهِ وَيُصَبِّرُونَهُ ، وَيَقُولُونَ : إِنَّمَا
هُوَ صَبْرُ سَاعَةٍ وَقَدِ اسْتَرَحْتَ رَاحَةَ الْأَبَدِ .
ثُمَّ أَمَدَّهُ سُبْحَانَهُ بِجُنْدٍ آخَرَ مِنْ
وَحْيِهِ وَكَلَامِهِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ كِتَابَهُ ، فَازْدَادَ قُوَّةً إِلَى قُوتِهِ ، وَمَدَدًا
إِلَى مَدَدِهِ ، وَعُدَّةً إِلَى عُدَّتِهِ ، وَأَمَدَّهُ مَعَ ذَلِكَ بِالْعَقْلِ
وَزِيرًا لَهُ وَمُدَبِّرًا ، وَبِالْمَعْرِفَةِ مُشِيرَةً عَلَيْهِ نَاصِحَةً
لَهُ ، وَبِالْإِيمَانِ مُثَبِّتًا لَهُ وَمُؤَيِّدًا وَنَاصِرًا ، وَبِالْيَقِينِ
كَاشِفًا لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ ، حَتَّى كَأَنَّهُ يُعَايِنُ مَا وَعَدَ
اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ وَحِزْبَهُ عَلَى جِهَادِ أَعْدَائِهِ ، فَالْعَقْلُ
يُدَبِّرُ أَمْرَ جَيْشِهِ ، وَالْمَعْرِفَةُ تَصْنَعُ لَهُ أُمُورَ الْحَرْبِ
وَأَسْبَابَهَا وَمَوَاضِعَهَا اللَّائِقَةَ بِهَا ، وَالْإِيمَانُ يُثَبِّتُهُ
وَيُقَوِّيهِ وَيُصَبِّرُهُ ، وَالْيَقِينُ يُقْدِمُ بِهِ وَيَحْمِلُ بِهِ
الْحَمَلَاتِ الصَّادِقَةَ .
ثُمَّ أَمَدَّ سُبْحَانَهُ الْقَائِمَ بِهَذِهِ
الْحَرْبِ بِالْقُوَى الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ ، فَجَعَلَ الْعَيْنَ
طَلِيعَتَهُ ، وَالْأُذُنَ صَاحِبَ خَبَرِهِ ، وَاللِّسَانَ تُرْجُمَانَهُ ، وَالْيَدَيْنِ
وَالرِّجْلَيْنِ أَعْوَانَهُ ، وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ وَحَمَلَةَ عَرْشِهِ
يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ وَيَسْأَلُونَ لَهُأَنْ يَقِيَهُ السَّيِّئَاتِ وَيُدْخِلَهُ
الْجَنَّاتِ ، وَتَوَلَّى سُبْحَانَهُ الدَّفْعَ [ ص: 97 ] وَالدِّفَاعَ عَنْهُ
بِنَفْسِهِ وَقَالَ : هَؤُلَاءِ حِزْبِي ، وَحِزْبُ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ [ الْمُجَادَلَةِ : 22 ] .
وَهَؤُلَاءِ جُنْدِي وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ
الْغَالِبُونَ [ سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 173 ] .
وَعَلَّمَ عِبَادَهُ كَيْفِيَّةَ هَذِهِ الْحَرْبِ
وَالْجِهَادِ ، فَجَمَعَهَا لَهُمْ فِي أَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ : يَاأَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 200 ] .
وَلَا يَتِمُّ أَمْرُ هَذَا الْجِهَادِ إِلَّا بِهَذِهِ
الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ ، فَلَا يَتِمُّ الصَّبْرُ إِلَّا بِمُصَابَرَةِ
الْعَدُوِّ ، وَهُوَ مُقَاوَمَتُهُ وَمُنَازَلَتُهُ ، فَإِذَا صَابَرَ عَدُوَّهُ
احْتَاجَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ وَهِيَ الْمُرَابَطَةُ ، وَهِيَ لُزُومُ ثَغْرِ
الْقَلْبِ وَحِرَاسَتُهُ لِئَلَّا يَدْخُلَ مِنْهُ الْعَدُوُّ ، وَلُزُومُ ثَغْرِ
الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ وَاللِّسَانِ وَالْبَطْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَهَذِهِ
الثُّغُورُ يَدْخُلُ مِنْهَا الْعَدُوُّ فَيَجُوسُ خِلَالَ الدِّيَارِ وَيُفْسِدُ
مَا قَدَرَ عَلَيْهِ ، فَالْمُرَابَطَةُ لُزُومُ هَذِهِ الثُّغُورِ ، وَلَا
يُخَلِّي مَكَانَهَا فَيُصَادِفَ الْعَدُوُّ الثَّغْرَ خَالِيًا فَيَدْخُلَ مِنْهُ .
فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ،
وَأَعْظَمُهُمْ حِمَايَةً وَحِرَاسَةً مِنَ الشَّيْطَانِ ، وَقَدْ أَخْلَوُا
الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرُوا بِلُزُومِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَدَخَلَ مِنْهُ
الْعَدُوُّ ، فَكَانَ مَا كَانَ
.
وَجِمَاعُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَعَمُودُهَا الَّذِي
تَقُومُ بِهِ هُوَ تَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَلَا يَنْفَعُ الصَّبْرُ وَلَا الْمُصَابَرَةُ
وَلَا الْمُرَابَطَةُ إِلَّا بِالتَّقْوَى ، وَلَا تَقُومُ التَّقْوَى إِلَّا
عَلَى سَاقِ الصَّبْرِ .
الْتِقَاءُ الْجَيْشَيْنِ فَانْظُرِ الْآنَ فِيكَ إِلَى
الْتِقَاءِ الْجَيْشَيْنِ ، وَاصْطِدَامِ الْعَسْكَرَيْنِ وَكَيْفَ تُدَالُ
مَرَّةً ، وَيُدَالُ عَلَيْكَ أُخْرَى ؟ أَقْبَلَ مَلِكُ الْكَفَرَةِ بِجُنُودِهِ
وَعَسَاكِرِهِ ، فَوَجَدَ الْقَلْبَ فِي حِصْنِهِ جَالِسًا عَلَى كُرْسِيِّ
مَمْلَكَتِهِ ، أَمْرُهُ نَافِذٌ فِي أَعْوَانِهِ ، وَجُنْدُهُ قَدْ حَفُّوا بِهِ
، يُقَاتِلُونَ عَنْهُ وَيُدَافِعُونَ عَنْ حَوْزَتِهِ ، فَلَمْ يُمْكِنْهُمُ
الْهُجُومُ عَلَيْهِ إِلَّا بِمُخَامَرَةِ بَعْضِ أُمَرَائِهِ وَجُنْدِهِ عَلَيْهِ
، فَسَأَلَ عَنْ أَخَصِّ الْجُنْدِ بِهِ وَأَقْرَبِهِمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً ، فَقِيلَ
لَهُ : هِيَ النَّفْسُ ، فَقَالَ لِأَعْوَانِهِ : ادْخُلُوا عَلَيْهَا مِنْ
مُرَادِهَا ، وَانْظُرُوا مَوَاقِعَ مَحَبَّتِهَا وَمَا هُوَ مَحْبُوبُهَا
فَعِدُوهَا بِهِ وَمَنُّوهَا إِيَّاهُ وَانْقُشُوا صُورَةَ الْمَحْبُوبِ فِيهَا
فِي يَقَظَتِهَا وَمَنَامِهَا ، فَإِذَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ وَسَكَنَتْ
عِنْدَهُ فَاطْرَحُوا عَلَيْهَا كَلَالِيبَ الشَّهْوَةِ وَخَطَاطِيفَهَا ، ثُمَّ
جُرُّوهَا بِهَا إِلَيْكُمْ ، فَإِذَا خَامَرَتْ عَلَى الْقَلْبِ وَصَارَتْ
مَعَكُمْ عَلَيْهِ مَلَكْتُمْ ثَغْرَ الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ [ ص: 98 ]
وَاللِّسَانِ وَالْفَمِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ ، فَرَابِطُوا عَلَى هَذَا
الثُّغُورِ كُلَّ الْمُرَابَطَةِ ، فَمَتَى دَخَلْتُمْ مِنْهَا إِلَى الْقَلْبِ
فَهُوَ قَتِيلٌ أَوْ أَسِيرٌ ، أَوْ جَرِيحٌ مُثْخَنٌ بِالْجِرَاحَاتِ ، وَلَا تُخْلُوا
هَذِهِ الثُّغُورَ ، وَلَا تُمَكِّنُوا سَرِيَّةً تَدْخُلُ فِيهَا إِلَى الْقَلْبِ
فَتُخْرِجَكُمْ مِنْهَا ، وَإِنْ غُلِبْتُمْ فَاجْتَهِدُوا فِي إِضْعَافِ السَّرِيَّةِ
وَوَهَنِهَا ، حَتَّى لَا تَصِلَ إِلَى الْقَلْبِ ، فَإِنْ وَصَلَتْ إِلَيْهِ
وَصَلَتْ ضَعِيفَةً لَا تُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا .
ثَغْرُ الْعَيْنِ فَإِذَا اسْتَوْلَيْتُمْ عَلَى هَذِهِ
الثُّغُورِ فَامْنَعُوا ثَغْرَ الْعَيْنِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ اعْتِبَارًا ،
بَلِ اجْعَلُوا نَظَرَهُ تَفَرُّجًا وَاسْتِحْسَانًا وَتَلَهِّيًا ، فَإِنِ
اسْتَرَقَ نَظَرُهُ عِبْرَةً فَأَفْسِدُوهَا عَلَيْهِبِنَظَرِ الْغَفْلَةِ
وَالِاسْتِحْسَانِ وَالشَّهْوَةِ ، فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ وَأَعْلَقُ
بِنَفْسِهِ وَأَخَفُّ عَلَيْهِ ، وَدُونَكُمْ ثَغْرَ الْعَيْنِ ، فَإِنَّ مِنْهُ تَنَالُونَ
بُغْيَتَكُمْ ، فَإِنِّي مَا أَفْسَدْتُ بَنِي آدَمَ بِشَيْءٍ مِثْلِ النَّظَرِ ،
فَإِنِّي أَبْذُرُ بِهِ فِي الْقَلْبِ بَذْرَ الشَّهْوَةِ ، ثُمَّ أَسْقِيهِ
بِمَاءِ الْأُمْنِيَّةِ ، ثُمَّ لَا أَزَالُ أَعِدُهُ وَأُمَنِّيهِ حَتَّى
أُقَوِّيَ عَزِيمَتَهُ وَأَقُودَهُ بِزِمَامِ الشَّهْوَةِ إِلَى الِانْخِلَاعِ
مِنَ الْعِصْمَةِ ، فَلَا تُهْمِلُوا أَمْرَ هَذَا الثَّغْرِ وَأَفْسِدُوهُ
بِحَسَبِ اسْتِطَاعَتِكُمْ ، وَهَوِّنُوا عَلَيْهِ أَمْرَهُ ، وَقُولُوا لَهُ : مِقْدَارُ
نَظْرَةٍ تَدْعُوكَ إِلَى تَسْبِيحِ الْخَالِقِ وَالتَّأَمُّلِ لِبَدِيعِ
صَنِيعِهِ ، وَحُسْنِ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي إِنَّمَا خُلِقَتْ لِيَسْتَدِلَّ
بِهَا النَّاظِرُ عَلَيْهِ ، وَمَا خَلَقَ اللَّهُ لَكَ الْعَيْنَيْنِ سُدًى ، وَمَا
خَلَقَ اللَّهُ هَذِهِ الصُّورَةَ لِيَحْجُبَهَا عَنِ النَّظَرِ ، وَإِنْ
ظَفِرْتُمْ بِهِ قَلِيلَ الْعِلْمِ فَاسِدَ الْعَقْلِ ، فَقُولُوا لَهُ : هَذِهِ
الصُّورَةُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الْحَقِّ وَمَجْلًى مِنْ مَجَالِيهِ ،
فَادْعُوهُ إِلَى الْقَوْلِ بِالِاتِّحَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ فَالْقَوْلُ
بِالْحُلُولِ الْعَامِّ أَوِ الْخَاصِّ ، وَلَا تَقْنَعُوا مِنْهُ بِدُونِ ذَلِكَ
، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مِنْ إِخْوَانِ النَّصَارَى ، فَمُرُوهُ حِينَئِذٍ بِالْعِفَّةِ
وَالصِّيَانَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا ، وَاصْطَادُوا
عَلَيْهِ وَبِهِ الْجُهَّالَ ، فَهَذَا مِنْ أَقْرَبِ خُلَفَائِي وَأَكْبَرِ
جُنْدِي ، بَلْ أَنَا مِنْ جُنْدِهِ وَأَعْوَانِهِ .
فَصْلٌ:
ثَغْرُ الْأُذُنِثُمَّ امْنَعُوا ثَغْرَ الْأُذُنِ أَنْ
يُدْخِلَ عَلَيْهِ مَا يُفْسِدُ عَلَيْكُمُ الْأَمْرَ ، فَاجْتَهِدُوا أَنْ لَا
تُدْخِلُوا مِنْهُ إِلَّا الْبَاطِلَ ، فَإِنَّهُ خَفِيفٌ عَلَى النَّفْسِ تَسْتَحْلِيهِ
وَتَسْتَحْسِنُهُ ، تَخَيَّرُوا لَهُ أَعْذَبَ الْأَلْفَاظِ وَأَسْحَرَهَا
لِلْأَلْبَابِ ، وَامْزِجُوهُ بِمَا تَهْوَى النَّفْسُ مَزْجًا .
وَأَلْقُوا الْكَلِمَةَ فَإِنْ رَأَيْتُمْ مِنْهُ
إِصْغَاءً إِلَيْهَا فَزُجُّوهُ بِأَخَوَاتِهَا ، وَكُلَّمَا صَادَفْتُمْ مِنْهُ اسْتِحْسَانَ
شَيْءٍ فَالْهَجُوا لَهُ بِذِكْرِهِ ، وَإِيَّاكُمْ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ هَذَا
الثَّغْرِ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْ كَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ كَلَامِ النُّصَحَاءِ ، فَإِنْ غُلِبْتُمْ عَلَى ذَلِكَ
وَدَخَلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، فَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَهْمِهِ
وَتَدَبُّرِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ وَالْعِظَةِ بِهِ ، إِمَّا بِإِدْخَالِ ضِدِّهِ
عَلَيْهِ ، وَإِمَّا بِتَهْوِيلِ ذَلِكَ [ ص: 99 ] وَتَعْظِيمِهِ وَأَنَّ هَذَا
أَمْرٌ قَدْ حِيلَ بَيْنَ النُّفُوسِ وَبَيْنَهُ فَلَا سَبِيلَ لَهَا إِلَيْهِ ،
وَهُوَ حِمْلٌ يَثْقُلُ عَلَيْهَا لَا تَسْتَقِلُّ بِهِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ،
وَإِمَّا بِإِرْخَاصِهِ عَلَى النُّفُوسِ ، وَأَنَّ الِاشْتِغَالَ يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ بِمَا هُوَ أَعْلَى عِنْدَ النَّاسِ ، وَأَعَزُّ عَلَيْهِمْ ، وَأَغْرَبُ
عِنْدَهُمْ ، وَزُبُونُهُ الْقَابِلُونَ لَهُ أَكْثَرُ ، وَأَمَّا الْحَقُّ فَهُوَ
مَهْجُورٌ ، وَقَائِلُهُ مُعَرِّضٌ نَفْسَهُ لِلْعَدَاوَةِ ، وَالرَّابِحُ بَيْنَ النَّاسِ
أَوْلَى بِالْإِيثَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَتُدْخِلُونَ الْبَاطِلَ عَلَيْهِ فِي
كُلِّ قَالَبٍ يَقْبَلُهُ وَيَخِفُّ عَلَيْهِ ، وَتُخْرِجُونَ لَهُ الْحَقَّ فِي
كُلِّ قَالَبٍ يَكْرَهُهُ وَيَثْقُلُ عَلَيْهِ .
وَإِذَا شِئْتَ أَنْ تَعْرِفَ ذَلِكَ فَانْظُرْ إِلَى إِخْوَانِهِمْ
مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ ، كَيْفَ يُخْرِجُونَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي قَالَبِ كَثْرَةِ الْفُضُولِ ، وَتَتَبُّعِ
عَثَرَاتِ النَّاسِ ، وَالتَّعَرُّضِ مِنَ الْبَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ ،
وَإِلْقَاءِ الْفِتَنِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَيُخْرِجُونَ
اتِّبَاعَ السُّنَّةِ وَوَصْفَ الرَّبِّ تَعَالَى بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ
وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَالَبِ
التَّجْسِيمِ وَالتَّشْبِيهِ وَالتَّكْيِيفِ ، وَيُسَمُّونَ عُلُوَّ اللَّهِ عَلَى
خَلْقِهِ وَاسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ وَمُبَايَنَتَهُ لِمَخْلُوقَاتِهِ ، تَحَيُّزًا
، وَيُسَمُّونَ نُزُولَهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا ، وَقَوْلَهُ : مَنْ
يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، تَحَرُّكًا وَانْتِقَالًا ، وَيُسَمُّونَ مَا وَصَفَ
بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الْيَدِ وَالْوَجْهِ أَعْضَاءَ وَجَوَارِحَ ، وَيُسَمُّونَ مَا
يَقُومُ بِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ حَوَادِثَ ، وَمَا يَقُومُ مِنْ صِفَاتِهِ أَعْرَاضًا
، ثُمَّ يَتَوَصَّلُونَ إِلَى نَفْيِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ بِهَذِهِ
الْأُمُورِ ، وَيُوهِمُونَ الْأَغْمَارَ وَضُعَفَاءَ الْبَصَائِرِ ، أَنَّ
إِثْبَاتَ الصِّفَاتِ الَّتِي نَطَقَ بِهَا كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَسْتَلْزِمُ هَذِهِ الْأُمُورَ ، وَيُخْرِجُونَ
هَذَا التَّعْطِيلَ فِي قَالَبِ التَّنْزِيهِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَأَكْثَرُ
النَّاسِ ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ يَقْبَلُونَ الشَّيْءَ بِلَفْظٍ وَيَرُدُّونَهُ
بِعَيْنِهِ بِلَفْظٍ آخَرَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 112 ]
فَسَمَّاهُ زُخْرُفًا ، وَهُوَ بَاطِلٌ ، لِأَنَّ صَاحِبَهُ يُزَخْرِفُهُ
وَيُزَيِّنُهُ مَا اسْتَطَاعَ ، وَيُلْقِيهِ إِلَى سَمْعِ الْمَغْرُورِ
فَيَغْتَرُّ بِهِ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ لَزِمَ ثَغْرَ
الْأُذُنِ ، أَنْ يُدْخِلَ فِيهَا مَا يَضُرُّ الْعَبْدَ وَلَا يَنْفَعُهُ ،
وَيَمْنَعَ أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهَا مَا يَنْفَعُهُ ، وَإِنْ دَخَلَ بِغَيْرِ
اخْتِيَارِهِ أَفْسَدَهُ عَلَيْهِ
.
فَصْلٌ: ثَغْرُ اللِّسَانِثُمَّ يَقُولُ : قُومُوا عَلَى
ثَغْرِ اللِّسَانِ ، فَإِنَّهُ الثَّغْرُ الْأَعْظَمُ ، وَهُوَ قُبَالَةُ
الْمَلِكِ ، فَأَجْرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ
، وَامْنَعُوهُ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا يَنْفَعُهُ : مِنْ ذِكْرِ
اللَّهِ [ ص: 100 ] تَعَالَى وَاسْتِغْفَارِهِ ، وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ ،
وَنَصِيحَةِ عِبَادِهِ ، وَالتَّكَلُّمِ بِالْعِلْمِ النَّافِعِ ، وَيَكُونُ
لَكُمْ فِي هَذَا الثَّغْرِ أَمْرَانِ عَظِيمَانِ ، لَا تُبَالُونَ بِأَيِّهِمَا
ظَفِرْتُمْ :
أَحَدُهُمَا :
التَّكَلُّمُ بِالْبَاطِلِ ، فَإِنَّمَا الْمُتَكَلِّمُ
بِالْبَاطِلِ أَخٌ مِنْ إِخْوَانِكُمْ ، وَمِنْ أَكْبَرِ جُنْدِكِمْ
وَأَعْوَانِكِمْ .
الثَّانِي :
السُّكُوتُ عَنِ الْحَقِّ ، فَإِنَّ السَّاكِتَ عَنِ
الْحَقِّ أَخٌ لَكُمْ أَخْرَسُ ، كَمَا أَنَّ الْأَوَّلَ أَخٌ نَاطِقٌ ،
وَرُبَّمَا كَانَ الْأَخُ الثَّانِي أَنْفَعَ أَخَوَيْكُمْ لَكُمْ ، أَمَا
سَمِعْتُمْ قَوْلَ النَّاصِحِ : الْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ ، وَالسَّاكِتُ
عَنِ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ ؟
فَالرِّبَاطَ الرِّبَاطَ عَلَى هَذَا الثَّغْرِ أَنْ
يَتَكَلَّمَ بِحَقٍّ أَوْ يُمْسِكَ عَنْ بَاطِلٍ ، وَزَيِّنُوا لَهُ التَّكَلُّمَ
بِالْبَاطِلِ بِكُلِّ طَرِيقٍ ، وَخَوِّفُوهُ مِنَ التَّكَلُّمِ بِالْحَقِّ
بِكُلِّ طَرِيقٍ .
وَاعْلَمُوا يَا بَنِيَّ أَنَّ ثَغْرَ اللِّسَانِ هُوَ
الَّذِي أُهْلِكُ مِنْهُ بَنِي آدَمَ ، وَأَكُبُّهُمْ مِنْهُ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ
فِي النَّارِ ، فَكَمْ لِي مِنْقَتِيلٍ وَأَسِيرٍ وَجَرِيحٍ أَخَذْتُهُ مِنْ هَذَا
الثَّغْرِ ؟
وَأُوصِيكُمْ بِوَصِيَّةٍ فَاحْفَظُوهَا : لِيَنْطِقْ
أَحَدُكُمْ عَلَى لِسَانِ أَخِيهِ مِنَ الْإِنْسِ بِالْكَلِمَةِ ، وَيَكُونُ
الْآخَرُ عَلَى لِسَانِ السَّامِعِ فَيَنْطِقُ بِاسْتِحْسَانِهَا وَتَعْظِيمِهَا
وَالتَّعَجُّبِ مِنْهَا وَيَطْلُبُ مِنْ أَخِيهِ إِعَادَتَهَا ، وَكُونُوا
أَعْوَانًا عَلَى الْإِنْسِ بِكُلِّ طَرِيقٍ، وَادْخُلُوا عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ
بَابٍ ، وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ، أَمَا سَمِعْتُمْ قَسَمِي الَّذِي أَقْسَمْتُ
بِهِ لِرَبِّهِمْ حَيْثُ قُلْتُ : فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ
صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ
خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ
شَاكِرِينَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ 16 - 17 ] .
أَوَمَا تَرَوْنِي قَدْ قَعَدْتُ لِابْنِ آدَمَ
بِطُرُقِهِ كُلِّهَا ، فَلَا يَفُوتُنِي مِنْ طَرِيقٍ إِلَّا قَعَدْتُ لَهُ
بِطَرِيقٍ غَيْرِهِ ، حَتَّى أُصِيبَ مِنْهُحَاجَتِي أَوْ بَعْضَهَا ؟ وَقَدْ
حَذَّرَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُهُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ
لَهُمْ : إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ بِطُرُقِهِ كُلِّهَا ،
وَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْإِسْلَامِ ، فَقَالَ لَهُ : أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ
دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ ؟ فَخَالَفَهُ وَأَسْلَمَ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ
الْهِجْرَةِ ، فَقَالَ : أَتُهَاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَمَاءَكَ ؟ فَخَالَفَهُ
وَهَاجَرَ ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ ، فَقَالَ : أَتُجَاهِدُ
فَتُقْتَلَ فَيُقَسَّمَ الْمَالُ وَتُنْكَحَ الزَّوْجَةُ ؟
فَكَهَذَا فَاقْعُدُوا لَهُمْ بِكُلِّ طُرُقِ الْخَيْرِ
، فَإِذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ فَاقْعُدُوا لَهُ عَلَى طَرِيقِ
الصَّدَقَةِ ، وَقُولُوا لَهُ فِي نَفْسِهِ : أَتُخْرِجُ الْمَالَ فَتَبْقَى
مِثْلَ هَذَا السَّائِلِ وَتَصِيرَ بِمَنْزِلَتِهِ أَنْتَ وَهُوَ سَوَاءٌ ؟
أَوَمَا سَمِعْتُمْ مَا أَلْقَيْتُ عَلَى لِسَانِ رَجُلٍ سَأَلَهُ آخَرُ أَنْ
يَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ ، قَالَ : هِيَ أَمْوَالُنَا إِذَا أَعْطَيْنَاكُمُوهَا
صِرْنَا مِثْلَكُمْ .
[ ص: 101 ] وَاقْعُدُوا لَهُ بِطَرِيقِ الْحَجِّ ، فَقُولُوا
: طَرِيقُهُ مَخُوفَةٌ مُشِقَّةٌ ، يَتَعَرَّضُ سَالِكُهَا لِتَلَفِ النَّفْسِ
وَالْمَالِ ، وَهَكَذَا فَاقْعُدُوا لَهُ عَلَى سَائِرِ طُرُقٍ الْخَيْرِ
بِالتَّنْفِيرِ عَنْهَا وَذِكْرِ صُعُوبَتِهَا وَآفَاتِهَا ، ثُمَّ اقْعُدُوا
لَهُمْ عَلَى طُرُقِ الْمَعَاصِي فَحَسِّنُوهَا فِي أَعْيُنِ بَنِي آدَمَ ،
وَزَيِّنُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ ، وَاجْعَلُوا أَكْثَرَ أَعْوَانِكِمْ عَلَى ذَلِكَ
النِّسَاءَ ، فَمِنْ أَبْوَابِهِنَّ فَادْخُلُوا عَلَيْهِمْ، فَنِعْمَ الْعَوْنُ
هُنَّ لَكُمْ .
ثُمَّ الْزَمُوا ثَغْرَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ،
فَامْنَعُوهَا أَنْ تَبْطِشَ بِمَا يَضُرُّكُمْ وَتَمْشِي فِيهِ .
النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ أَكْبَرَ أَعْوَانِكُمْ عَلَى لُزُومِ
هَذِهِ الثُّغُورِ مُصَالَحَةُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ ، فَأَعْيُوهَا
وَاسْتَعِينُوا بِهَا ، وَأَمِدُّوهَا وَاسْتَمِدُّوا مِنْهَا ، وَكُونُوا مَعَهَا
عَلَى حَرْبِ النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ ، فَاجْتَهِدُوا فِي كَسْرِهَا
وَإِبْطَالِ قُوَاهَا ، وَلَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ إِلَّا بِقَطْعِ مَوَادِّهَا عَنْهَا
، فَإِذَا انْقَطَعَتْ مَوَادُّهَا وَقَوِيَتْ مَوَادُّ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ ،
وَانْطَاعَتْ لَكُمْ أَعْوَانُهَا ، فَاسْتَنْزِلُوا الْقَلْبَ مِنْ حِصْنِهِ ،
وَاعْزِلُوهُ عَنْ مَمْلَكَتِهِ ، وَوَلُّوا مَكَانَهُ النَّفْسَ الْأَمَّارَةَ ،
فَإِنَّهَا لَا تَأْمُرُ إِلَّا بِمَا تَهْوَوْنَهُ وَتُحِبُّونَهُ ، وَلَا
تَجِيئُكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَهُ أَلْبَتَّةَ ، مَعَ أَنَّهَا لَا تُخَالِفُكُمْ
فِي شَيْءٍ تُشِيرُونَ بِهِ عَلَيْهَا ، بَلْ إِذَا أَشَرْتُمْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ
بَادَرَتْ إِلَى فِعْلِهِ ، فَإِنْ أَحْسَسْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ مُنَازَعَةً إِلَى
مَمْلَكَتِهِ ، وَأَرَدْتُمُ الْأَمْنَ مِنْ ذَلِكَ ، فَاعْقِدُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
النَّفْسِ عَقْدَ النِّكَاحِ ، فَزَيِّنُوهَا وَجَمِّلُوهَا ، وَأَرُوهَا
إِيَّاهُفِي أَحْسَنِ صُورَةِ عَرُوسٍ تُوجَدُ ، وَقُولُوا لَهُ ذُقْ طَعْمَ هَذَا
الْوِصَالِ وَالتَّمَتُّعِ بِهَذِهِ الْعَرُوسِ كَمَا ذُقْتَ طَعْمَ الْحَرْبِ ،
وَبَاشَرْتَ مَرَارَةَ الطَّعْنِ وَالضَّرْبِ ، ثُمَّ وَازِنْ بَيْنَ لَذَّةِ
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَمَرَارَةِ تِلْكَ الْمُحَارَبَةِ ، فَدَعِ الْحَرْبَ
تَضَعُ أَوْزَارَهَا ، فَلَيْسَتْ بِيَوْمٍ وَتَنْقَضِي ، وَإِنَّمَا هُوَ حَرْبٌ
مُتَّصِلٌ بِالْمَوْتِ ، وَقُوَاكَ تَضْعُفُ عَنْ حَرْبٍ دَائِمٍ .
وَاسْتَعِينُوا يَا بَنِيَّ بِجُنْدَيْنِ عَظِيمَيْنِ
لَنْ تُغْلَبُوا مَعَهُمَا :
أَحَدُهُمَا :
جُنْدُ الْغَفْلَةِ ، فَأَغْفِلُوا قُلُوبَ بَنِي آدَمَ
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ بِكُلِّ طَرِيقٍ ، فَلَيْسَ لَكُمْ
شَيْءٌ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ غَرَضِكِمْ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا غَفَلَ
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى تَمَكَّنْتُمْ مِنْهُ وَمِنْ إِغْوَائِهِ .
الثَّانِي :
جُنْدُ الشَّهَوَاتِ ، فَزَيِّنُوهَا فِي قُلُوبِهِمْ ،
وَحَسِّنُوهَا فِي أَعْيُنِهِمْ ، وَصُولُوا عَلَيْهِمْ بِهَذَيْنِ الْعَسْكَرَيْنِ
، فَلَيْسَ لَكُمْ فِي بَنِي آدَمَ أَبْلَغُ مِنْهُمَا ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى
الْغَفْلَةِ بِالشَّهَوَاتِ ، وَعَلَى الشَّهَوَاتِ بِالْغَفْلَةِ ، وَاقْرِنُوا
بَيْنَ الْغَافِلِينَ ، ثُمَّ اسْتَعِينُوا بِهِمَا عَلَى الذَّاكِرِ ، وَلَا
يَغْلِبُ وَاحِدٌ خَمْسَةً ، فَإِنَّ مَعَ الْغَافِلَيْنِ شَيْطَانَيْنِ صَارُوا
أَرْبَعَةً ، وَشَيْطَانُ الذَّاكِرِ مَعَهُمْ ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ جَمَاعَةً
مُجْتَمِعِينَ عَلَى مَا يَضُرُّكُمْ - مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمُذَاكَرَةِ
أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَدِينِهِ ، وَلَمْ تَقْدِرُوا عَلَى تَفْرِيقِهِمْ -
فَاسْتَعِينُوا عَلَيْهِمْ بِبَنِي جِنْسِهِمْ مِنَ الْإِنْسِ الْبَطَّالِينَ ، فَقَرِّبُوهُمْ
مِنْهُمْ ، وَشَوِّشُوا عَلَيْهِمْ بِهِمْ ، [ ص: 102 ] وَبِالْجُمْلَةِ فَأَعِدُّوا
لِلْأُمُورِ أَقْرَانَهَا ، وَادْخُلُوا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ بَابِ إِرَادَتِهِ وَشَهْوَتِهِ ، فَسَاعِدُوهُ عَلَيْهَا ، وَكُونُوا لَهُ
أَعْوَانًا عَلَى تَحْصِيلِهَا ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ
يَصْبِرُوا لَكُمْ وَيُصَابِرُوكُمْ وَيُرَابِطُوا عَلَيْكُمُ الثُّغُورَ ،
فَاصْبِرُوا أَنْتُمْ وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا عَلَيْهِمْ بِالثُّغُورِ ،
وَانْتَهِزُوا فُرَصَكُمْ فِيهِمْ عِنْدَ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ ، فَلَا
تَصْطَادُوا بَنِي آدَمَ فِي أَعْظَمَ مِنْ هَذَيْنِ الْمَوْطِنَيْنِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ
عَلَيْهِ أَغْلَبَ وَسُلْطَانُ غَضَبِهِ ضَعِيفٌ مَقْهُورٌ ، فَخُذُوا عَلَيْهِ
طَرِيقَ الشَّهْوَةِ ، وَدَعُوا طَرِيقَ الْغَضَبِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ
الْغَضَبِ عَلَيْهِ أَغْلَبَ ، فَلَا تُخْلُوا طَرِيقَ الشَّهْوَةِ قَلْبَهُ ،
وَلَا تُعَطِّلُوا ثَغْرَهَا ، فَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ ،
فَإِنَّهُ الْحَرِيُّ أَنْ لَا يَمْلِكَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهْوَةِ ،
فَزَوِّجُوا بَيْنَ غَضَبِهِ وَشَهْوَتِهِ ، وَامْزِجُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ،
وَادْعُوهُ إِلَى الشَّهْوَةِ مِنْ بَابِ الْغَضَبِ ، وَإِلَى الْغَضَبِ مِنْ
طَرِيقِ الشَّهْوَةِ .
وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لَكُمْ فِي بَنِي آدَمَ سِلَاحٌ
أَبْلَغُ مِنْ هَذَيْنِ السِّلَاحَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَخْرَجْتُ أَبَوَيْهِمْ مِنَ
الْجَنَّةِ بِالشَّهْوَةِ ، وَإِنَّمَا أَلْقَيْتُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ
أَوْلَادِهِمْ بِالْغَضَبِ ، فَبِهِ قَطَّعْتُ أَرْحَامَهُمْ ، وَسَفَكْتُ
دِمَاءَهُمْ ، وَبِهِ قَتَلَ أَحَدُ ابْنَيْ آدَمَ أَخَاهُ .
وَاعْلَمُوا أَنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ
، وَالشَّهْوَةَ تَثُورُ مِنْ قَلْبِهِ ، وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ
وَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالتَّكْبِيرِ ، فَإِيَّاكُمْ أَنْ تُمَكِّنُوا ابْنَ
آدَمَ عِنْدَ غَضَبِهِ وَشَهْوَتِهِ مِنْ قُرْبَانِ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ ،
فَإِنَّ ذَلِكَ يُطْفِئُ عَنْهُمْ نَارَ الْغَضَبِ وَالشَّهْوَةِ ، وَقَدْ أَمَرَهُمْ
نَبِيُّهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ : إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ
، أَمَا رَأَيْتُمْ مِنِ احْمِرَارِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ ، فَمَنْ
أَحَسَّ بِذَلِكَ فَلْيَتَوَضَّأْ
.
وَقَالَ لَهُمْ : إِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ
، وَقَدْ أَوْصَاهُمُ اللَّهُ أَنْ يَسْتَعِينُوا عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ
وَالصَّلَاةِ ، فَحُولُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ ، وَأَنْسُوهُمْ إِيَّاهُ ،
وَاسْتَعِينُوا عَلَيْهِمْ بِالشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ ، وَأَبْلَغُ أَسْلِحَتِكِمْ
فِيهِمْ وَأَنْكَاهَا : الْغَفْلَةُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى . وَأَعْظَمُ أَسْلِحَتِهِمْ
فِيكُمْ وَأَمْنَعُ حُصُونِهِمْ ذِكْرُ اللَّهِ وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى ، فَإِذَا
رَأَيْتُمُ الرَّجُلَمُخَالِفًا لِهَوَاهُ فَاهْرَبُوا مِنْ ظِلِّهِ وَلَا
تَدْنُوا مِنْهُ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ وَالْمَعَاصِيَ سِلَاحٌ
وَمَدَدٌ يَمُدُّ بِهَا الْعَبْدُ أَعْدَاءَهُ وَيُعِينُهُمْ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ
، فَيُقَاتِلُونَ بِسِلَاحِهِ ، وَيَكُونُ مَعَهُمْ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهَذَا غَايَةُ
الْجَهْلِ .
مَا يَبْلُغُ الْأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ مَا يَبْلُغُ
الْجَاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ
وَمِنَ الْعَجَائِبِ أَنَّ الْعَبْدَ يَسْعَى بِجُهْدِهِ
فِي هَوَانِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُكْرِمٌ [ ص: 103 ]
وَيَجْتَهِدُ فِي حِرْمَانِهَا أَعْلَى حُظُوظِهَا وَأَشْرَفَهَا وَهُوَ يَزْعُمُ
أَنَّهُ يَسْعَى فِي حَظِّهَا ، وَيَبْذُلُ جُهْدَهُ فِي تَحْقِيرِهَا وَتَصْغِيرِهَا
وَتَدْنِيسِهَا ، وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُعْلِيهَا وَيَرْفَعُهَا وَيُكْبِرُهَا .
وَكَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ :
أَلَا رُبَّ مُهِينٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُكْرِمٌ ،
وَمُذِلٌّ لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُعِزٌّ ، وَمُصَغِّرٌ
لِنَفْسِهِ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَهَا مُكَبِّرٌ ، وَمُضِيعٌ لِنَفْسِهِ
وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُرَاعٍ لِحِفْظِهَا ، وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ
يَكُونَ مَعَ عَدُوِّهِ عَلَى نَفْسِهِ ، يَبْلُغُ مِنْهَا بِفِعْلِهِ مَا لَا
يَبْلُغُهُ عَدُوُّهُ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعْصِيَةُ تُنْسِي الْعَبْدَ نَفْسَهُوَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُنْسِي الْعَبْدَ نَفْسَهُ ، وَإِذَا نَسِيَ نَفْسَهُ
أَهْمَلَهَا وَأَفْسَدَهَا وَأَهْلَكَهَا ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَنْسَى
الْعَبْدُ نَفْسَهُ ؟ وَإِذَا نَسِيَ نَفْسَهُ فَأَيُّ شَيْءٍ يَذْكُرُ ؟ وَمَا
مَعْنَى نِسْيَانِهِ نَفْسَهُ ؟
قِيلَ
: نَعَمْ يَنْسَى نَفْسَهُ أَعْظَمَ نِسْيَانٍ ، قَالَ
تَعَالَى : وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ
أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [ سُورَةُ الْحَشْرِ : 19 ] .
فَلَمَّا نَسُوا رَبَّهُمْ سُبْحَانَهُ نَسِيَهُمْ
وَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ
[ سُورَةُ التَّوْبَةِ : 67 ] .
فَعَاقَبَ سُبْحَانَهُ مَنْ نَسِيَهُ عُقُوبَتَيْنِ :
إِحْدَاهُمَا : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ نَسِيَهُ .
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّهُ أَنْسَاهُ نَفْسَهُ .
وَنِسْيَانُهُ سُبْحَانَهُ لِلْعَبْدِ : إِهْمَالُهُ ،
وَتَرْكُهُ ، وَتَخَلِّيهِ عَنْهُ ، وَإِضَاعَتُهُ ، فَالْهَلَاكُ أَدْنَى
إِلَيْهِ مِنَ الْيَدِ لِلْفَمِ ، وَأَمَّا إِنْسَاؤُهُ نَفْسَهُ ، فَهُوَ :
إِنْسَاؤُهُ لِحُظُوظِهَا الْعَالِيَةِ ، وَأَسْبَابِ سَعَادَتِهَا وَفَلَاحِهَا ،
وَإِصْلَاحِهَا ، وَمَا تَكْمُلُ بِهِ بِنَسْيِهِ ذَلِكَ كُلِّهِ جَمِيعِهِ فَلَا
يَخْطُرُ بِبَالِهِ ، وَلَا يَجْعَلُهُ عَلَى ذِكْرِهِ ، وَلَا يَصْرِفُ إِلَيْهِ هِمَّتَهُ
فَيَرْغَبُ فِيهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَمُرُّ بِبَالِهِ حَتَّى يَقْصِدَهُ
وَيُؤْثِرَهُ .
وَأَيْضًا فَيُنْسِيهِ عُيُوبَ نَفْسِهِ وَنَقْصَهَا
وَآفَاتِهَا ، فَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ إِزَالَتُهَا .
وَأَيْضًا فَيُنْسِيهِ أَمْرَاضَ نَفْسِهِ وَقَلْبِهِ
وَآلَامَهَا ، فَلَا يَخْطُرُ بِقَلْبِهِ مُدَاوَاتُهَا ، وَلَا السَّعْيُ فِي
إِزَالَةِ عِلَلِهَا وَأَمْرَاضِهَا الَّتِي تَئُولُ بِهَا إِلَى الْفَسَادِ
وَالْهَلَاكِ ، فَهُوَ مَرِيضٌ مُثْخَنٌ بِالْمَرَضِ ، وَمَرَضُهُ [ ص: 104 ]
مُتَرَامٍ بِهِ إِلَى التَّلَفِ ، وَلَا يَشْعُرُ بِمَرَضِهِ ، وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ
مُدَاوَاتُهُ ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.
فَأَيُّ عُقُوبَةٍ أَعْظَمُ مِنْ عُقُوبَةِ مَنْ أَهْمَلَ
نَفْسَهُ وَضَيَّعَهَا ، وَنَسِيَ مَصَالِحَهَا وَدَاءَهَا وَدَوَاءَهَا ،
وَأَسْبَابَ سَعَادَتِهَا وَفَلَاحِهَا وَصَلَاحِهَا وَحَيَاتِهَا الْأَبَدِيَّةِ
فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ ؟
وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْمَوْضِعَ تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّ أَكْثَرَ هَذَا الْخَلْقِ قَدْ نَسُوا حَقِيقَةَ أَنْفُسِهِمْ وَضَيَّعُوهَا
وَأَضَاعُوا حَظَّهَا مِنَ اللَّهِ ، وَبَاعُوهَا رَخِيصَةً بِثَمَنٍ بَخْسٍ
بَيْعَ الْغَبْنِ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ لَهُمْ هَذَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَيَظْهَرُ
هَذَا كُلَّ الظُّهُورِ يَوْمَ التَّغَابُنِ ، يَوْمَ يَظْهَرُ لِلْعَبْدِ أَنَّهُ
غُبِنَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي عَقَدَهُ لِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ،
وَالتِّجَارَةِ الَّتِي اتَّجَرَ فِيهَا لِمَعَادِهِ ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ
يَتَّجِرُ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لِآخِرَتِهِ .
فَالْخَاسِرُونَ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ
أَهْلُ الرِّبْحِ وَالْكَسْبِ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَحَظَّهُمْ
فِيهَا وَلَذَّاتِهِمْ ، بِالْآخِرَةِ وَحَظِّهِمْ فِيهَا ، فَأَذْهَبُوا
طَيِّبَاتِهِمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا ، وَاسْتَمْتَعُوا بِهَا ، وَرَضُوا
بِهَا ، وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهَا ، وَكَانَ سَعْيُهُمْ لِتَحْصِيلِهَا ،
فَبَاعُوا وَاشْتَرَوْا وَاتَّجَرُوا وَبَاعُوا آجِلًا بِعَاجِلٍ ، وَنَسِيئَةً بِنَقْدٍ
، وَغَائِبًا بِنَاجِزٍ ، وَقَالُوا : هَذَا هُوَ الْحَزْمُ ، وَيَقُولُ
أَحَدُهُمْ :
خُذْ مَا تَرَاهُ وَدَعْ شَيْئًا سَمِعْتَ بِهِ
فَكَيْفَ أَبِيعُ حَاضِرًا نَقْدًا مُشَاهَدًا فِي
هَذِهِ الدَّارِ بِغَائِبٍ نَسِيئَةً فِي دَارٍ أُخْرَى غَيْرِ هَذِهِ ؟
وَيَنْضَمُّ إِلَى ذَلِكَ ضَعْفُ الْإِيمَانِ وَقُوَّةُ دَاعِي الشَّهْوَةِ ،
وَمَحَبَّةُ الْعَاجِلَةِ وَالتَّشَبُّهُ بِبَنِي الْجِنْسِ ، فَأَكْثَرُ
الْخَلْقِ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ الْخَاسِرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِي
أَهْلِهَا : أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا
يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 86
] ، وَقَالَ فِيهِمْ : فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ [
سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 16 ] ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ظَهَرَ لَهُمُ
الْغَبْنُ فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ ، فَتَتَقَطَّعُ عَلَيْهِمُ النُّفُوسُ
حَسَرَاتٍ .
وَأَمَّا الرَّابِحُونَ فَإِنَّهُمْ بَاعُوا فَانِيًا
بِبَاقٍ ، وَخَسِيسًا بِنَفِيسٍ ، وَحَقِيرًا بِعَظِيمٍ ، وَقَالُوا : مَا
مِقْدَارُ هَذِهِ الدُّنْيَا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِهَا ، حَتَّى نَبِيعَ
حَظَّنَا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَالدَّارِ الْآخِرَةِ بِهَا ؟ فَكَيْفَ يَنَالُ الْعَبْدُ
مِنْهَا فِي هَذَا الزَّمَنِ الْقَصِيرِ الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كَغَفْوَةِ
حُلْمٍ ، لَا نِسْبَةَ لَهُ إِلَى [ ص: 105 ] دَّارِ الْقَرَارِ أَلْبَتَّةَ :
قَالَ تَعَالَى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً
مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [ سُورَةُ يُونُسَ : 45 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ
أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا
إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [ سُورَةُ النَّازِعَاتِ : 42 - 46 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا
يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ [ سُورَةُ
الْأَحْقَافِ : 35 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ
عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ
الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ [ سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ : 112 - 114 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ
أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [ سُورَةُ طه : 102 - 104 ] .
فَهَذِهِ حَقِيقَةُ الدُّنْيَا عِنْدَ مُوَافَاةِ يَوْمِ
الْقِيَامَةِ ، فَلَمَّا عَلِمُوا قِلَّةَ لُبْثِهِمْ فِيهَا ، وَأَنَّ لَهُمْ
دَارًا غَيْرَ هَذِهِ الدَّارِ، هِيَ دَارُ الْحَيَوَانِ وَدَارُ الْبَقَاءِ -
رَأَوْا مِنْ أَعْظَمِ الْغَبْنِ بَيْعَ دَارِ الْبَقَاءِ بِدَارِ الْفَنَاءِ ،
فَاتَّجَرُوا تِجَارَةَ الْأَكْيَاسِ ، وَلَمْ يَغْتَرُّوا بِتِجَارَةِ
السُّفَهَاءِ مِنَ النَّاسِ ، فَظَهَرَ لَهُمْ يَوْمَ التَّغَابُنِ رِبْحُ
تِجَارَتِهِمْ وَمِقْدَارُ مَا اشْتَرَوْهُ ، وَكُلُّ أَحَدٍ فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا بَائِعٌ مُشْتَرٍ مُتَّجِرٌ ، وَ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَائِعٌ
نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مَوْبِقُهَا .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ
وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ
فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ [ سُورَةُ التَّوْبَةِ : 111 ] .
فَهَذَا أَوَّلُ نَقْدٍ مِنْ ثَمَنِ هَذِهِ التِّجَارَةِ
، فَتَاجِرُوا أَيُّهَا الْمُفْلِسُونَ ، وَيَا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى هَذَا
الثَّمَنِ ، هُنَا ثَمَنٌ آخَرُ ، فَإِنْ كُنْتَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ التِّجَارَةِ
فَأَعْطِ هَذَا الثَّمَنَ : [ ص: 106 ] التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ
السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَلِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [
سُورَةُ التَّوْبَةِ : 112 ] .
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى
تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [ سُورَةُ الصَّفِّ : 10 - 11 ] .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ تُنْسِي الْعَبْدَ
حَظَّهُ مِنْ هَذِهِ التِّجَارَةِ الرَّابِحَةِ ، وَتَشْغَلُهُ بِالتِّجَارَةِ
الْخَاسِرَةِ ، وَكَفَى بِذَلِكَ عُقُوبَةً ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمَوَمِنْ
عُقُوبَاتِهَا أَنَّهَا تُزِيلُ النِّعَمَ الْحَاضِرَةَ ، وَتَقْطَعُ النِّعَمَ
الْوَاصِلَةَ ، فَتُزِيلُ الْحَاصِلَ ، وَتَمْنَعُ الْوَاصِلَ ، فَإِنَّ نِعَمَ
اللَّهِ مَا حُفِظَ مَوْجُودُهَا بِمِثْلِ طَاعَتِهِ ، وَلَا اسْتُجْلِبَ
مَفْقُودُهَا بِمِثْلِ طَاعَتِهِ ، فَإِنَّ مَا عِنْدَهُ لَا يُنَالُ إِلَّا
بِطَاعَتِهِ ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا وَآفَةً
، سَبَبًا يَجْلِبُهُ ، وَآفَةً تُبْطِلُهُ ، فَجَعَلَ أَسْبَابَ نِعَمِهِ
الْجَالِبَةِ لَهَا طَاعَتَهُ ، وَآفَاتِهَا الْمَانِعَةَ مِنْهَا مَعْصِيَتَهُ ،
فَإِذَا أَرَادَ حِفْظَ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ أَلْهَمَهُ رِعَايَتَهَا بِطَاعَتِهِ
فِيهَا ، وَإِذَا أَرَادَ زَوَالَهَا عَنْهُ خَذَلَهُ حَتَّى عَصَاهُ بِهَا .
وَمِنَ الْعَجَبِ عِلْمُ الْعَبْدِ بِذَلِكَ مُشَاهَدَةً
فِي نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ ، وَسَمَاعًا لِمَا غَابَ عَنْهُ مِنْ أَخْبَارِ مَنْ
أُزِيلَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَنْهُمْ بِمَعَاصِيهِ ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى
مَعْصِيَةِ اللَّهِ ، كَأَنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ ، أَوْ
مَخْصُوصٌ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ ، وَكَأَنَّ هَذَا أَمْرٌ جَارٍ عَلَى النَّاسِ
لَا عَلَيْهِ ، وَوَاصِلٌ إِلَى الْخَلْقِ لَا إِلَيْهِ ، فَأَيُّ جَهْلٍ أَبْلَغُ
مِنْ هَذَا ؟ وَأَيُّ ظُلْمٍ لِلنَّفْسِ فَوْقَ هَذَا ؟ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ
الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ .
فَصْلٌ:
الْمَعْصِيَةُ تُبَاعِدُ بَيْنَ الْعَبْدِ
وَالْمَلِكِوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا : أَنَّهَا تُبَاعِدُ عَنِ الْعَبْدِ وَلِيَّهُ
وَأَنْفَعَ الْخَلْقِ لَهُ وَأَنْصَحَهُمْ لَهُ ، وَمَنْ سَعَادَتُهُ فِي قُرْبِهِ
مِنْهُ ، وَهُوَالْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ ، وَتُدْنِي مِنْهُ عَدُوَّهُ وَأَغَشَّ
الْخَلْقِ لَهُ ، وَأَعْظَمَهُمْ [ ص: 107 ] ضَرَرًا لَهُ ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ ،
فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا عَصَى اللَّهَ تَبَاعَدَ مِنْهُ الْمَلَكُ بِقَدْرِ
تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ ، حَتَّى إِنَّهُ يَتَبَاعَدُ مِنْهُ بِالْكِذْبَةِ
الْوَاحِدَةِ مَسَافَةً بَعِيدَةً
.
وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ : إِذَا كَذَبَ الْعَبْدُ
تَبَاعَدَ مِنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا مِنْ نَتَنِ رِيحِهِ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا
تَبَاعُدَ الْمَلَكِ مِنْهُ مِنْ كِذْبَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَمَاذَا يَكُونُ مِقْدَارُ
بُعْدِهِ مِنْهُ مِمَّا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَفْحَشُ مِنْهُ ؟
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِذَا رُكِبَ الذَّكَرُ
عَجَّتِ الْأَرْضُ إِلَى اللَّهِ وَهَرَبَتِ الْمَلَائِكَةُ إِلَى رَبِّهَا ،
وَشَكَتْ إِلَيْهِ عَظِيمَ مَا رَأَتْ.
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ
ابْتَدَرَهُ الْمَلَكُ وَالشَّيْطَانُ ، فَإِنْ ذَكَرَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ
وَحَمِدَهُ وَهَلَّلَهُ ، طُرِدَ الشَّيْطَانُ وَتَوَلَّاهُ الْمَلَكُ ، وَإِنِ
افْتَتَحَ بِغَيْرِ ذَلِكَ ذَهَبَ الْمَلَكُ عَنْهُ وَتَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ .
وَلَا يَزَالُ الْمَلَكُ يَقْرُبُ مِنَ الْعَبْدِ حَتَّى
يَصِيرَ الْحُكْمُ وَالطَّاعَةُ وَالْغَلَبَةُ لَهُ ، فَتَتَوَلَّاهُ
الْمَلَائِكَةُ فِي حَيَاتِهِ وَعِنْدَ مَوْتِهِ وَعِنْدَ بَعْثِهِ ، كَمَا قَالَ
اللَّهُتَعَالَى : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا
تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 30 - 31 ] .
وَإِذَا تَوَلَّاهُ الْمَلَكُ تَوَلَّاهُ أَنْصَحُ
الْخَلْقِ وَأَنْفَعُهُمْ وَأَبَرُّهُمْ ، فَثَبَّتَهُ وَعَلَّمَهُ ، وَقَوَّى
جَنَانَهُ ، وَأَيَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 12 ] .
فَيَقُولُ الْمَلَكُ عِنْدَ الْمَوْتِ : لَا تَخَفْ
وَلَا تَحْزَنْ وَأَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ ، وَيُثَبِّتُهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ
أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، وَعِنْدَ الْمَوْتِ ،
وَفِي الْقَبْرِ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ
.
فَلَيْسَ أَحَدٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ مِنْ صُحْبَةِ
الْمَلَكِ لَهُ ، وَهُوَ وَلِيُّهُ فِي يَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ ، وَحَيَاتِهِ
وَعِنْدَ مَوْتِهِ وَفِي قَبْرِهِ ، وَمُؤْنِسُهُ فِي وَحْشَتِهِ ، وَصَاحِبُهُ
فِي خَلْوَتِهِ ، وَمُحَدِّثُهُ فِي سِرِّهِ ، وَيُحَارِبُ عَنْهُ عَدُوَّهُ ، وَيُدَافِعُ
عَنْهُ وَيُعِينُهُ عَلَيْهِ ، وَيَعِدُهُ بِالْخَيْرِ وَيُبَشِّرُهُ بِهِ ،
وَيُحِثُّهُ عَلَى التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ ، كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ الَّذِي
يُرْوَى مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا : إِنَّ لِلْمَلَكِ بِقَلْبِ ابْنِ آدَمَ لَمَّةً
، وَلِلشَّيْطَانِ لَمَّةً ، فَلَمَّةُ الْمَلَكِ : إِيعَادٌ بِالْخَيْرِ
وَتَصْدِيقٌ بِالْوَعْدِ ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ : إِيعَادٌ بِالشَّرِّ
وَتَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ .
وَإِذَا اشْتَدَّ قُرْبُ الْمَلَكِ مِنَ الْعَبْدِ
تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ ، وَأَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ الْقَوْلَ السَّدِيدَ ،
وَإِذَا بَعُدَ مِنْهُ وَقَرُبَ الشَّيْطَانُ ، تَكَلَّمَ عَلَى لِسَانِهِ ،
وَأَلْقَى عَلَيْهِ قَوْلَ الزُّورِ وَالْفُحْشِ ، حَتَّى يُرَى الرَّجُلُ
يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ الْمَلَكُ وَالرَّجُلُيَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِهِ
الشَّيْطَانُ [ ص: 108 ] وَفِي الْحَدِيثِ : إِنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ
عَلَى لِسَانِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَسْمَعُ
الْكَلِمَةَ الصَّالِحَةَ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَيَقُولُ : مَا أَلْقَاهُ
عَلَى لِسَانِكَ إِلَّا الْمَلَكُ ، وَيَسْمَعُ ضِدَّهَا فَيَقُولُ : مَا أَلْقَاهَا
عَلَى لِسَانِكَ إِلَّا الشَّيْطَانُ ، فَالْمَلَكُ يُلْقِي بِالْقَلْبِ الْحَقَّ
وَيُلْقِيهِ عَلَى اللِّسَانِ ، وَالشَّيْطَانُ يُلْقِي الْبَاطِلَ فِي الْقَلْبِ
وَيُجْرِيهِ عَلَى اللِّسَانِ .
فَمِنْ عُقُوبَةِ الْمَعَاصِي أَنَّهَا تُبْعِدُ مِنَ
الْعَبْدِ وَلِيَّهُ الَّذِي سَعَادَتُهُ فِي قُرْبِهِ وَمُجَاوَرَتِهِ
وَمُوَالَاتِهِ ، وَتُدْنِي مِنْهُ عَدُوَّهُ الَّذِي شَقَاؤُهُ وَهَلَاكُهُ
وَفَسَادُهُ فِي قُرْبِهِ وَمُوَالَاتِهِ ، حَتَّى إِنَّ الْمَلَكَ لَيُنَافِحُ
عَنِ الْعَبْدِ ، وَيَرُدُّ عَنْهُ إِذَا سَفِهَ عَلَيْهِ السَّفِيهُ وَسَبَّهُ ، كَمَا
اخْتَصَمَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رَجُلَانِ ، فَجَعَلَ أَحَدُهُمَا يَسُبُّ الْآخَرَ وَهُوَ سَاكِتٌ ، فَتَكَلَّمَ
بِكَلِمَةٍ يَرُدُّ بِهَا عَلَى صَاحِبِهِ ، فَقَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا رَدَدْتُ عَلَيْهِ
بَعْضَ قَوْلِهِ قُمْتَ ، فَقَالَ
: كَانَ الْمَلَكُ يُنَافِحُ عَنْكَ ، فَلَمَّا رَدَدْتَ
عَلَيْهِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَلَمْ أَكُنْ لِأَجْلِسَ .
وَإِذَا دَعَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ
الْغَيْبِ أَمَّنَ الْمَلَكُ عَلَى دُعَائِهِ ، وَقَالَ : وَلَكَ بِمِثْلٍ .
وَإِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ أَمَّنَتِ
الْمَلَائِكَةُ عَلَى دُعَائِهِ
.
وَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ الْمُوَحِّدُ الْمُتَّبِعُ
لِسَبِيلِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
اسْتَغْفَرَ لَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَمَنْ حَوْلَهُ .
وَإِذَا نَامَ الْعَبْدُ عَلَى وُضُوءٍ بَاتَ فِي
شِعَارِ مَلَكٍ .
فَمَلَكُ الْمُؤْمِنِ يَرُدُّ عَنْهُ وَيُحَارِبُ
وَيُدَافِعُ عَنْهُ ، وَيُعَلِّمُهُ وَيُثَبِّتُهُ وَيُشَجِّعُهُ ، فَلَا يَلِيقُ
بِهِ أَنْ يُسِيءَ جِوَارَهُ وَيُبَالِغَ فِي أَذَاهُ وَطَرْدِهِ عَنْهُ وَإِبْعَادِهِ
، فَإِنَّهُ ضَيْفُهُ وَجَارُهُ
.
وَإِذَا كَانَ إِكْرَامُ الضَّيْفِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْجَارِ مِنْ لَوَازِمِ الْإِيمَانِ وَمُوجِبَاتِهِ ، فَمَا
الظَّنُّ بِإِكْرَامِ أَكْرَمِ الْأَضْيَافِ ، وَخَيْرِ الْجِيرَانِ وَأَبَرِّهِمْ
؟ وَإِذَا آذَى الْعَبْدُ الْمَلَكَ بِأَنْوَاعِ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ وَالْفَوَاحِشِ
دَعَا عَلَيْهِ رَبَّهُ ، وَقَالَ : لَا جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا ، كَمَا يَدْعُو
لَهُ إِذَا أَكْرَمَهُ بِالطَّاعَةِ وَالْإِحْسَانِ .
قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - : إِنَّ
مَعَكُمْ مَنْ لَا يُفَارِقُكُمْ ، فَاسْتَحْيُوا مِنْهُمْ وَأَكْرِمُوهُمْ .
وَلَا أَلْأَمَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِي مِنَ الْكَرِيمِ
الْعَظِيمِ الْقَدْرِ ، وَلَا يُجِلُّهُ وَلَا يُوَقِّرُهُ ، وَقَدْ نَبَّهَ
سُبْحَانَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ : وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ
كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [ سُورَةُ الِانْفِطَارِ : 10 - 12 ]
أَيِ اسْتَحْيُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَافِظِينَ الْكِرَامِ وَأَكْرِمُوهُمْ ،
وَأَجِلُّوهُمْ أَنْ يَرَوْا مِنْكُمْ مَا [ ص: 109 ] تَسْتَحْيُونَ أَنْ
يَرَاكُمْ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ مِثْلُكُمْ ، وَالْمَلَائِكَةُ تَتَأَذَّى مِمَّا
يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ ، وَإِذَا كَانَ ابْنُ آدَمَ يَتَأَذَّى مِمَّنْ
يَفْجُرُ وَيَعْصِي بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ ،
فَمَا الظَّنُّ بِأَذَى الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ ؟ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْمَعَاصِي مَجْلَبَةُ الْهَلَاكَوَمِنْ عُقُوبَاتِهَا
: أَنَّهَا تَسْتَجْلِبُ مَوَادَّ هَلَاكِ الْعَبْدِ مِنْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ ،
فَإِنَّ الذُّنُوبَ هِيَ أَمْرَاضٌ ، مَتَى اسْتَحْكَمَتْ قَتَلَتْ وَلَابُدَّ ،
وَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا إِلَّا بِغِذَاءٍ يَحْفَظُ
قُوَّتَهُ ، وَاسْتِفْرَاغٍ يَسْتَفْرِغُ الْمَوَادَّ الْفَاسِدَةَ وَالْأَخْلَاطَ
الرَّدِيَّةَ ، الَّتِي مَتَى غَلَبَتْ أَفْسَدَتْهُ ، وَحِمْيَةٍ يَمْتَنِعُ
بِهَا مِمَّا يُؤْذِيهِ وَيَخْشَى ضَرَرَهُ ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا تَتِمُّ حَيَاتُهُ
إِلَّا بِغِذَاءٍ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، تَحْفَظُ
قُوَّتَهُ ، وَاسْتِفْرَاغٍ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ ، تَسْتَفْرِغُ الْمَوَادَّ
الْفَاسِدَةَ وَالْأَخْلَاطَ الرَّدِيَّةَ مِنْهُ ، وَحِمْيَةٍ تُوجِبُ لَهُ
حِفْظَ الصِّحَّةِ وَتَجَنُّبَ مَا يُضَادُّهَا ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنِ
اسْتِعْمَالِ مَا يُضَادُّ الصِّحَّةَ
.
وَالتَّقْوَى : اسْمٌ مُتَنَاوِلٌ لِهَذِهِ الْأُمُورِ
الثَّلَاثَةِ ، فَمَا فَاتَ مِنْهَا فَاتَ مِنَ التَّقْوَى بِقَدَرِهِ .
وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَالذُّنُوبُ مُضَادَّةٌ
لِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ ، فَإِنَّهَا تَسْتَجْلِبُ الْمَوَادَّ
الْمُؤْذِيَةَ وَتُوجِبُ التَّخْطِيطَ الْمُضَادَّ لِلْحِمْيَةِ ، وَتَمْنَعُ الِاسْتِفْرَاغَ
بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ .
فَانْظُرْ إِلَى بَدَنٍ عَلِيلٍ قَدْ تَرَاكَمَتْ
عَلَيْهِ الْأَخْلَاطُ وَمَوَادُّ الْمَرَضِ ، وَهُوَ لَا يَسْتَفْرِغُهَا ، وَلَا
يَحْتَمِي لَهَا ، كَيْفَ تَكُونُ صِحَّتُهُ وَبَقَاؤُهُ ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ
الْقَائِلُ :
جِسْمُكَ بِالْحِمْيَةِ حَصَّنْتَهُ *** مَخَافَةً مِنْ
أَلَمٍ طَارِي
وَكَانَ أَوْلَى بِكَ أَنْ تَخْشَى *** مِنَ الْمَعَاصِي
خَشْيَةَ الْبَارِي
فَمَنْ حَفِظَ الْقُوَّةَ بِامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ ،
وَاسْتَعْمَلَ الْحِمْيَةَ بِاجْتِنَابِ النَّوَاهِي ، وَاسْتَفْرَغَ التَّخْطِيطَ
بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ ، لَمْ يَدَعْ لِلْخَيْرِ مَطْلَبًا ، وَلَا مِنَ
الشَّرِّ مَهْرَبًا ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى
الْمَعَاصِيفَإِنْ لَمْ تَرْدَعْكَ هَذِهِ الْعُقُوبَاتُ ، وَلَمْ تَجِدْ لَهَا
تَأْثِيرًا فِي قَلْبِكَ ، فَأَحْضِرْهُ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي
شَرَعَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى الْجَرَائِمِ ، كَمَا قَطَعَ الْيَدَ فِي
سَرِقَةِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ ، وَقَطَعَ الْيَدَ وَالرِّجْلَ فِي قَطْعِ
الطَّرِيقِ عَلَى مَعْصُومِ الْمَالِ وَالنَّفْسِ ، وَشَقَّ الْجِلْدَ بِالسَّوْطِ
عَلَى كَلِمَةٍ قَذَفَ بِهَا [ ص: 110 ] الْمُحْصَنُ ، أَوْ قَطْرَةِ خَمْرٍ
يُدْخِلُهَا جَوْفَهُ ، وَقَتَلَ بِالْحِجَارَةِ أَشْنَعَ قِتْلَةٍ فِي إِيلَاجِ
الْحَشَفَةِ فِي فَرْجٍ حَرَامٍ ، وَخَفَّفَ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ عَمَّنْ لَمْ
تَتِمَّ عَلَيْهِ نِعْمَةُ الْإِحْصَانِ بِمِائَةِ جَلْدَةٍ ، وَيُنْفَى سَنَةً
عَنْ وَطَنِهِ وَبَلَدِهِ إِلَى بَلَدِ الْغُرْبَةِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَ رَأْسِ
الْعَبْدِ وَبَدَنِهِ إِذَا وَقَعَ عَلَى ذَاتِ رَحِمٍ مِنْهُ ، أَوْ تَرَكَ
الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ ، أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ ، وَأَمَرَ
بِقَتْلِ مَنْ وَطِئَ ذَكَرًا مِثْلَهُ وَقَتْلِ الْمَفْعُولَ بِهِ ، وَأَمَرَ
بِقَتْلِ مَنْ أَتَى بَهِيمَةً وَقَتْلِ الْبَهِيمَةَ مَعَهُ ، وَعَزَمَ عَلَى
تَحْرِيقِ بُيُوتِ الْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْجَمَاعَةِ ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوبَاتِ الَّتِي رَتَّبَهَا اللَّهُ عَلَى الْجَرَائِمِ ، وَجَعَلَهَا
بِحِكْمَتِهِ عَلَى حَسَبِ الدَّوَاعِي إِلَى تِلْكَ الْجَرَائِمِ ، وَحَسَبِ
الْوَازِعِ عَنْهَا .
فَمَا كَانَ الْوَازِعُ عَنْهُ طَبِيعِيًّا وَمَا لَيْسَ
فِي الطِّبَاعِ دَاعٍ إِلَيْهِ اكْتُفِيَ بِالتَّحْرِيمِ مَعَ التَّعْزِيرِ ،
وَلَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ حَدًّا ، كَأَكْلِ الرَّجِيعِ ، وَشُرْبِ الدَّمِ ،
وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ .
وَمَا كَانَ فِي الطِّبَاعِ دَاعٍ إِلَيْهِ رَتَّبَ
عَلَيْهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِقَدْرِ مَفْسَدَتِهِ ، وَبِقَدْرِ دَاعِي الطَّبْعِ
إِلَيْهِ .
وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ دَاعِي الطِّبَاعِ إِلَى
الزِّنَا مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي كَانَتْ عُقُوبَتُهُ الْعُظْمَى مِنْ أَشْنَعِ
الْقِتْلَاتِ وَأَعْظَمِهَا ، وَعُقُوبَتُهُ السَّهْلَةُ أَعْلَى أَنْوَاعِ
الْجَلْدِ مَعَ زِيَادَةِ التَّغْرِيبِ
.
وَلَمَّا كَانَتْ جَرِيمَةُ اللِّوَاطِ فِيهَا الْأَمْرَانِ
، كَانَ حَدَّهُ الْقَتْلُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَلَمَّا كَانَ دَاعِي السَّرِقَةِ
قَوِيًّا وَمَفْسَدَتُهَا كَذَلِكَ ، قَطَعَ فِيهَا الْيَدَ .
وَتَأَمَّلْ حِكْمَتَهُ فِي إِفْسَادِ الْعُضْوِ الَّذِي
بَاشَرَ بِهِ الْجِنَايَةَ ، كَمَا أَفْسَدَ عَلَى قَاطِعِ الطَّرِيقِ يَدَهُ
وَرِجْلَهُ اللَّتَيْنِ هُمَا آلَةُ قَطْعِهِ ، وَلَمْ يُفْسِدْ عَلَى الْقَاذِفِ
لِسَانَهُ الَّذِي جَنَى بِهِ ، إِذْ مَفْسَدَتُهُ تَزِيدُ عَلَى مَفْسَدَةِ الْجِنَايَةِ
وَلَا يَبْلُغُهَا ، فَاكْتَفَى مِنْ ذَلِكَ بِإِيلَامِ جَمِيعِ بَدَنِهِ
بِالْجَلْدِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَفْسَدَ عَلَى الزَّانِي
فَرْجَهُ الَّذِي بَاشَرَ بِهِ الْمَعْصِيَةَ .
قِيلَ : لِوُجُوهٍ :
أَحَدُهَا :
أَنَّ مَفْسَدَةَ ذَلِكَ تَزِيدُ عَلَى مَفْسَدَةِ
الْجِنَايَةِ ، إِذْ فِيهِ قَطْعُ النَّسْلِ وَتَعْرِيضُهُ لِلْهَلَاكِ .
الثَّانِي : أَنَّ الْفَرْجَ عُضْوٌ مَسْتُورٌ ، لَا
يَحْصُلُ بِقَطْعِهِ مَقْصُودُ الْحَدِّ مِنَ الرَّدْعِ وَالزَّجْرِ لِأَمْثَالِهِ
مِنَ الْجُنَاةِ ، بِخِلَافِ قَطْعِ الْيَدِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ إِذَا قَطَعَ يَدَهُ أَبْقَى لَهُ
يَدًا أُخْرَى تُعَوِّضُ عَنْهَا ، بِخِلَافِ الْفَرْجِ .
الرَّابِعُ :
أَنَّ لَذَّةَ الزِّنَا عَمَّتْ جَمِيعَ الْبَدَنِ ،
فَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ تَعُمَّ الْعُقُوبَةُ جَمِيعَ الْبَدَنِ ، وَذَلِكَ أَوْلَى
مِنْ تَخْصِيصِهَا بِبُضْعَةٍ مِنْهُ
.
[ ص: 111 ] فَعُقُوبَاتُ الشَّارِعِ جَاءَتْ عَلَى
أَتَمِّ الْوُجُوهِ وَأَوْفَقِهَا لِلْعَقْلِ ، وَأَقْوَمِهَا بِالْمَصْلَحَةِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الذُّنُوبَ إِنَّمَا تَتَرَتَّبُ
عَلَيْهَا الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ أَوِ الْقَدَرِيَّةُ أَوْ يَجْمَعُهَا
اللَّهُ لِلْعَبْدِ ، وَقَدْ يَرْفَعُهَا عَمَّنْ تَابَ وَأَحْسَنَ .
السابق
|
فَصْلٌ:
عُقُوبَاتُ الذُّنُوبِ شَرْعِيَّةٌ
وَقَدَرِيَّةٌوَعُقُوبَاتُ الذُّنُوبِ نَوْعَانِ : شَرْعِيَّةٌ ، وَقَدَرِيَّةٌ ،
فَإِذَا أُقِيمَتِ الشَّرْعِيَّةٌ رُفِعَتِ الْعُقُوبَةُ الْقَدَرِيَّةُ
وَخَفَّفَتْهَا ، وَلَا يَكَادُ الرَّبُّ تَعَالَى يَجْمَعُ عَلَى الْعَبْدِ
بَيْنَ الْعُقُوبَتَيْنِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَفِ أَحَدُهُمَا بِرَفْعِ مُوجَبِ الذَّنْبِ
، وَلَمْ يَكْفِ فِي زَوَالِ دَائِهِ ، وَإِذَا عُطِّلَتِ الْعُقُوبَاتُ
الشَّرْعِيَّةُ اسْتَحَالَتْ قَدَرِيَّةً ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَشَدَّ مِنَ
الشَّرْعِيَّةِ ، وَرُبَّمَا كَانَتْ دُونَهَا ، وَلَكِنَّهَا تَعُمُّ ،
وَالشَّرْعِيَّةُ تَخُصُّ ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يُعَاقِبُ
شَرْعًا إِلَّا مَنْ بَاشَرَ الْجِنَايَةَ أَوْ تَسَبَّبَ إِلَيْهَا .
وَأَمَّا الْعُقُوبَةُ الْقَدَرِيَّةُ فَإِنَّهَا تَقَعُ
عَامَّةً وَخَاصَّةً ، فَإِنَّ الْمَعْصِيَةَ إِذَا خَفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إِلَّا
صَاحِبَهَا ، وَإِذَا أُعْلِنَتْ ضَرَّتِ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ ، وَإِذَا
رَأَى النَّاسُ الْمُنْكَرَ فَتَرَكُوا إِنْكَارَهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ
اللَّهُ بِعِقَابِهِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ الشَّرْعِيَّةَ شَرَعَهَا
اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ مَفْسَدَةِ الذَّنْبِ وَتَقَاضِي الطَّبْعِ
لَهَا ، وَجَعَلَهَا سُبْحَانَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ : الْقَتْلَ وَالْقَطْعَ وَالْجَلْدَ ،
وَجَعَلَ الْقَتْلَ بِإِزَاءِ الْكُفْرِ وَمَا يَلِيهِ وَيَقْرُبُ مِنْهُ ، وَهُوَ
الزِّنَا وَاللِّوَاطُ ، فَإِنَّ هَذَا يُفْسِدُ الْأَدْيَانَ ، وَهَذَا يُفْسِدُ
الْأَنْسَابَ وَنَوْعَ الْإِنْسَانِ
.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : لَا أَعْلَمُ بَعْدَ
الْقَتْلِ ذَنْبًا أَعْظَمَ مِنَ الزِّنَا ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ :
أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ، قَالَ : قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟
قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ، قَالَ : قُلْتُ
: ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ
تَصْدِيقَهَا وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ [ سُورَةُ
الْفُرْقَانِ 68 ] .
وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ذَكَرَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ أَعْلَاهُ لِيُطَابِقَ جَوَابُهُ سُؤَالَ السَّائِلِ ،
فَإِنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ أَعْظَمِ الذَّنْبِ ، فَأَجَابَهُ بِمَا تَضَمَّنَ ذِكْرَ
أَعْظَمِ أَنْوَاعِهَا ، وَمَا هُوَ أَعْظَمُ كُلِّ نَوْعٍ .
فَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الشِّرْكِ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدُ
لِلَّهِ نِدًّا .
[ ص: 112 ] وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ : أَنْ
يَقْتُلَ وَلَدَهُ خَشْيَةَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ .
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الزِّنَا : أَنْ يَزْنِيَ
بِحَلِيلَةِ جَارِهِ ، فَإِنَّ مَفْسَدَةَ الزِّنَا تَتَضَاعَفُ بِتَضَاعُفِ مَا
انْتَهَكَهُ مِنَ الْحَقِّ .
فَالزِّنَا بِالْمَرْأَةِ الَّتِي لَهَا زَوْجٌ أَعْظَمُ
إِثْمًا وَعُقُوبَةً مِنَ الَّتِي لَا زَوْجَ لَهَا ، إِذْ فِيهِ انْتِهَاكُ
حُرْمَةِ الزَّوْجِ ، وَإِفْسَادُفِرَاشِهِ وَتَعْلِيقُ نَسَبٍ عَلَيْهِ لَمْ
يَكُنْ مِنْهُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ أَذَاهُ ، فَهُوَ أَعْظَمُ
إِثْمًا وَجُرْمًا مِنَ الزِّنَا بِغَيْرِ ذَاتِ الْبَعْلِ .
فَالزِّنَا بِمِائَةِ امْرَأَةٍ لَا زَوْجَ لَهَا
أَيْسَرُ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الزِّنَا بِامْرَأَةِ الْجَارِ ، فَإِنْ كَانَ
زَوْجُهَا جَارًا لَهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ سُوءُ الْجِوَارِ ، وَأَذَى جَارِهِ بِأَعْلَى
أَنْوَاعِ الْأَذَى وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَوَائِقِ .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ
جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَلَا بَائِقَةَ أَعْظَمُ مِنَ الزِّنَا بِامْرَأَةِ الْجَارِ .
فَإِنْ كَانَ الْجَارُ أَخًا لَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْ
أَقَارِبِهِ انْضَمَّ إِلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ ، فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ
لَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْجَارُ غَائِبًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَالصَّلَاةِ وَطَلَبِ
الْعِلْمِ وَالْجِهَادِ تَضَاعَفَ لَهُ الْإِثْمُ ، حَتَّى إِنَّ الزَّانِيَ بِامْرَأَةِ
الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوقَفُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَيُقَالُ خُذْ
مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ .
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: فَمَا ظَنُّكُمْ ؟ أَيْ مَا ظَنُّكُمْ أَنَّهُ يَتْرُكُ لَهُ حَسَنَاتٍ ، قَدْ
حُكِّمَ فِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا مَا شَاءَ ؟ عَلَى شِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى حَسَنَةٍ
وَاحِدَةٍ ، حَيْثُ لَا يَتْرُكُ الْأَبُ لِابْنِهِ وَلَا الصَّدِيقُ لِصَدِيقِهِ
حَقًّا يَجِبُ عَلَيْهِ ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ رَحِمًا
مِنْهُ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ قَطِيعَةُ رَحِمِهَا ، فَإِنِ اتَّفَقَ أَنْ يَكُونَ
الزَّانِي مُحْصَنًا كَانَ الْإِثْمُأَعْظَمَ ، فَإِنْ كَانَ شَيْخًا كَانَ
أَعْظَمَ إِثْمًا ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ لَا يُكَلِّمُهُمُ
اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ،
فَإِنِ اقْتَرَنَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ أَوْ بَلَدٍ حَرَامٍ أَوْ
وَقْتٍ مُعَظَّمٍ عِنْدَ اللَّهِ ، كَأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَأَوْقَاتِ
الْإِجَابَةِ ، تَضَاعَفَ الْإِثْمُ . وَعَلَى هَذَا فَاعْتَبِرْ مَفَاسِدَ
الذُّنُوبِ وَتَضَاعُفَ دَرَجَاتِهَا فِي الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَةِ ، وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
فَصْلٌ: الْقَطْعُ لِإِفْسَادِ الْأَمْوَالِوَجَعَلَ
سُبْحَانَهُ الْقَطْعَ بِإِزَاءِ فَسَادِ الْأَمْوَالِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ
الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْأَمْوَالَ فِي الِاخْتِفَاءِ ،
وَيُنَقِّبُ الدُّورَ ، وَيَتَسَوَّرُ مِنْ غَيْرِ الْأَبْوَابِ ، فَهُوَ
كَالسِّنَّوْرِ وَالْحَيَّةِ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَيْكَ مِنْ حَيْثُ لَا تَعْلَمُ
، فَلَمْ تَرْتَفِعْ مَفْسَدَةُ سَرِقَتِهِ إِلَى الْقَتْلِ ، وَلَا تَنْدَفِعُ بِالْجَلْدِ
، فَأَحْسَنُ مَا [ ص: 113 ] دُفِعَتْ بِهِ مَفْسَدَتُهُ إِبَانَةُ الْعُضْوِ
الَّذِي يَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى الْجِنَايَةِ ، وَجُعِلَ الْجَلْدُ بِإِزَاءِ
إِفْسَادِ الْعُقُولِ وَتَمْزِيقِ الْأَعْرَاضِ بِالْقَذْفِ .
فَدَارَتْ عُقُوبَاتُهُ سُبْحَانَهُ الشَّرْعِيَّةُ
عَلَى هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ ، كَمَا دَارَتِ الْكَفَّارَاتُ عَلَى
ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ : الْعِتْقِ ، وَهُوَ أَعْلَاهَا ، وَالْإِطْعَامِ ،
وَالصِّيَامِ .
أَقْسَامُ الذُّنُوبِ
ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الذُّنُوبَ ثَلَاثَةَ
أَقْسَامٍ :
قِسْمًا فِيهِ الْحَدُّ ، فَهَذَا لَمْ يَشْرَعْ فِيهِ
كَفَّارَةً اكْتِفَاءً بِالْحَدِّ
.
وَقِسْمًا لَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ حَدًّا ، فَشَرَعَ
فِيهِ الْكَفَّارَةَ ، كَالْوَطْءِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ ، وَالْوَطْءِ فِي
الْإِحْرَامِ ، وَالظِّهَارِ ، وَقَتْلِ الْخَطَأِ ، وَالْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَقِسْمًا لَمْ يُرَتِّبْ عَلَيْهِ حَدًّا وَلَا كَفَّارَةً
، وَهُوَ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : مَا كَانَ الْوَازِعُ عَنْهُ طَبِيعِيًّا
، كَأَكْلِ الْعَذِرَةِ ، وَشُرْبِ الْبَوْلِ وَالدَّمِ .
وَالثَّانِي :
مَا كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ أَدْنَى مِنْ مَفْسَدَةِ مَا
رُتِّبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، كَالنَّظَرِ وَالْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ
وَالْمُحَادَثَةِ ، وَسَرِقَةِ فِلْسٍ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
الْكَفَّارَاتُ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ
وَشَرَعَ الْكَفَّارَاتِ فِي ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ :
أَحَدُهَا :
مَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ، ثُمَّ عَرَضَ تَحْرِيمُهُ
فَبَاشَرَهُ فِي الْحَالَةِ الَّتِي عَرَضَ فِيهَا التَّحْرِيمُ ، كَالْوَطْءِ فِي
الْإِحْرَامِ وَالصِّيَامِ ، وَطَرْدُهُ : الْوَطْءُ فِي الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ،
بِخِلَافِ الْوَطْءِ فِي الدُّبُرِ ، وَلِهَذَا كَانَ إِلْحَاقُ بَعْضِ
الْفُقَهَاءِ لَهُ بِالْوَطْءِ فِي الْحَيْضِ لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ
فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّلَوُّطِ ، وَشُرْبِ
الْمُسْكِرِ .
النَّوْعُ الثَّانِي : مَا عُقِدَ لِلَّهِ مِنْ نَذْرٍ
أَوْ بِاللَّهِ مِنْ يَمِينٍ ، أَوْ حَرَّمَهُ اللَّهُ ثُمَّ أَرَادَ حِلَّهُ ،
فَشَرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِلَّهُ بِالْكَفَّارَةِ وَسَمَّاهَا نِحْلَةً ،
وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْكَفَّارَةُ مَاحِيَةً لِهَتْكِ حُرْمَةِ الِاسْمِ
بِالْحِنْثِ ، كَمَا ظَنَّهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ، فَإِنَّ الْحِنْثَ قَدْ يَكُونُ
وَاجِبًا ، وَقَدْ يَكُونُ مُسْتَحَبًّا ، وَقَدْ يَكُونُ مُبَاحًا ، وَإِنَّمَا
الْكَفَّارَةُ حِلٌّ لِمَا عَقَدَهُ
.
النَّوْعُ الثَّالِثُ : مَا تَكُونُ فِيهِ جَابِرَةً لِمَا
فَاتَ ، كَكَفَّارَةِ قَتْلِ الْخَطَأِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إِثْمٌ ،
وَكَفَّارَةِ قَتْلِ الصَّيْدِخَطَأً ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْجَوَابِرِ ،
وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ بَابِ الزَّوَاجِرِ ، وَالنَّوْعُ الْوَسَطُ مِنْ
بَابِ التَّحِلَّةِ لِمَا مِنْهُ الْعَقْدُ .
[ ص: 114 ] لَا يَجْتَمِعُ الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ
لَا يَجْتَمِعُ الْحَدُّ وَالتَّعْزِيرُ فِي مَعْصِيَةٍ
، بَلْ إِنْ كَانَ فِيهَا حَدٌّ اكْتُفِيَ بِهِ وَإِلَّا اكْتُفِيَ بِالتَّعْزِيرِ
، وَلَا يَجْتَمِعُ الْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَعْصِيَةٍ ، بَلْ كُلُّ مَعْصِيَةٍفِيهَا
حَدٌّ فَلَا كَفَّارَةَ فِيهَا ، وَمَا فِيهِ كَفَّارَةٌ فَلَا حَدَّ فِيهِ ،
وَهَلْ يَجْتَمِعُ التَّعْزِيرُ وَالْكَفَّارَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ الَّتِي لَا
حَدَّ فِيهَا ؟
فِيهِ وَجْهَانِ : وَهَذَا كَالْوَطْءِ فِي الْإِحْرَامِ
وَالصِّيَامِ ، وَوَطْءِ الْحَائِضِ ، وَإِذَا أَوْجَبْنَا فِيهِ الْكَفَّارَةَ ،
فَقِيلَ : يَجِبُ فِيهِ التَّعْزِيرُ لِمَا انْتَهَكَ مِنَ الْحُرْمَةِ بِرُكُوبِ
الْجِنَايَةِ ، وَقِيلَ : لَا تَعْزِيرَ فِي ذَلِكَ ، اكْتِفَاءً بِالْكَفَّارَةِ لِأَنَّهَا
جَابِرَةٌ وَمَاحِيَةٌ .
فَصْلٌ: الْعُقُوبَاتُ الْقَدَرِيَّةُوَأَمَّا
الْعُقُوبَاتُ الْقَدَرِيَّةُ فَهِيَ نَوْعَانِ : نَوْعٌ عَلَى الْقُلُوبِ وَالنُّفُوسِ
، وَنَوْعٌ عَلَى الْأَبْدَانِ وَالْأَمْوَالِ .
وَالَّتِي عَلَى الْقُلُوبِ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا : آلَامٌ وُجُودِيَّةٌ يُضْرَبُ بِهَا
الْقَلْبُ .
وَالثَّانِي : قَطْعُ الْمَوَادِ الَّتِي بِهَا
حَيَاتُهُ وَصَلَاحُهُ عَنْهُ .
وَإِذَا قُطِعَتْ عَنْهُ حَصَلَ لَهُ أَضْدَادُهَا ،
وَعُقُوبَةُ الْقُلُوبِ أَشَدُّ الْعُقُوبَتَيْنِ ، وَهِيَ أَصْلُ عُقُوبَةِ
الْأَبْدَانِ .
وَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ تَقْوَى وَتَتَزَايَدُ ، حَتَّى
تَسْرِيَ مِنَ الْقَلْبِ إِلَى الْبَدَنِ ، كَمَا يَسْرِي أَلَمُ الْبَدَنِ إِلَى
الْقَلْبِ ، فَإِذَا فَارَقَتِالنَّفْسُ الْبَدَنَ صَارَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا
بِهَا فَظَهَرَتْ عُقُوبَةُ الْقَلْبِ حِينَئِذٍ ، وَصَارَتْ عَلَانِيَةً ظَاهِرَةً
، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ ، وَنِسْبَتُهُ إِلَى الْبَرْزَخِ
كَنِسْبَةِ عَذَابِ الْأَبْدَانِ إِلَى هَذِهِ الدَّارِ .
فَصْلٌ: الْعُقُوبَاتُ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى
الْأَبْدَانِوَالَّتِي عَلَى الْأَبْدَانِ أَيْضًا نَوْعَانِ :
نَوْعٌ فِي الدُّنْيَا .
وَنَوْعٌ فِي الْآخِرَةِ .
[ ص: 115 ] وَشِدَّتُهَا وَدَوَامُهَا بِحَسَبِ
مَفَاسِدِ مَا رُتِّبَتْ عَلَيْهِ فِي الشِّدَّةِ وَالْخِلْقَةِ ، فَلَيْسَ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَرٌّ أَصْلًا إِلَّا الذُّنُوبَ وَعُقُوبَاتِهَا ، فَالشَّرُّ
اسْمٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَأَصْلُهُ مِنْ شَرِّ النَّفْسِ وَسَيِّئَاتِ
الْأَعْمَالِ ، وَهُمَا الْأَصْلَانِ اللَّذَانِ كَانَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَعِيذُ مِنْهُمَا فِي خُطْبَتِهِ بِقَوْلِهِ :
وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا .
وَسَيِّئَاتُ الْأَعْمَالِ مِنْ شُرُورِ النَّفْسِ ،
فَعَادَ الشَّرُّ كُلُّهُ إِلَى شَرِّ النَّفْسِ ، فَإِنَّ سَيِّئَاتِ
الْأَعْمَالِ مِنْ فُرُوعِهِ وَثَمَرَاتِهِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنَا هَلْ مَعْنَاهُ : السَّيِّئُ مِنْ أَعْمَالِنَا ، فَيَكُونُ مِنْ
بَابِ إِضَافَةِ النَّوْعِ إِلَى جِنْسِهِ ، أَوْ تَكُونُ " مِنْ " بَيَانِيَّةً ؟
وَقِيلَ : مَعْنَاهُ : مِنْ عُقُوبَاتِهَا الَّتِي تَسُوءُ ، فَيَكُونُ
التَّقْدِيرُ : وَمِنْ عُقُوبَاتِ أَعْمَالِنَا الَّتِي تَسُوءُنَا ، وَيُرَجِّحُ
هَذَا الْقَوْلَ : أَنَّ الِاسْتِعَاذَةَ تَكُونُ قَدْ تَضَمَّنَتْ جَمِيعَ
الشَّرِّ ، فَإِنَّ شُرُورَ الْأَنْفُسِ تَسْتَلْزِمُ الْأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ ،
وَهِيَ تَسْتَلْزِمُ الْعُقُوبَاتِ السَّيِّئَةَ ، فَنَبَّهَ بِشُرُورِ
الْأَنْفُسِ عَلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِنْ قُبْحِ الْأَعْمَالِ ، وَاكْتَفَى بِذِكْرِهَا
مِنْهُ ، أَوْ هِيَ أَصْلُهُ ثُمَّ ذَكَرَ غَايَةَ الشَّرِّ وَمُنْتَهَاهُ ،
فَهُوَ السَّيِّئَاتُ الَّتِي تَسُوءُ الْعَبْدَ مِنْ عَمَلِهِ ، مِنَ الْعُقُوبَاتِ
وَالْآلَامِ ، فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةُ أَصْلَ الشَّرِّ وَفُرُوعَهُ
وَغَايَتَهُ وَمُقْتَضَاهُ .
وَمِنْ دُعَاءِ الْمَلَائِكَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ
قَوْلُهُمْ : وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ
رَحِمْتَهُ [ سُورَةُ غَافِرٍ :
9 ] .
فَهَذَا يَتَضَمَّنُ طَلَبَ وِقَايَتِهِمْ مِنْ
سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ وَعُقُوبَاتِهَا الَّتِي تَسُوءُ صَاحِبَهَا ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ
مَتَى وَقَاهُمْ عَمَلَالسَّيِّئِ وَقَاهُمْ جَزَاءَ السَّيِّئِ ، وَإِنْ كَانَ
قَوْلُهُ : وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أَظْهَرَ فِي
عُقُوبَاتِ الْأَعْمَالِ الْمَطْلُوبِ وِقَايَتُهَا يَوْمَئِذٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ سَأَلُوهُ سُبْحَانَهُ أَنْ
يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، وَهَذَا هُوَ وِقَايَةُ الْعُقُوبَاتِ
السَّيِّئَةِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّيِّئَةِ الَّتِي سَأَلُوا
وِقَايَتَهَا ، الْأَعْمَالُ السَّيِّئَةُ ، يَكُونُ الَّذِي سَأَلَهُ
الْمَلَائِكَةُ نَظِيرَ مَا اسْتَعَاذَ مِنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَلَا يَرِدُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ : " يَوْمَئِذٍ
" فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ وِقَايَةُ شُرُورِ سَيِّئَاتِ الْأَعْمَالِ ذَلِكَ
الْيَوْمَ ، وَهِيَ سَيِّئَاتٌ فِي أَنْفُسِهَا .
قِيلَ : وِقَايَةُ السَّيِّئَاتِ نَوْعَانِ .
أَحَدُهُمَا : وِقَايَةُ فِعْلِهَا بِالتَّوْفِيقِ فَلَا
تَصْدُرُ مِنْهُ .
وَالثَّانِي :
وِقَايَةُ جَزَائِهَا بِالْمَغْفِرَةِ ، فَلَا يُعَاقَبُ
عَلَيْهَا ، فَتَضَمَّنَتِ الْآيَةُ سُؤَالَ الْأَمْرَيْنِ ، وَالظَّرْفُ
تَقْيِيدٌ لِلْجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ لَا لِلْجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ .
[ ص:
116 ] وَتَأَمَّلْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْخَبَرُ عَنِ
الْمَلَائِكَةِ مِنْ مَدْحِهِمْ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ ، وَقَدَّمُوا
بَيْنَ يَدَيِ اسْتِغْفَارِهِمْ تَوَسُّلَهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِسَعَةِ عِلْمِهِ
وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ ، فَسَعَةُ عِلْمِهِ يَتَضَمَّنُ عِلْمَهُ بِذُنُوبِهِمْ
وَأَسْبَابِهَا وَضَعْفِهِمْ عَنِ الْعِصْمَةِ ، وَاسْتِيلَاءِ عَدُوِّهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ وَهَوَاهُمْ وَطِبَاعِهِمْ وَمَا زُيِّنَ لَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا
وَزِينَتِهَا ، وَعِلْمَهُ بِهِمْ إِذْ أَنْشَأَهُمْ مِنَ الْأَرْضِ ، وَإِذْ هُمْ
أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِهِمْ ، وَعِلْمَهُ السَّابِقَ بِأَنَّهُمْ لَا
بُدَّ أَنْ يَعْصُوهُ ، وَأَنَّهُ يُحِبُّ الْعَفْوَ وَالْمَغْفِرَةَ ، وَغَيْرَ ذَلِكَ
مِنْ سَعَةِ عِلْمِهِ الَّذِي لَا يُحِيطُ بِهِ أَحَدٌسِوَاهُ .
وَسَعَةُ رَحْمَتِهِ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ لَا يَهْلَكُ
عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَهْلِ تَوْحِيدِهِ وَمَحَبَّتِهِ ،
فَإِنَّهُ وَاسِعُ الرَّحْمَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ دَائِرَةِ رَحِمَتِهِ إِلَّا الْأَشْقِيَاءَ
، وَلَا أَشْقَى مِمَّنْ لَمْ تَسَعْهُ رَحْمَتُهُ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ
، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لِلتَّائِبِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا سَبِيلَهُ ،
وَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُوَصِّلُ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ
وَطَاعَتُهُ ، فَتَابُوا مِمَّا يَكْرَهُ ، وَاتَّبَعُوا السَّبِيلَ الَّتِي
يُحِبُّهَا ، ثُمَّ سَأَلُوهُ أَنْ يَقِيَهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ، وَأَنْ
يُدْخِلَهُمْ وَالْمُؤْمِنِينَ مِنْأُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَهُمْ بِهَا ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ ، وَإِنْ كَانَ
لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ، فَإِنَّهُ وَعَدَهُمْ بِهَا بِأَسْبَابٍ ، وَمِنْ جُمْلَتِهَا
: دُعَاءُ مَلَائِكَتِهِ لَهُمْ أَنْ يُدْخِلَهُمْ إِيَّاهَا بِرَحْمَتِهِ الَّتِي
مِنْهَا أَنْ وَفَّقَهُمْ لِأَعْمَالِهِمْ وَأَقَامَ مَلَائِكَتَهُ يَدْعُونَ
لَهُمْ بِهَا .
ثُمَّ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ مَلَائِكَتِهِ
أَنَّهُمْ قَالُوا عَقِيبَ هَذِهِ الدَّعْوَةِ : إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
[ سُورَةُ غَافِرٍ : 8 ] .
أَيْ مَصْدَرُ ذَلِكَ وَسَبَبُهُ وَغَايَتُهُ صَادِرٌ
عَنْ كَمَالِ قُدْرَتِكَ وَكَمَالِ عِلْمِكَ ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ كَمَالُ
الْقُدْرَةِ ، وَالْحِكْمَةَ كَمَالُ الْعِلْمِ ، وَبِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ
يَقْضِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا شَاءَ ، وَيَأْمُرُ وَيَنْهَى وَيُثِيبُ وَيُعَاقِبُ
، فَهَاتَانِ الصِّفَتَانِ مَصْدَرُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ عُقُوبَاتِ السَّيِّئَاتِ
تَتَنَوَّعُ إِلَى عُقُوبَاتٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَعُقُوبَاتٍ قَدَرِيَّةٍ ، وَهِيَ
إِمَّا فِي الْقَلْبِ ، وَإِمَّا فِي الْبَدَنِ ، وَإِمَّا فِيهِمَا ،
وَعُقُوبَاتٍ فِي دَارِ الْبَرْزَخِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَعُقُوبَاتٍ يَوْمَ
عَوْدِ الْأَجْسَادِ ، فَالذَّنْبُ لَا يَخْلُو مِنْ عُقُوبَةٍ أَلْبَتَّةَ ، وَلَكِنْ
لِجَهْلِ الْعَبْدِ لَا يَشْعُرُ بِمَا فِيهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ ، لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ السَّكْرَانِ وَالْمُخَدَّرِ وَالنَّائِمِ الَّذِي لَا يَشْعُرُ بِالْأَلَمِ
، فَتَرَتُّبُ الْعُقُوبَاتِ عَلَى الذُّنُوبِ كَتَرَتُّبِ الْإِحْرَاقِ عَلَى
النَّارِ ، وَالْكَسْرِ عَلَى الِانْكِسَارِ ، وَالْغَرَقِ عَلَى الْمَاءِ ،
وَفَسَادِ الْبَدَنِ عَلَى السُّمُومِ ، وَالْأَمْرَاضِ عَلَى الْأَسْبَابِ
الْجَالِبَةِ لَهَا ، وَقَدْ تُقَارِنُ الْمَضَرَّةُ الذَّنْبَ وَقَدْ تَتَأَخَّرُ
عَنْهُ ، إِمَّا يَسِيرًا وَإِمَّا مُدَّةً ، كَمَا يَتَأَخَّرُ الْمَرَضُ عَنْ
سَبَبِهِ أَنْ يُقَارِنَهُ ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الْغَلَطُ لِلْعَبْدِ فِي
هَذَا الْمَقَامِ وَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَلَا يَرَى أَثَرَهُ عَقِبَهُ ، وَلَا يَدْرِي
أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُ عَلَى التَّدْرِيجِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، كَمَا تَعْمَلُ
السُّمُومُ وَالْأَشْيَاءُ [ ص: 117 ] الضَّارَّةُ حَذْوَ الْقَذَّةِ بِالْقَذَّةِ
، فَإِنْ تَدَارَكَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ بِالْأَدْوِيَةِ وَالِاسْتِفْرَاغِ
وَالْحِمْيَةِ ، وَإِلَّا فَهُوَ صَائِرٌ إِلَى الْهَلَاكِ ، هَذَا إِذَا كَانَ
ذَنْبًا وَاحِدًا لَمْ يَتَدَارَكْهُ بِمَا يُزِيلُ أَثَرَهُ ، فَكَيْفَ
بِالذَّنْبِ عَلَى الذَّنْبِ كُلَّ يَوْمٍ وَكُلَّ سَاعَةٍ ؟ وَاللَّهُ
الْمُسْتَعَانُ .
ج2.===========
ج2.كتاب : الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ
الدَّوَاءِ الشَّاِفي
المؤلف : أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
فَصْلٌ:
بَعْضُ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِيفَاسْتَحْضِرْ بَعْضَ
الْعُقُوبَاتِ الَّتِي رَتَّبَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى
الذُّنُوبِ وَجَوَّزَ وَصُولَ بَعْضِهَا إِلَيْكَ وَاجْعَلْ ذَلِكَ دَاعِيًا
لِلنَّفْسِ إِلَى هِجْرَانِهَا ، وَأَنَا أَسُوقُ إِلَيْكَ مِنْهَا طَرَفًا
يَكْفِي الْعَاقِلَ مَعَ التَّصْدِيقِ بِبَعْضِهِ .
الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ
فَمِنْهَا :
الْخَتْمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَالْأَسْمَاعِ ،
وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْأَبْصَارِ ، وَالْأَقْفَالُ عَلَى الْقُلُوبِ ، وَجَعْلُ
الْأَكِنَّةِ عَلَيْهَا وَالرَّيْنُ عَلَيْهَا وَالطَّبْعُ وَتَقْلِيبُ
الْأَفْئِدَةِ وَالْأَبْصَارِ ، وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ، وَإِغْفَالُ
الْقَلْبِ عَنْ ذِكْرِ الرَّبِّ ، وَإِنْسَاءُ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ ، وَتَرْكُ
إِرَادَةِ اللَّهِ تَطْهِيرَ الْقَلْبِ ، وَجَعْلُ الصَّدْرِ ضَيِّقًا حَرَجًا
كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ، وَصَرْفُ الْقُلُوبِ عَنِ الْحَقِّ ،
وَزِيَادَتُهَا مَرَضًا عَلَى مَرَضِهَا ، وَإِرْكَاسُهَا وَإِنْكَاسُهَا بِحَيْثُ
تَبْقَى مَنْكُوسَةً ، كَمَا ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ
الْيَمَانِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ : الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ :
فَقَلْبٌ أَجْرَدُ فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ : فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ ، وَقَلْبٌ
أَغْلَفُ : فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ ، وَقَلْبٌ مَنْكُوسٌ : فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ ،
وَقَلْبٌ تَمُدُّهُ مَادَّتَانِ : مَادَّةُ إِيمَانٍ وَمَادَّةُ نِفَاقٍ ، وَهُوَ
لِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْهُمَا
.
وَمِنْهَا : التَّثْبِيطُ عَنِ الطَّاعَةِ ،
وَالْإِقْعَادُ عَنْهَا .
وَمِنْهَا :
جَعْلُ الْقَلْبِ أَصَمَّ لَا يَسْمَعُ الْحَقَّ ،
أَبْكَمَ لَا يَنْطِقُ بِهِ ، أَعْمَى لَا يَرَاهُ ، فَتَصِيرُ النِّسْبَةُ بَيْنَ
الْقَلْبِ وَبَيْنَ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَنْفَعُهُ غَيْرُهُ ، كَالنِّسْبَةِ
بَيْنَ أُذُنِ الْأَصَمِّ وَالْأَصْوَاتِ ، وَعَيْنِ الْأَعْمَى وَالْأَلْوَانِ ،
وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ وَالْكَلَامِ ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنَّ الْعَمَى
وَالصَّمَمَ وَالْبَكَمَ لِلْقَلْبِ بِالذَّاتِ : الْحَقِيقَةُ ، وَلِلْجَوَارِحِ
بِالْعَرَضِ وَالتَّبَعِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 46 ] .
[ ص: 118 ] وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الْعَمَى
الْحِسِّيِّ عَنِ الْبَصَرِ ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : لَيْسَ عَلَى
الْأَعْمَى حَرَجٌ [ سُورَةُ النُّورِ : 61 ] .
وَقَالَ : عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى [
سُورَةُ عَبَسَ : 1 - 2 ] .
وَإِنَّمَا الْمُرَادُ الْعَمَى التَّامُّ فِي
الْحَقِيقَةِ : عَمَى الْقَلْبِ ، حَتَّى إِنَّ عَمَى الْبَصَرِ بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ كَلَا عَمًى ، حَتَّى إِنَّهُ يَصِحُّ نَفْيُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى
كَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرْعَةِ ، وَلَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ
نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالطَّوَّافِ الَّذِي تَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ
، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَسْأَلُ النَّاسَ ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ
فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِنْ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي
جَعْلَ الْقَلْبِ أَعْمَى أَصَمَّ أَبْكَمَ .
خَسْفُ الْقَلْبِ
وَمِنْهَا :
الْخَسْفُ بِالْقَلْبِ كَمَا يُخْسَفُ بِالْمَكَانِ
وَمَا فِيهِ ، فَيُخْسَفُ بِهِ إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ وَصَاحِبُهُ لَا
يَشْعُرُ ، وَعَلَامَةُ الْخَسْفِ بِهِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ جَوَّالًا حَوْلَ السُّفْلِيَّاتِ
وَالْقَاذُورَاتِ وَالرَّذَائِلِ ، كَمَا أَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي رَفَعَهُ
اللَّهُ وَقَرَّبَهُ إِلَيْهِ لَا يَزَالُ جَوَّالًا حَوْلَ الْعَرْشِ .
وَمِنْهَا : الْبُعْدُ عَنِ الْبِرِّ وَالْخَيْرِ
وَمَعَالِي الْأُمُورِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَخْلَاقِ .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ
جَوَّالَةٌ ، فَمِنْهَا مَا يَجُولُ حَوْلَ الْعَرْشِ ، وَمِنْهَا مَا يَجُولُ
حَوْلَ الْحُشِّ .
مَسْخُ الْقَلْبِ
وَمِنْهَا :
مَسْخُ الْقَلْبِ ، فَيُمْسَخُ كَمَا تُمْسَخُ
الصُّورَةُ ، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ عَلَى قَلْبِ الْحَيَوَانِ الَّذِي شَابَهَهُ
فِي أَخْلَاقِهِ وَأَعْمَالِهِ وَطَبِيعَتِهِ ، فَمِنَ الْقُلُوبِ مَا يُمْسَخُ
عَلَى قَلْبِ خِنْزِيرٍ لِشِدَّةِ شَبَهِ صَاحِبِهِ بِهِ ، وَمِنْهَا مَا يُمْسَخُ
عَلَى قَلْبِ كَلْبٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ حَيَّةٍ أَوْ عَقْرَبٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ،
وَهَذَا تَأْوِيلُ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا مِنْ
دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ
أَمْثَالُكُمْ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ :
38 ] .
قَالَ : مِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَلَى أَخْلَاقِ
السِّبَاعِ الْعَادِيَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ عَلَى أَخْلَاقِ [ ص: 119 ] الْكِلَابِ
وَأَخْلَاقِ الْخَنَازِيرِ وَأَخْلَاقِ الْحَمِيرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَطَوَّسُ
فِي ثِيَابِهِ كَمَا يَتَطَوَّسُ الطَّاوُوسُ فِي رِيشِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَكُونُ بَلِيدًا كَالْحِمَارِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ
كَالدِّيكِ ، وَمِنْهُمْ مِنْ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ كَالْحَمَامِ ، وَمِنْهُمُ
الْحَقُودُ كَالْجَمَلِ ، وَمِنْهُمُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ كَالْغَنَمِ ،
وَمِنْهُمْ أَشْبَاهُ الثَّعَالِبِ الَّتِي تَرُوغُ كَرَوَغَانِهَا ، وَقَدْ
شَبَّهَ اللَّهُ تَعَالَى أَهْلَ الْجَحِيمِ وَالْغَيِّ بِالْحُمُرِ تَارَةً ، وَبِالْكَلْبِ
تَارَةً ، وَبِالْأَنْعَامِ تَارَةً ، وَتَقْوَى هَذِهِ الْمُشَابَهَةُ بَاطِنًا
حَتَّى تَظْهَرَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ ظُهُورًا خَفِيًّا ، يَرَاهُ
الْمُتَفَرِّسُونَ ، وَتَظْهَرُ فِي الْأَعْمَالِ ظُهُورًا يَرَاهُ كُلُّ أَحَدٍ ،
وَلَا يَزَالُ يَقْوَى حَتَّى تُسْتَشْنَعَ الصُّورَةُ ، فَتَنْقَلِبُ لَهُ
الصُّورَةُ بِإِذْنِ اللَّهِ ، وَهُوَ الْمَسْخُ التَّامُّ ، فَيَقْلِبُ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الصُّورَةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى صُورَةِ ذَلِكَ
الْحَيَوَانِ ، كَمَا فَعَلَ بِالْيَهُودِ وَأَشْبَاهِهِمْ ، وَيَفْعَلُ بِقَوْمٍ
مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَمْسَخُهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ .
فَسُبْحَانَ اللَّهِ ! كَمْ مِنْ قَلْبٍ مَنْكُوسٍ
وَصَاحِبُهُ لَا يَشْعُرُ ؟ وَقَلْبٍ مَمْسُوخٍ وَقَلْبٍ مَخْسُوفٍ بِهِ ؟ وَكَمْ
مِنْ مَفْتُونٍ بِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَمَغْرُورٍ بِسِتْرِ اللَّهِ
عَلَيْهِ ؟ وَمُسْتَدْرَجٍ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِ ؟ وَكُلُّ هَذِهِ عُقُوبَاتٌ
وَإِهَانَاتٌ وَيَظُنُّ الْجَاهِلُ أَنَّهَا كَرَامَةٌ .
وَمِنْهَا : مَكْرُ اللَّهِ بِالْمَاكِرِ ،
وَمُخَادَعَتُهُ لِلْمُخَادِعِ ، وَاسْتِهْزَاؤُهُ بِالْمُسْتَهْزِئِ ،
وَإِزَاغَتُهُ لِلْقَلْبِ الزَّائِغِ عَنِ الْحَقِّ.
نَكْسُ الْقَلْبِ
وَمِنْهَا :
نَكْسُ الْقَلْبِ حَتَّى يَرَى الْبَاطِلَ حَقًّا
وَالْحَقَّ بَاطِلًا ، وَالْمَعْرُوفَ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفًا ،
وَيُفْسِدُ وَيَرَى أَنَّهُيُصْلِحُ ، وَيَصُدُّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ
يَرَى أَنَّهُ يَدْعُو إِلَيْهَا ، وَيَشْتَرِي الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ، وَهُوَ
يَرَى أَنَّهُ عَلَى الْهُدَى ، وَيَتَّبِعُ هَوَاهُ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مُطِيعٌ
لِمَوْلَاهُ ؟ وَكُلُّ هَذَا مِنْ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ الْجَارِيَةِ عَلَى
الْقَلْبِ .
حَجْبُ الْقَلْبِ عَنِ الرَّبِّ
وَمِنْهَا :
حِجَابُ الْقَلْبِ عَنِ الرَّبِّ فِي الدُّنْيَا ،
وَالْحِجَابُ الْأَكْبَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : كَلَّا
بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [ سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ : 14 - 15 ] .
فَمَنَعَتْهُمُ الذُّنُوبُ أَنْ يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ قُلُوبِهِمْ ، فَيَصِلُوا إِلَيْهَا فَيَرَوْا مَا
يُصْلِحُهَا وَيُزَكِّيهَا ، وَمَا يُفْسِدُهَا وَيُشْقِيهَا ، وَأَنْ يَقْطَعُوا الْمَسَافَةَ
بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ ، فَتَصِلَ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ فَتَفُوزَ
بِقُرْبِهِ وَكَرَامَتِهِ ، وَتَقَرَّ بِهِ عَيْنًا وَتَطِيبَ بِهِ نَفْسًا ، بَلْ
كَانَتِ الذُّنُوبُ حِجَابًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبِّهِمْ وَخَالِقِهِمْ .
[ ص: 120 ] وَمِنْهَا : الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ فِي
الدُّنْيَا وَفِي الْبَرْزَخِ ، وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ ، قَالَ تَعَالَى :
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى [ سُورَةُ طه : 124
] .
وَفُسِّرَتِ الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ بِعَذَابِ الْقَبْرِ
، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنَ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ ، وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ مَا
هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ نَكِرَةً فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ ،
فَإِنَّ عُمُومَهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ رَتَّبَ
الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِهِ ، فَالْمُعْرِضُ عَنْهُ
لَهُ مِنْ ضَنْكِ الْمَعِيشَةِ بِحَسَبِ إِعْرَاضِهِ ، وَإِنْ تَنَعَّمَ فِي
الدُّنْيَا بِأَصْنَافِ النِّعَمِ ، فَفِي قَلْبِهِ مِنَ الْوَحْشَةِ وَالذُّلِّ
وَالْحَسَرَاتِ الَّتِي تَقْطَعُ الْقُلُوبَ ، وَالْأَمَانِي الْبَاطِلَةِ
وَالْعَذَابِ الْحَاضِرِ مَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا يُوَارِيهِ عَنْهُ سَكَرَاتُ الشَّهَوَاتِ
وَالْعِشْقِ وَحُبِّ الدُّنْيَا وَالرِّيَاسَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْضَمَّ إِلَى
ذَلِكَ سُكْرُ الْخَمْرِ ، فَسُكْرُ هَذِهِ الْأُمُورِأَعْظَمُ مِنْ سُكْرِ
الْخَمْرِ ، فَإِنَّهُ يَفِيقُ صَاحِبُهُ وَيَصْحُو ، وَسُكْرُ الْهَوَى وَحُبِّ
الدُّنْيَا لَا يَصْحُو صَاحِبُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ صَاحِبُهُفِي عَسْكَرِ
الْأَمْوَاتِ ، فَالْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ لَازِمَةٌ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِ
اللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- فِي دُنْيَاهُ وَفِي الْبَرْزَخِ وَيَوْمَ مَعَادِهِ ، وَلَا تَقَرُّ الْعَيْنُ ،
وَلَا يَهْدَأُ الْقَلْبُ ، وَلَا تَطْمَئِنُّ النَّفْسُ إِلَّا بِإِلَهِهَا
وَمَعْبُودِهَا الَّذِي هُوَ حَقٌّ ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ ، فَمَنْ
قَرَّتْ عَيْنُهُ بِاللَّهِ قَرَّتْ بِهِ كُلُّ عَيْنٍ ، وَمَنْ لَمْ تَقَرَّ
عَيْنُهُ بِاللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ عَلَى الدُّنْيَا حَسَرَاتٍ ، وَاللَّهُ
تَعَالَى إِنَّمَا جَعَلَ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ لِمَنْ آمَنَ بِهِ وَعَمِلَ
صَالِحًا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى
وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 97 ] .
فَضَمِنَ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ
الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا بِالْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ ، وَالْحُسْنَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ
، فَلَهُمْ أَطْيَبُالْحَيَاتَيْنِ ، فَهُمْ أَحْيَاءٌ فِي الدَّارَيْنِ .
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ
الْمُتَّقِينَ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 30 ] .
وَنَظِيرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا
رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [ سُورَةُ هُودٍ : 3 ] .
[ ص: 121 ] فَفَازَ الْمُتَّقُونَ الْمُحْسِنُونَ
بِنَعِيمِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَحَصَلُوا عَلَى الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ فِي
الدَّارَيْنِ ، فَإِنَّ طِيبَ النَّفْسِ ، وَسُرُورَ الْقَلْبِ ، وَفَرَحَهُ وَلَذَّتَهُ
وَابْتِهَاجَهُ وَطُمَأْنِينَتَهُ وَانْشِرَاحَهُ وَنُورَهُ وَسَعَتَهُ وَعَافِيَتَهُ
مِنْ تَرْكِ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَالشُّبُهَاتِ الْبَاطِلَةِ - هُوَ
النَّعِيمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَلَا نِسْبَةَ لِنَعِيمِ الْبَدَنِ إِلَيْهِ .
فَقَدْ كَانَ يَقُولُ بَعْضُ مَنْ ذَاقَ هَذِهِ
اللَّذَّةَ : لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ
لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ
.
وَقَالَ آخَرُ : إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالْقَلْبِ
أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا : إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا ،
إِنَّهُمْ لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ
.
وَقَالَ آخَرُ : إِنَّ فِي الدُّنْيَا جَنَّةً هِيَ فِي
الدُّنْيَا كَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ ، فَمَنْ دَخَلَهَا دَخَلَ تِلْكَ
الْجَنَّةَ ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْهَا لَمْ يَدْخُلْ جَنَّةَ الْآخِرَةِ ، وَقَدْ
أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى هَذِهِ
الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ : إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ، قَالُوا
: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : حِلَقُ الذِّكْرِ وَقَالَ : مَا بَيْنَ
بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .
نَعِيمُ الْأَبْرَارِ وَجَحِيمُ الْفُجَّارِ وَلَا
تَظُنَّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ
الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [ سُورَةُ الِانْفِطَارِ : 13 - 14 ] مُخْتَصٌّ
بِيَوْمِ الْمَعَادِ فَقَطْ ، بَلْ هَؤُلَاءِ فِي نَعِيمٍ فِي دُورِهِمُ الثَّلَاثَةِ
، وَهَؤُلَاءِ فِي جَحِيمٍ فِي دُورِهِمُ الثَّلَاثَةِ ، وَأَيُّ لَذَّةٍ
وَنَعِيمٍ فِي الدُّنْيَا أَطْيَبُ مِنْ بِرِّ الْقَلْبِ ، وَسَلَامَةِ الصَّدْرِ
، وَمَعْرِفَةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ ، وَالْعَمَلِ عَلَى
مُوَافَقَتِهِ ؟ وَهَلِ الْعَيْشُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا عَيْشُ الْقَلْبِ
السَّلِيمِ ؟ وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى خَلِيلِهِ
عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَلَامَةِ قَلْبِهِ ، فَقَالَ : وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ
لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [ سُورَةُ الصَّافَّاتِ : 83
- 84 ] .
وَقَالَ حَاكِيًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَوْمَ لَا
يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 88 - 89
] .
وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الَّذِي سَلِمَ مِنَ
الشِّرْكِ وَالْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالشُّحِّ وَالْكِبْرِ وَحُبِّ الدُّنْيَا
وَالرِّيَاسَةِ ، فَسَلِمَ مِنْ كُلِّ آفَةٍ تُبْعِدُهُ عَنِ اللَّهِ ، وَسَلِمَ
مِنْ كُلِّ شُبْهَةٍ تُعَارِضُ خَبَرَهُ ، وَمِنْ [ ص: 122 ] كُلِّ شَهْوَةٍ تُعَارِضُ
أَمْرَهُ ، وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ إِرَادَةٍ تُزَاحِمُ مُرَادَهُ ، وَسَلِمَ مِنْ
كُلِّ قَاطِعٍ يَقْطَعُ عَنِ اللَّهِ ، فَهَذَا الْقَلْبُ السَّلِيمُ فِي جَنَّةٍ
مُعَجَّلَةٍ فِي الدُّنْيَا ، وَفِي جَنَّةٍ فِي الْبَرْزَخِ ، وَفِي جَنَّةِ يَوْمِ
الْمَعَادِ .
سَلَامَةُ الْقَلْبِ
وَلَا تَتِمُّ لَهُ سَلَامَتُهُ مُطْلَقًا حَتَّى
يَسْلَمَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ : مِنْ شِرْكٍ يُنَاقِضُ التَّوْحِيدَ ،
وَبِدْعَةٍ تُخَالِفُ السُّنَّةَ ، وَشَهْوَةٍ تُخَالِفُ الْأَمْرَ ، وَغَفْلَةٍ
تُنَاقِضُ الذِّكْرَ ، وَهَوًى يُنَاقِضُ التَّجْرِيدَ وَالْإِخْلَاصَ .
وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ حُجُبٌ عَنِ اللَّهِ ، وَتَحْتَ
كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَنْوَاعٌ كَثِيرَةٌ ، تَتَضَمَّنُ أَفْرَادًا لَا
تَنْحَصِرُ .
الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ
وَلِذَلِكَ اشْتَدَّتْ حَاجَةُ الْعَبْدِ بَلْ ضَرُورَتُهُ
، إِلَى أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ،
فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحْوَجَ مِنْهُ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَةِ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ
أَنْفَعَ لَهُ مِنْهَا .
فَإِنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ يَتَضَمَّنُ :
عُلُومًا ، وَإِرَادَةً ، وَأَعْمَالًا ، وَتُرُوكًا ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً
تَجْرِي عَلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ ، فَتَفَاصِيلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ قَدْ يَعْلَمُهَا
الْعَبْدُ وَقَدْ لَا يَعْلَمُهَا ، وَقَدْ يَكُونُ مَا لَا يَعْلَمُهُ أَكْثَرَ
مِمَّا يَعْلَمُهُ ، وَمَا يَعْلَمُهُ قَدْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ لَا
يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ وَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ ،
وَمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ قَدْ تُرِيدُهُ نَفْسُهُ وَقَدْ لَا تُرِيدُهُ كَسَلًا
وَتَهَاوُنًا ، أَوْ لِقِيَامِ مَانِعٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَمَا تُرِيدُهُ قَدْ
يَفْعَلُهُ وَقَدْ لَا يَفْعَلُهُ ، وَمَا يَفْعَلُهُ قَدْ يَقُومُ فِيهِ
بِشُرُوطِ الْإِخْلَاصِ وَقَدْ لَا يَقُومُ ، وَمَا يَقُومُ فِيهِ بِشُرُوطِ الْإِخْلَاصِ
قَدْ يَقُومُ فِيهِ بِكَمَالِ الْمُتَابَعَةِ وَقَدْ لَا يَقُومُ ، وَمَا يَقُومُ فِيهِ
بِالْمُتَابَعَةِ قَدْ يَثْبُتُ عَلَيْهِ وَقَدْ يُصْرَفُ قَلْبُهُ عَنْهُ ،
وَهَذَا كُلُّهُ وَاقِعٌ سَارٍ فِي الْخَلْقِ ، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ .
وَلَيْسَ فِي طِبَاعِ الْعَبْدِ الْهِدَايَةُ إِلَى
ذَلِكَ ، بَلْ مَتَى وُكِلَ إِلَى طِبَاعِهِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ
كُلِّهِ ، وَهَذَا هُوَ الْإِرْكَاسُ الَّذِي أَرْكَسَ اللَّهُ بِهِ
الْمُنَافِقِينَ بِذُنُوبِهِمْ ، فَأَعَادَهُمْ إِلَى طِبَاعِهِمْ وَمَا خُلِقَتْ
عَلَيْهِ نُفُوسُهُمْ مِنَ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ ، وَالرَّبُّ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي قَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَنَهْيِهِ
وَأَمْرِهِ ، فَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِفَضْلِهِ
وَرَحْمَتِهِ ، وَجَعْلِهِ الْهِدَايَةَ حَيْثُ تَصْلُحُ ، وَيَصْرِفُ مَنْ
يَشَاءُ عَنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ بِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ ، لِعَدَمِ
صَلَاحِيَةِ الْمَحَلِّ ، وَذَلِكَ مُوجِبُ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ الَّذِي هُوَ
عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَصَبَ لِخَلْقِهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا
يُوصِلُهُمْ إِلَيْهِ ، فَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ .
وَنَصَبَ لِعِبَادِهِ مِنْ أَمْرِهِ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا دَعَاهُمْ جَمِيعًا إِلَيْهِ حُجَّةً مِنْهُ وَعَدْلًا ، وَهَدَى [
ص: 123 ] مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ إِلَى سُلُوكِهِ نِعْمَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ،
وَلَمْ يَخْرُجْ بِهَذَا الْعَدْلِ وَهَذَا الْفَضْلِ عَنْ صِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ
الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ لِقَائِهِ نَصَبَ لِخَلْقِهِ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا يُوَصِّلُهُمْ إِلَى جَنَّتِهِ ، ثُمَّ صَرَفَ عَنْهُ مَنْ صَرَفَ
عَنْهُ فِي الدُّنْيَا ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ مَنْ أَقَامَهُ عَلَيْهِ فِي
الدُّنْيَا ، نُورًا ظَاهِرًا يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ فِي
ظُلْمَةِ الْحَشْرِ ، وَحَفِظَ عَلَيْهِمْ نُورَهُمْ حَتَّى قَطَعُوهُ كَمَا
حَفِظَ عَلَيْهِمُ الْإِيمَانَ حَتَّى لَقَوْهُ ، وَأَطْفَأَ نُورَ
الْمُنَافِقِينَ أَحْوَجَ مَا كَانُوا إِلَيْهِ ، كَمَا أَطْفَأَهُ مِنْ
قُلُوبِهِمْ فِي الدُّنْيَا .
وَأَقَامَ أَعْمَالَ الْعُصَاةِ بِجَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ
كَلَالِيبَ وَحَسَكًا تَخْطِفُهُمْ كَمَا خَطَفَتْهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ
الِاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ قُوَّةَ سَيْرِهِمْ وَسُرْعَتَهُمْ عَلَى
قَدْرِ قُوَّةِ سَيْرِهِمْ وَسُرْعَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا ، وَنَصَبَ لِلْمُؤْمِنِينَ
حَوْضًا يَشْرَبُونَ مِنْهُ بِإِزَاءِ شُرْبِهِمْ مِنْ شَرْعِهِ فِي الدُّنْيَا ،
وَحَرَمَ مِنَ الشُّرْبِ مِنْهُ هُنَاكَ مَنْ حُرِمَ الشُّرْبَ مِنْ شَرْعِهِ
وَدِينِهِ هَاهُنَا .
فَانَظُرْ إِلَى الْآخِرَةِ كَأَنَّهَا رَأْيُ عَيْنٍ ،
وَتَأَمَّلْ حِكْمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي الدَّارَيْنِ ، تَعْلَمْ حِينَئِذٍ
عِلْمًا يَقِينًا لَا شَكَّ فِيهِ : أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ
وَعُنْوَانُهَا وَأُنْمُوذَجُهَا ، وَأَنَّ مَنَازِلَ النَّاسِ فِيهَا مِنَ
السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ عَلَى حَسَبِمَنَازِلِهِمْ فِي هَذِهِ الدَّارِ فِي الْإِيمَانِ
وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَضِدِّهِمَا ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ .
فَمِنْ أَعْظَمِ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ - الْخُرُوجُ
عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ .
فَصْلٌ:
أَصْلُ الذُّنُوبِوَلَمَّا كَانَتِ الذُّنُوبُ
مُتَفَاوِتَةً فِي دَرَجَاتِهَا وَمَفَاسِدِهَا تَفَاوَتَتْ عُقُوبَاتُهَا فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهَا .
وَنَحْنُ نَذْكُرُ فِيهَا بِعَوْنِ اللَّهِ وَحُسْنِ
تَوْفِيقِهِ فَصْلًا وَجِيزًا جَامِعًا ، فَنَقُولُ :
أَصْلُهَا نَوْعَانِ : تَرْكُ مَأْمُورٍ ، وَفِعْلُ
مَحْظُورٍ ، وَهُمَا الذَّنْبَانِ اللَّذَانِ ابْتَلَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ
بِهِمَا أَبَوَيِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَكِلَاهُمَا يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ مَحِلِّهِ إِلَى
ظَاهِرٍ عَلَى الْجَوَارِحِ ، وَبَاطِنٍ فِي الْقُلُوبِ .
وَبِاعْتِبَارِ مُتَعَلَّقِهِ إِلَى حَقِّ اللَّهِ
وَحَقِّ خَلْقِهِ .
وَإِنْ كَانَ كُلُّ حَقٍّ لِخَلْقِهِ فَهُوَ مُتَضَمِّنٌ
لِحَقِّهِ ، لَكِنْ سُمِّي حَقًّا لِلْخَلْقِ لِأَنَّهُ يَجِبُ بِمُطَالَبَتِهِمْ
وَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِمْ .
[ ص: 124 ] ثُمَّ هَذِهِ الذُّنُوبُ تَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ
أَقْسَامٍ : مَلَكِيَّةٍ ، وَشَيْطَانِيَّةٍ ، وَسَبُعِيَّةٍ ، وَبَهِيمِيَّةٍ ،
وَلَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ .
فَالذُّنُوبُ الْمَلَكِيَّةُ أَنْ يَتَعَاطَى مَا لَا
يَصِحُّ لَهُ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ ، كَالْعَظَمَةِ ، وَالْكِبْرِيَاءِ ،
وَالْجَبَرُوتِ ، وَالْقَهْرِ ، وَالْعُلُوِّ ، وَاسْتِعْبَادِ الْخَلْقِ ،
وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا شِرْكٌ بِاللَّهِ تَعَالَى ،
وَهُوَ نَوْعَانِ : شِرْكٌ بِهِ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَعْلُ آلِهَةٍ
أُخْرَى مَعَهُ ، وَشِرْكٌ بِهِ فِي مُعَامَلَتِهِ ، وَهَذَا الثَّانِي قَدْ لَا
يُوجِبُ دُخُولَ النَّارِ ، وَإِنْ أَحْبَطَ الْعَمَلَ الَّذِي أَشْرَكَ فِيهِ
مَعَ اللَّهِ غَيْرَهُ .
وَهَذَا الْقِسْمُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الذُّنُوبِ ، وَيَدْخُلُ
فِيهِ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ ، فَمَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِالذُّنُوبِ ، فَقَدْ نَازَعَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فِي
رُبُوبِيَّتِهِ وَمُلْكِهِ ، وَجَعَلَ لَهُ نِدًّا ، وَهَذَا أَعْظَمُ الذُّنُوبِ
عِنْدَ اللَّهِ ، وَلَا يَنْفَعُ مَعَهُ عَمَلٌ .
فَصْلٌ: الذُّنُوبُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَأَمَّا الشَّيْطَانِيَّةُ
: فَالتَّشَبُّهُ بِالشَّيْطَانِ فِي الْحَسَدِ ، وَالْبَغْيِ وَالْغِشِّ
وَالْغِلِّ وَالْخِدَاعِ وَالْمَكْرِ ، وَالْأَمْرِ بِمَعَاصِي اللَّهِ
وَتَحْسِينِهَا ، وَالنَّهْيِ عَنْ طَاعَتِهِ وَتَهْجِينِهَا ، وَالِابْتِدَاعِ
فِي دِينِهِ ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْبِدَعِ وَالضَّلَالِ .وَهَذَا النَّوْعُ
يَلِي النَّوْعَ الْأَوَّلَ فِي الْمَفْسَدَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْسَدَتُهُ
دُونَهُ .
فَصْلٌ:
الذُّنُوبُ السَّبُعِيَّةُ وَأَمَّا السَّبُعِيَّةُ :
فَذُنُوبُ الْعُدْوَانِ وَالْغَضَبِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ ، وَالتَّوَثُّبِ عَلَى الضُّعَفَاءِ
وَالْعَاجِزِينَ ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْهَا أَنْوَاعُ أَذَى النَّوْعِ
الْإِنْسَانِيِّ وَالْجَرْأَةِ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ .الذُّنُوبُ
الْبَهِيمِيَّةُ وَأَمَّا الذُّنُوبُ الْبَهِيمِيَّةُ : فَمِثْلُ الشَّرَهِ وَالْحِرْصِ عَلَى
قَضَاءِ شَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ ، وَمِنْهَا يَتَوَلَّدُ الزِّنَا
وَالسَّرِقَةُ وَأَكْلُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى ، وَالْبُخْلُ ، وَالشُّحُّ ،
وَالْجُبْنُ ، وَالْهَلَعُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ .
[ ص: 125 ] وَهَذَا الْقِسْمُ أَكْثَرُ ذُنُوبِ
الْخَلْقِ لِعَجْزِهِمْ عَنِ الذُّنُوبِ السَّبُعِيَّةِ وَالْمَلَكِيَّةِ ،
وَمِنْهُ يَدْخُلُونَ إِلَى سَائِرِ الْأَقْسَامِ ، فَهُوَ يَجُرُّهُمْ إِلَيْهَا
بِالزِّمَامِ ، فَيَدْخُلُونَ مِنْهُ إِلَى الذُّنُوبِ السَّبُعِيَّةِ ، ثُمَّ
إِلَى الشَّيْطَانِيَّةِ ، ثُمَّ مُنَازَعَةِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَالشِّرْكِ فِي
الْوَحْدَانِيَّةِ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا حَقَّ التَّأَمُّلِ ، تَبَيَّنَ لَهُ
أَنَّ الذُّنُوبَ دِهْلِيزُ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمُنَازَعَةِ اللَّهِ
رُبُوبِيَّتَهُ .
فَصْلٌ:
الذُّنُوبُ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُوَقَدْ دَلَّ
الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ بَعْدَهُمْ
وَالْأَئِمَّةِ ، عَلَى أَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرَ وَصَغَائِرَ ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 31 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ
الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ [ سُورَةُ النَّجْمِ : 32 ] .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ ، وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ ،
وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ .
وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ الْمُكَفِّرَةُ لَهَا ثَلَاثُ
دَرَجَاتٍ :
إِحْدَاهَا :
أَنْ تَقْصُرَ عَنْ تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ لِضَعْفِهَا
وَضَعْفِ الْإِخْلَاصِ فِيهَا وَالْقِيَامِ بِحُقُوقِهَا ، بِمَنْزِلَةِ
الدَّوَاءِ الضَّعِيفِ الَّذِي يَنْقُصُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الدَّاءِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً .
الثَّانِيَةُ : أَنْ تُقَاوِمَ الصَّغَائِرَ وَلَا
تَرْتَقِيَ إِلَى تَكْفِيرِ شَيْءٍ مِنَ الْكَبَائِرِ .
الثَّالِثَةُ : أَنْ تَقْوَى عَلَى تَكْفِيرِ
الصَّغَائِرِ وَتَبْقَى فِيهَا قُوَّةٌ تُكَفَّرُ بِهَا بَعْضُ الْكَبَائِرِ .
فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ يُزِيلُ عَنْكَ
إِشْكَالَاتٍ كَثِيرَةً .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ ، قِيلَ : وَمَا
هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَالسِّحْرُ ، وَقَتْلُ
النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ
، وَأَكْلُ الرِّبَا ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ؟ قَالَ :
أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ، قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ :
أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ ، قِيلَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ
: أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَصْدِيقَهَا :
[ ص: 126 ] وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ
وَلَا يَزْنُونَ [ سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 68 ] .
عَدَدُ الْكَبَائِرِ
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْكَبَائِرِ : هَلْ لَهَا
عَدَدٌ يَحْصُرُهَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
.
ثُمَّ الَّذِينَ قَالُوا بِحَصْرِهَا اخْتَلَفُوا فِي
عَدَدِهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : هِيَ أَرْبَعٌ ، وَقَالَ
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : هِيَ سَبْعٌ ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ : هِيَ تِسْعَةٌ ، وَقَالَ غَيْرُهُ : هِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ ، وَقَالَ
آخَرُ : هِيَ سَبْعُونَ .
وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ : جَمَعْتُهَا مِنْ أَقْوَالِ
الصَّحَابَةِ ، فَوَجَدْتُهَا : أَرْبَعَةً فِي الْقَلْبِ ، وَهَى : الشِّرْكُ
بِاللَّهِ ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ
اللَّهِ ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ .
وَأَرْبَعَةٌ فِي اللِّسَانِ ، وَهَى : شَهَادَةُ
الزُّورِ ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ ، وَالسِّحْرُ .
وَثَلَاثٌ فِي الْبَطْنِ : شُرْبُ الْخَمْرِ ، وَأَكْلُ
مَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَكْلُ الرِّبَا
.
وَاثْنَتَانِ فِي الْفَرْجِ ، وَهُمَا : الزِّنَا ،
وَاللِّوَاطُ .
وَاثْنَتَانِ فِي الْيَدَيْنِ ، وَهُمَا : الْقَتْلُ ،
وَالسَّرِقَةُ .
وَوَاحِدَةٌ فِي الرِّجْلَيْنِ ، وَهَى : الْفِرَارُ
مِنَ الزَّحْفِ .
وَوَاحِدٌ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْجَسَدِ ، وَهُوَ :
عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ .
وَالَّذِينَ لَمْ يَحْصُرُوهَا بِعَدَدٍ ، مِنْهُمْ مَنْ
قَالَ : كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَمَا
نَهَى عَنْهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ صَغِيرَةٌ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : مَا اقْتَرَنَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ
وَعِيدٌ مِنْ لَعْنٍ أَوْ غَضَبٍ أَوْ عُقُوبَةٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَمَا لَمْ
يَقْتَرِنْ بِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ صَغِيرَةٌ .
وَقِيلَ : كُلُّ مَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي
الدُّنْيَا أَوْ وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ ، فَهُوَ كَبِيرَةٌ ، وَمَا لَمْ
يُرَتَّبْ عَلَيْهِ لَا هَذَا وَلَا هَذَا ، فَهُوَ صَغِيرَةٌ .
وَقِيلَ : كُلُّ مَا اتَّفَقَتِ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِهِ
فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ ، وَمَا كَانَ تَحْرِيمُهُ فِي شَرِيعَةٍ دُونَ
شَرِيعَةٍ فَهُوَ صَغِيرَةٌ .
وَقِيلَ : كُلُّ مَا لَعَنَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ
فَاعِلَهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ .
وَقِيلَ :
كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ النِّسَاءِ إِلَى
قَوْلِهِ : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ
[ سُورَةُ النِّسَاءِ : 31 ] .
[ ص: 127 ] الَّذِينَ لَمْ يُقَسِّمُوهَا إِلَى
كَبَائِرَ
وَالَّذِينَ لَمْ يُقَسِّمُوهَا إِلَى كَبَائِرَ
وَصَغَائِرَ ، قَالُوا : الذُّنُوبُ كُلُّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَرَاءَةِ
عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَمَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ ، كَبَائِرُ ،
فَالنَّظَرُ إِلَى مَنْ عَصَى أَمْرَهُ وَانْتَهَكَ مَحَارِمَهُ ، يُوجِبُ أَنْ
تَكُونَ الذُّنُوبُ كُلُّهَا كَبَائِرَ ، وَهِيَ مُسْتَوِيَةٌ فِي هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ .
قَالُوا : وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا
تَضُرُّهُ الذُّنُوبُ وَلَا يَتَأَثَّرُ بِهَا ، فَلَا يَكُونُ بَعْضُهَا
بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ أَكْبَرَ مِنْ بَعْضٍ ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مُجَرَّدُ
مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ ذَنْبٍ وَذَنْبٍ .
قَالُوا : وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ مَفْسَدَةَ
الذُّنُوبِ إِنَّمَا هِيَ تَابِعَةٌ لِلْجَرَاءَةِ وَالتَّوَثُّبِ عَلَى حَقِّ
الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَلِهَذَا لَوْ شَرِبَ رَجُلٌ خَمْرًا ، أَوْ
وَطِئَ فَرْجًا حَرَامًا ، وَهُوَ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ، لَكَانَ قَدْ
جَمَعَ بَيْنَ الْجَهْلِ وَبَيْنَ مَفْسَدَةِ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ ، وَلَوْ
فَعَلَ ذَلِكَ مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ، لَكَانَ آتِيًا بِإِحْدَى
الْمَفْسَدَتَيْنِ ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ دُونَالْأَوَّلِ ،
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ تَابِعَةٌ لِلْجَرَاءَةِ وَالتَّوَثُّبِ .
قَالُوا :
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الْمَعْصِيَةَ تَتَضَمَّنُ
الِاسْتِهَانَةَ بِأَمْرِ الْمُطَاعِ وَنَهْيِهِ وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ ،
وَهَذَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ ذَنْبٍ وَذَنْبٍ .
قَالُوا : فَلَا يَنْظُرُ الْعَبْدُ إِلَى كِبَرِ
الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قَدْرِ مَنْ عَصَاهُ
وَعَظَمَتِهِ ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِهِ بِالْمَعْصِيَةِ ، وَهَذَا لَا يَفْتَرِقُ
فِيهِ الْحَالُ بَيْنَ مَعْصِيَةٍ وَمَعْصِيَةٍ ، فَإِنَّ مَلِكًا مُطَاعًا عَظِيمًا
لَوْ أَمَرَ أَحَدَ مَمْلُوكَيْهِأَنْ يَذْهَبَ فِي مُهِمٍّ لَهُ إِلَى بَلَدٍ بَعِيدٍ
، وَأَمَرَ آخَرَ أَنْ يَذْهَبَ فِي شُغُلٍ لَهُ إِلَى جَانِبِ الدَّارِ ،
فَعَصَيَاهُ وَخَالَفَا أَمْرَهُ ، لَكَانَا فِي مَقْتِهِ وَالسُّقُوطِ مِنْ
عَيْنِهِ سَوَاءً .
قَالُوا : وَلِهَذَا كَانَتْ مَعْصِيَةُ مَنْ تَرَكَ
الْحَجَّ مِنْ مَكَّةَ وَتَرَكَ الْجُمُعَةَ وَهُوَ جَارُ الْمَسْجِدِ ، أَقْبَحَ
عِنْدَ اللَّهِ مِنْ مَعْصِيَةِ مَنْ تَرَكَ مِنَ الْمَكَانِ الْبَعِيدِ ،
وَالْوَاجِبُ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ مِنَ الْوَاجِبِ عَلَى هَذَا ، وَلَوْ كَانَ
مَعَ رَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَمَنَعَ زَكَاتَهَا ، وَمَعَ آخَرَ مِائَتَا
أَلْفِ دِرْهَمٍ فَمَنَعَ مِنْ زَكَاتِهَا ؛ لَاسْتَوَيَا فِي مَنْعِ مَا وَجَبَ
عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا يَبْعُدُ اسْتِوَاؤُهُمَا فِي الْعُقُوبَةِ
، إِذَا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُصِرًّا عَلَى مَنْعِ زَكَاةِ مَالِهِ ، قَلِيلًا كَانَ
الْمَالُ أَوْ كَثِيرًا .
فَصْلٌ: وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
أَنْ يُقَالَ :إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَرْسَلَ رُسُلَهُ ، وَأَنْزَلَ
كُتُبَهُ ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لِيُعْرَفَ وَيُعْبَدَ [ ص: 128 ]
وَيُوَحَّدَ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَالطَّاعَةُ كُلُّهَا لَهُ ،
وَالدَّعْوَةُ لَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [ سُورَةُ الذَّارِيَاتِ : 56 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [ سُورَةُ الْحِجْرِ : 85 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ
أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [ الطَّلَاقِ : 12 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ
الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ
وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُمَا فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [ سُورَةُ
الْمَائِدَةِ : 97 ] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقَصْدَ بِالْخَلْقِ
وَالْأَمْرِ : أَنْ يُعْرَفَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، وَيُعْبَدَ وَحْدَهُ لَا
يُشْرَكَ بِهِ ، وَأَنْ يَقُومَالنَّاسُ بِالْقِسْطِ ، وَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي
قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [ الْحَدِيدِ : 25 ] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ رُسُلَهُ
وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَهُوَ الْعَدْلُ ، وَمِنْ
أَعْظَمِ الْقِسْطِ التَّوْحِيدُ ، وَهُوَ رَأْسُ الْعَدْلِ وَقِوَامُهُ ، وَإِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، فَالشِّرْكُ أَظْلَمُ الظُّلْمِ ، وَالتَّوْحِيدُ أَعْدَلُ
الْعَدْلِ ، فَمَا كَانَ أَشَدَّ مُنَافَاةً لِهَذَا الْمَقْصُودِ فَهُوَ أَكْبَرُ
الْكَبَائِرِ ، وَتَفَاوُتُهَا فِي دَرَجَاتِهَا بِحَسَبِ مُنَافَاتِهَا لَهُ ،
وَمَا كَانَ أَشَدَّ مُوَافَقَةً لِهَذَا الْمَقْصُودِ فَهُوَ أَوْجَبُ
الْوَاجِبَاتِ وَأَفْرَضُ الطَّاعَاتِ
.
فَتَأَمَّلْ هَذَا الْأَصْلَ حَقَّ التَّأَمُّلِ ،
وَاعْتَبِرْ تَفَاصِيلَهُ تَعْرِفْ بِهِ حِكْمَةَ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ،
وَأَعْلَمِ الْعَالِمِينَ فِيمَا فَرَضَهُ عَلَى عِبَادِهِ ، وَحَرَّمَهُ
عَلَيْهِمْ ، وَتَفَاوُتَ مَرَاتِبِ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَاصِي .
فَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ مُنَافِيًا
بِالذَّاتِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ كَانَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
، وَحَرَّمَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى كُلِّ مُشْرِكٍ ، وَأَبَاحَ دَمَهُ
وَمَالَهُ وَأَهْلَهُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ ، وَأَنْ يَتَّخِذُوهُمْ عَبِيدًا
لَهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْقِيَامَ بِعُبُودِيَّتِهِ ، وَأَبَى اللَّهُ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ مُشْرِكٍ عَمَلًا أَوْ يَقْبَلَ فِيهِ [ ص: 129 ]
شَفَاعَةً أَوْ يَسْتَجِيبَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ دَعْوَةً ، أَوْ يُقِيلَ لَهُ
عَثْرَةً ، فَإِنَّ الْمُشْرِكَ أَجْهَلُ الْجَاهِلِينَ بِاللَّهِ ، حَيْثُ جَعَلَ
لَهُ مِنْ خَلْقِهِ نِدًّا ، وَذَلِكَ غَايَةُ الْجَهْلِ بِهِ ، كَمَا أَنَّهُ
غَايَةُ الظُّلْمِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُ لَمْ يَظْلِمْ رَبَّهُ
وَإِنَّمَا ظَلَمَنَفْسَهُ .
فَصْلٌ: شِرْكُ الْوَسَاطَةِوَوَقَعَتْ مَسْأَلَةٌ
وَهِيَ : أَنَّ الْمُشْرِكَ إِنَّمَا قَصْدُهُ تَعْظِيمُ جَنَابِ الرَّبِّ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَأَنَّهُ لِعَظَمَتِهِ لَا يَنْبَغِي الدُّخُولُ عَلَيْهِ
إِلَّا بِالْوَسَائِطِ وَالشُّفَعَاءِ كَحَالِ الْمُلُوكِ ، فَالْمُشْرِكُ لَمْ
يَقْصِدْ الِاسْتِهَانَةَ بِجَنَابِ الرُّبُوبِيَّةِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ تَعْظِيمَهُ
، وَقَالَ : إِنَّمَا أَعْبُدُ هَذِهِ الْوَسَائِطَ لِتُقَرِّبَنِي إِلَيْهِ
وَتَدُلَّنِي وَتُدْخِلَنِي عَلَيْهِ ، فَهُوَ الْمَقْصُودُ وَهَذِهِ وَسَائِلُ
وَشُفَعَاءُ ، فَلِمَ كَانَ هَذَا الْقَدْرُ مُوجِبًا لِسُخْطِهِ وَغَضَبِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَمُخَلِّدًا فِي النَّارِ ، وَمُوجِبًا لِسَفْكِ دِمَاءِ
أَصْحَابِهِ ، وَاسْتِبَاحَةِ حَرِيمِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ؟
وَتَرَتَّبَ عَلَى هَذَا سُؤَالٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُ
هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَشْرَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ
بِالشُّفَعَاءِ وَالْوَسَائِطِ ، فَيَكُونَ تَحْرِيمُ هَذَا إِنَّمَا اسْتُفِيدَ
مِنَ الشَّرْعِ ، أَمْ ذَلِكَ قَبِيحٌ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ ، يَمْتَنِعُ أَنْ
تَأْتِيَ بِهِ شَرِيعَةٌ ؟ بَلْ جَاءَتِ الشَّرَائِعُ بِتَقْرِيرِ مَا فِي
الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ مِنْ قُبْحِهِ الَّذِي هُوَ أَقْبَحُ مِنْ كُلِّ قَبِيحٍ ؟
وَمَا السَّبَبُ فِي كَوْنِهِ لَا يَغْفِرُهُ مِنْ دُونِ سَائِرِ الذُّنُوبِ ؟
كَمَا قَالَ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 48 ]
فَتَأَمَّلْ هَذَا السُّؤَالَ ، وَاجْمَعْ قَلْبَكَ وَذِهْنَكَ
عَلَى جَوَابِهِ وَلَا تَسْتَهْوِنْهُ ، فَإِنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْفَرْقُ بَيْنَ
الْمُشْرِكِينَ وَالْمُوَحِّدِينَ ، وَالْعَالِمِينَ بِاللَّهِ وَالْجَاهِلِينَ
بِهِ ، وَأَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ .
نَوْعَا الشِّرْكِ
فَنَقُولُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ وَالتَّأْيِيدُ ،
وَمِنْهُ نَسْتَمِدُّ الْمَعُونَةَ وَالتَّسْدِيدَ ، فَإِنَّهُ مَنْ يَهْدِهِ
اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَلَا مَانِعَ
لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ .
الشِّرْكُ شِرْكَانِ :
شِرْكٌ يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْمَعْبُودِ وَأَسْمَائِهِ
وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ .
وَشِرْكٌ فِي عِبَادَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ ، وَإِنْ
كَانَ صَاحِبُهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فِي ذَاتِهِ ،
وَلَا فِي صِفَاتِهِ ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ .
[ ص: 130 ] وَالشِّرْكُ الْأَوَّلُ نَوْعَانِ :
أَحَدُهُمَا :
شِرْكُ التَّعْطِيلِ : وَهُوَ أَقْبَحُ أَنْوَاعِ
الشِّرْكِ ، كَشِرْكِ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَ : وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 23 ] .
وَقَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ
لِهَامَانَ : وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ
أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ
كَاذِبًا [ سُورَةُ غَافِرٍ : 36 - 37 ] فَالشِّرْكُ وَالتَّعْطِيلُ
مُتَلَازِمَانِ : فَكُلُّ مُشْرِكٍ مُعَطِّلٌ وَكُلُّ مُعَطِّلٍ مُشْرِكٌ ،
لَكِنَّ الشِّرْكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَصْلَ التَّعْطِيلِ ، بَلْ يَكُونُ
الْمُشْرِكُ مُقِرًّا بِالْخَالِقِ سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ ، وَلَكِنَّهُ
مُعَطِّلٌ حَقَّ التَّوْحِيدِ .
التَّعْطِيلُ
وَأَصْلُ الشِّرْكِ وَقَاعِدَتُهُ الَّتِي يَرْجِعُ
إِلَيْهَا ، هُوَ التَّعْطِيلُ ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ :
تَعْطِيلُ الْمَصْنُوعِ عَنْ صَانِعِهِ وَخَالِقِهِ .
وَتَعْطِيلُ الصَّانِعِ سُبْحَانَهُ عَنْ كَمَالِهِ
الْمُقَدَّسِ ، بِتَعْطِيلِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ .
وَتَعْطِيلُ مُعَامَلَتِهِ عَمَّا يَجِبُ عَلَى
الْعَبْدِ مِنْ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ
.
وَمِنْ هَذَا شِرْكُ طَائِفَةِ أَهْلِ وَحْدَةِ
الْوُجُودِ الَّذِينَ يَقُولُونَ
: مَا ثَمَّ خَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ وَلَا هَاهُنَا
شَيْئَانِ ، بَلِ الْحَقُّ الْمُنَزَّهُ هُوَ عَيْنُ الْخَلْقِ الْمُشَبَّهِ .
وَمِنْهُ شِرْكُ الْمَلَاحِدَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ
وَأَبَدِيَّتِهِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْدُومًا أَصْلًا ، بَلْ لَمْ يَزَلْ
وَلَا يَزَالُ ، وَالْحَوَادِثُ بِأَسْرِهَا مُسْتَنِدَةٌ عِنْدَهُمْ إِلَى أَسْبَابٍ
وَوَسَائِطَ اقْتَضَتْ إِيجَادَهَا ، وَيُسَمُّونَهَا بِالْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ .
وَمِنْ هَذَا شِرْكُ مَنْ عَطَّلَ أَسْمَاءَ الرَّبِّ تَعَالَى وَأَوْصَافَهُ
وَأَفْعَالَهُ مِنْ غُلَاةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ ، فَلَمْ يُثْبِتُوا
لَهُ اسْمًا وَلَا صِفَةً ، بَلْ جَعَلُوا الْمَخْلُوقَ أَكْمَلَ مِنْهُ ، إِذْ
كَمَالُ الذَّاتِ بِأَسْمَائِهَا وَصِفَاتِهَا .
فَصْلٌ: شِرْكُ مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا
آخَرَالنَّوْعُ الثَّانِي : شِرْكُ مَنْ جَعَلَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ ، وَلَمْ
يُعَطِّلْ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتَهُ ، كَشِرْكِ النَّصَارَى
الَّذِينَ جَعَلُوهُ ثَلَاثَةً ، فَجَعَلُوا الْمَسِيحَ إِلَهًا ، وَأُمَّهُ
إِلَهًا .
وَمِنْ هَذَا شِرْكُ الْمَجُوسِ الْقَائِلِينَ
بِإِسْنَادِ حَوَادِثِ الْخَيْرِ إِلَى النُّورِ ، وَحَوَادِثِ الشَّرِّ إِلَى
الظُّلْمَةِ .
[ ص: 131 ] وَمِنْ هَذَا شِرْكُ الْقَدَرِيَّةِ
الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْحَيَوَانَ هُوَ الَّذِي يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ ،
وَأَنَّهَا تَحْدُثُ بِدُونِ مَشِيئَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ ،
وَلِهَذَا كَانُوا مِنْ أَشْبَاهِ الْمَجُوسِ .
وَمِنْ هَذَا شِّرْكُ - الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي
رَبِّهِ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ [ سُورَةُ
الْبَقَرَةِ : 258 ] .
فَهَذَا جَعَلَ نَفْسَهُ نِدًّا لِلَّهِ ، يُحْيِي
وَيُمِيتُ بِزَعْمِهِ ، كَمَا يُحْيِي اللَّهُ وَيُمِيتُ ، فَأَلْزَمَهُ
إِبْرَاهِيمُ أَنَّ طَرْدَ قَوْلِكَ أَنْ تَقْدِرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالشَّمْسِ
مِنْ غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي يَأْتِي بِهَا اللَّهُ مِنْهَا ، وَلَيْسَ هَذَا
انْتِقَالًا كَمَا زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْجَدَلِ بَلْ إِلْزَامًا عَلَى طَرْدِ
الدَّلِيلِ إِنْ كَانَ حَقًّا .
وَمِنْ هَذَا شِرْكُ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُشْرِكُ بِالْكَوَاكِبِ
الْعُلْوِيَّاتِ ، وَيَجْعَلُهَا أَرْبَابًا مُدَبِّرَةً لِأَمْرِ هَذَا
الْعَالَمِ ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ مُشْرِكِي الصَّابِئَةِ وَغَيْرِهِمْ .
وَمِنْ هَذَا شِرْكُ عُبَّادِ الشَّمْسِ وَعُبَّادِ
النَّارِ وَغَيْرِهِمْ .
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ مَعْبُودَهُ هُوَ
الْإِلَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَكْبَرُ
الْآلِهَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ إِلَهٌ مِنْ جُمْلَةِ الْآلِهَةِ ،
وَأَنَّهُ إِذَا خَصَّهُ بِعِبَادَتِهِ وَالتَّبَتُّلِ إِلَيْهِ وَالِانْقِطَاعِ
إِلَيْهِ أَقْبَلَ عَلَيْهِ وَاعْتَنَى بِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ
مَعْبُودَهُ الْأَدْنَى يُقَرِّبُهُ إِلَى الْمَعْبُودِ الَّذِي هُوَ فَوْقَهُ ،
وَالْفَوْقَانِيَّ يُقَرِّبُهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ ، حَتَّى تُقَرِّبَهُ
تِلْكَ الْآلِهَةُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَتَارَةً تَكْثُرُ
الْوَسَائِطُ وَتَارَةً تَقِلُّ
.
فَصْلٌ: الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِوَأَمَّا الشِّرْكُ
فِي الْعِبَادَةِ فَهُوَ أَسْهَلُ مِنْ هَذَا الشِّرْكِ ، وَأَخَفُّ أَمْرًا ،
فَإِنَّهُ يَصْدُرُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ،
وَأَنَّهُ لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ وَلَا يُعْطِي وَلَا يَمْنَعُ إِلَّا
اللَّهُ ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ ، وَلَا رَبَّ سِوَاهُ ، وَلَكِنْ لَا
يَخُصُّ اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ وَعُبُودِيَّتِهِ ، بَلْ يَعْمَلُ لِحَظِّ
نَفْسِهِ تَارَةً ، وَلِطَلَبِ الدُّنْيَا تَارَةً ، وَلِطَلَبِ الرِّفْعَةِ
وَالْمَنْزِلَةِ وَالْجَاهِ عِنْدَ الْخَلْقِ تَارَةً ، فَلِلَّهِ مِنْ عَمَلِهِ
وَسَعْيِهِ نَصِيبٌ ، وَلِنَفْسِهِ وَحَظِّهِ وَهَوَاهُ نَصِيبٌ ، وَلِلشَّيْطَانِ
نَصِيبٌ ، وَلِلْخَلْقِ نَصِيبٌ ، وَهَذَا حَالُ أَكْثَرِالنَّاسِ ، وَهُوَ
الشِّرْكُ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا رَوَاهُ
ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ : الشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ أَخْفَى مِنْ
دَبِيبِ النَّمْلِ ، قَالُوا : كَيْفَ نَنْجُو مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ
: قُلْ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ ،
وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا لَا أَعْلَمُ
.
[ ص: 132 ] فَالرِّيَاءُ كُلُّهُ شِرْكٌ ، قَالَ
تَعَالَى : قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا
صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 110 ] .
أَيْ : كَمَا أَنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ ، وَلَا إِلَهَ
سِوَاهُ ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ لَهُ وَحْدَهُ ،
فَكَمَا تَفَرَّدَ بِالْإِلَهِيَّةِ يَجِبُ أَنْ يُفْرَدَ بِالْعُبُودِيَّةِ ،
فَالْعَمَلُ الصَّالِحُ هُوَ الْخَالِي مِنَ الرِّيَاءِ الْمُقَيَّدُ بِالسُّنَّةِ .
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - : اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صَالِحًا وَاجْعَلْهُ
لِوَجْهِكَ خَالِصًا ، وَلَا تَجْعَلْ لِأَحَدٍ فِيهِ شَيْئًا .
وَهَذَا الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ يُبْطِلُ ثَوَابَ
الْعَمَلِ ، وَقَدْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ وَاجِبًا ،
فَإِنَّهُ يُنْزِلُهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَعْمَلْهُ ، فَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ
الْأَمْرِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِعِبَادَتِهِ عِبَادَةً
خَالِصَةً ، قَالَ تَعَالَى : وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ [ الْبَيِّنَةِ : 5
] .
فَمَنْ لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ فِي عِبَادَتِهِ لَمْ
يَفْعَلْ مَا أُمِرَ بِهِ ، بَلِ الَّذِي أَتَى بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْمَأْمُورِ
بِهِ ، فَلَا يَصِحُّ وَلَا يُقْبَلُمِنْهُ ، وَيَقُولُ اللَّهُ : " أَنَا
أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ ، فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ مَعِي
فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ لِلَّذِي أَشْرَكَ بِهِ ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ " .
أَقْسَامُ الشِّرْكِ
وَهَذَا الشِّرْكُ يَنْقَسِمُ إِلَى مَغْفُورٍ وَغَيْرِ
مَغْفُورٍ ، وَأَكْبَرَ وَأَصْغَرَ ، وَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ يَنْقَسِمُ إِلَى
كَبِيرٍ وَأَكْبَرَ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ مَغْفُورٌ ، فَمِنْهُ الشِّرْكُ
بِاللَّهِ فِي الْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ : أَنْ يُحِبَّ مَخْلُوقًا كَمَا
يُحِبُّ اللَّهَ ، فَهَذَا مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ ،
وَهُوَ الشِّرْكُ الَّذِي قَالَ سُبْحَانَهُ فِيهِ : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 165 ] وَقَالَ أَصْحَابُ هَذَا الشِّرْكِ
لِآلِهَتِهِمْ وَقَدْ جَمَعَهُمُ الْجَحِيمُ : تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ
: 97 - 98 ] .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ مَا سَوَّوْهُمْ بِهِ سُبْحَانَهُ
فِي الْخَلْقِ ، وَالرِّزْقِ ، وَالْإِمَاتَةِ ، وَالْإِحْيَاءِ ، وَالْمُلْكِ ،
وَالْقُدْرَةِ ، وَإِنَّمَا سَوَّوْهُمْ بِهِ فِي الْحُبِّ ، وَالتَّأَلُّهِ ،
وَالْخُضُوعِ لَهُمْ وَالتَّذَلُّلِ ، وَهَذَا غَايَةُ الْجَهْلِ وَالظُّلْمِ ، فَكَيْفَ
يُسَوَى التُّرَابُ بِرَبِّالْأَرْبَابِ ، وَكَيْفَ يُسَوَى الْعَبِيدُ بِمَالِكِ
الرِّقَابِ ، وَكَيْفَ [ ص: 133 ] يُسَوَى الْفَقِيرُ بِالذَّاتِ الضَّعِيفُ
بِالذَّاتِ الْعَاجِزُ بِالذَّاتِ الْمُحْتَاجُ بِالذَّاتِ ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ
مِنْ ذَاتِهِ إِلَّا الْعَدَمُ ، بِالْغَنِيِّ بِالذَّاتِ ، الْقَادِرِ بِالذَّاتِ
، الَّذِي غِنَاهُ ، وَقُدْرَتُهُ وَمُلْكُهُ وَجُودُهُ ، وَإِحْسَانُهُ ،
وَعِلْمُهُ ، وَرَحْمَتُهُ ، وَكَمَالُهُ الْمُطْلَقُ التَّامُّ مِنْ لَوَازِمِ
ذَاتِهِ ؟
فَأَيُّ ظُلْمٍ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا ؟ وَأَيُّ حُكْمٍ
أَشَدُّ جَوْرًا مِنْهُ ؟ حَيْثُ عَدَلَ مَنْ لَا عِدْلَ لَهُ بِخَلْقِهِ ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ
يَعْدِلُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 1 ] .
فَعَدَلَ الْمُشْرِكُ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ، بِمَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ
وَلَا لِغَيْرِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍفِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ، فَيَا
لَكَ مِنْ عَدْلٍ تَضَمَّنَ أَكْبَرَ الظُّلْمِ وَأَقْبَحَهُ .
فَصْلٌ: الشِّرْكُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ
وَالْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِوَيَتْبَعُ هَذَا الشِّرْكَ الشِّرْكُ بِهِ
سُبْحَانَهُ فِي الْأَفْعَالِ ، وَالْأَقْوَالِ ، وَالْإِرَادَاتِ ، وَالنِّيَّاتِ
، فَالشِّرْكُ فِي الْأَفْعَالِ كَالسُّجُودِ لِغَيْرِهِ ، وَالطَّوَافِ بِغَيْرِ
بَيْتِهِ ، وَحَلْقِ الرَّأْسِ عُبُودِيَّةً وَخُضُوعًا لِغَيْرِهِ ، وَتَقْبِيلِ
الْأَحْجَارِ غَيْرِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ الَّذِي هُوَ يَمِينُ اللَّهِ فِي
الْأَرْضِ ، وَتَقْبِيلِ الْقُبُورِ وَاسْتِلَامِهَا ، وَالسُّجُودِ لَهَا ،
وَقَدْ لَعَنَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنِ اتَّخَذَ قُبُورَ
الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مَسَاجِدَ يُصَلِّي لِلَّهِ فِيهَا ، فَكَيْفَ
بِمَنِ اتَّخَذَ الْقُبُورَ أَوْثَانًا يَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ ؟
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، اتَّخَذُوا قُبُورَ
أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ : إِنَّ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ
تُدْرِكُهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءُ ، وَالَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ
مَسَاجِدَ .
وَفِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنْهُ : إِنَّ مَنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا
الْقُبُورَ مَسَاجِدَ ، فَإِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ .
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - وَصَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ ، وَالْمُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا
الْمَسَاجِدَ وَالسُّرُجَ .
وَقَالَ : اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا
قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ
.
[ ص: 134 ] وَقَالَ : إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ،
كَانَ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ
مَسْجِدًا ، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ
عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
.
فَهَذَا حَالُ مَنْ سَجَدَ لِلَّهِ فِي مَسْجِدٍ عَلَى
قَبْرٍ ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ سَجَدَ لِلْقَبْرِ نَفْسِهِ ؟
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ ، وَقَدْ حَمَى
النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَانِبَ التَّوْحِيدِ أَعْظَمَ
حِمَايَةٍ ، حَتَّى نَهَى عَنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ طُلُوعِ
الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا ؛ لِئَلَّا يَكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّشَبُّهِ
بِعُبَّادِ الشَّمْسِ الَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهَا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ .
وَسَدَّ الذَّرِيعَةَ بِأَنْ مَنَعَ الصَّلَاةَ بَعْدَ
الْعَصْرِ وَالصُّبْحِ ؛ لِاتِّصَالِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ بِالْوَقْتَيْنِ
اللَّذَيْنِ يَسْجُدُ الْمُشْرِكُونَ فِيهِمَا لِلشَّمْسِ .
وَأَمَّا السُّجُودُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَالَ : لَا
يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلَّهِ .
وَ "
لَا يَنْبَغِي " فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلَّذِي هُوَ فِي غَايَةِ الِامْتِنَاعِ
شَرْعًا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا
[ سُورَةُ مَرْيَمَ : 92 ] .
وَقَوْلِهِ : وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [ سُورَةُ يس : 69 ] .
وَقَوْلِهِ : وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ [ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 210 - 211 ] .
وَقَوْلِهِ : مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ
مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ [ سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 18 ]
فَصْلٌ:
الشِّرْكُ فِي اللَّفْظِوَمِنَ الشِّرْكِ بِهِ
سُبْحَانَهُ الشِّرْكُ بِهِ فِي اللَّفْظِ ، كَالْحَلِفِ بِغَيْرِهِ ، كَمَا
رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ صَحَّحَهُ
الْحَاكِمُ وَابْنُ حِبَّانَ .
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ لِلْمَخْلُوقِ : مَا شَاءَ اللَّهُ
وَشِئْتَ ، كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ ، فَقَالَ :
أَجَعَلْتَنِي لِلَّهِ نِدًّا ؟ قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ .
[ ص: 135 ] هَذَا مَعَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْبَتَ
لِلْعَبْدِ مَشِيئَةً ، كَقَوْلِهِ : لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [
سُورَةُ التَّكْوِيرِ : 28 ] .
فَكَيْفَ بِمَنْ يَقُولُ : أَنَا مُتَوَكِّلٌ عَلَى اللَّهِ
وَعَلَيْكَ ، وَأَنَا فِي حَسْبِ اللَّهِ وَحَسْبِكَ ، وَمَا لِي إِلَّا اللَّهُ وَأَنْتَ
، وَهَذَا مِنَ اللَّهِ وَمِنْكَ ، وَهَذَا مِنْ بَرَكَاتِ اللَّهِ وَبَرَكَاتِكَ
، وَاللَّهُ لِي فِي السَّمَاءِ وَأَنْتَ فِي الْأَرْضِ .
أَوْ يَقُولُ : وَاللَّهِ ، وَحَيَاةِ فُلَانٍ ، أَوْ
يَقُولُ نَذْرًا لِلَّهِ وَلِفُلَانٍ ، وَأَنَا تَائِبٌ لِلَّهِ وَلِفُلَانٍ ،
أَوْ أَرْجُو اللَّهَ وَفُلَانًا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ .
فَوَازِنْ بَيْنَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَبَيْنَ قَوْلِ الْقَائِلِ
: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ . ثُمَّ انْظُرْ أَيُّهُمَا أَفْحَشُ ، يَتَبَيَّنْ
لَكَ أَنَّ قَائِلَهَا أَوْلَى بِجَوَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِقَائِلِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ قَدْ جَعَلَهُ
نِدًّا لِلَّهِ بِهَا ، فَهَذَا قَدْ جَعَلَ مَنْ لَا يُدَانِي رَسُولَ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ - بَلْ
لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْدَائِهِ- نِدًّا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ،
فَالسُّجُودُ ، وَالْعِبَادَةُ ، وَالتَّوَكُّلُ ، وَالْإِنَابَةُ ، وَالتَّقْوَى
، وَالْخَشْيَةُ ، وَالْحَسْبُ ، وَالتَّوْبَةُ ، وَالنَّذْرُ ، وَالْحَلِفُ ، وَالتَّسْبِيحُ
، وَالتَّكْبِيرُ ، وَالتَّهْلِيلُ ، وَالتَّحْمِيدُ ، وَالِاسْتِغْفَارُ ،
وَحَلْقُ الرَّأْسِ خُضُوعًا وَتَعَبُّدًا ، وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ،
وَالدُّعَاءُ ، كُلُّ ذَلِكَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ ، لَا يَصْلُحُ وَلَا يَنْبَغِي
لِسِوَاهُ : مِنْ مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ رَجُلًا
أُتِيَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَذْنَبَ
ذَنْبًا ، فَلَمَّا وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، قَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَتُوبُ إِلَيْكَ
وَلَا أَتُوبُ إِلَى مُحَمَّدٍ ، فَقَالَ : عَرَفَ الْحَقَّ لِأَهْلِهِ .
فَصْلٌ: الشِّرْكُ فِي الْإِرَادَاتِ
وَالنِّيَّاتِوَأَمَّا الشَّرَكُ فِي الْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ ، فَذَلِكَ
الْبَحْرُ الَّذِي لَا سَاحِلَ لَهُ ، وَقَلَّ مَنْ يَنْجُو مِنْهُ ، مَنْ أَرَادَ
بِعَمَلِهِ غَيْرَ وَجْهِ اللَّهِ ، وَنَوَى شَيْئًا غَيْرَ التَّقَرُّبِ إِلَيْهِ
، وَطَلَبَ الْجَزَاءَ مِنْهُ ، فَقَدْ أَشْرَكَ فِي نِيَّتِهِ وَإِرَادَتِهِ .
وَالْإِخْلَاصُ : أَنْ يُخْلِصَ لِلَّهِ فِي أَفْعَالِهِ
وَأَقْوَالِهِ وَإِرَادَتِهِ وَنِيَّتِهِ ، وَهَذِهِ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ مِلَّةُ
إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ كُلَّهُمْ ، وَلَا يَقْبَلُ
مِنْ أَحَدٍ غَيْرَهَا ، وَهِيَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ .
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ
يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [ سُورَةُ آلِ
عِمْرَانَ : 85 ] .
وَهِيَ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي مَنْ رَغِبَ
عَنْهَا فَهُوَ مِنْ أَسَفَهِ السُّفَهَاءِ .
فَصْلٌ:
حَقِيقَةُ الشِّرْكِ[ ص: 136 ] إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ
الْمُقَدِّمَةَ انْفَتَحَ لَكَ بَابُ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ ،
فَنَقُولُ ، وَمِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ نَسْتَمِدُّ الصَّوَابَ :
حَقِيقَةُ الشِّرْكِ : هُوَ التَّشَبُّهُ بِالْخَالِقِ
وَتَشْبِيهُ الْمَخْلُوقِ بِهِ ، هَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ فِي الْحَقِيقَةِ ، لَا
إِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ ، وَوَصَفَهُ
بِهَا رَسُولُهُ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَعَكَسَ الْأَمْرَ مَنْ نَكَسَ
اللَّهُ قَلَبَهُ وَأَعْمَى بَصِيرَتَهُ وَأَرْكَسَهُ بِكَسْبِهِ ، وَجَعَلَ
التَّوْحِيدَ تَشْبِيهًا وَالتَّشْبِيهَ تَعْظِيمًا وَطَاعَةً ، فَالْمُشْرِكُ
مُشَبِّهٌ لِلْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ فِي خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ .
فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ التَّفَرُّدَ بِمِلْكِ
الضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَعْلِيقَ
الدُّعَاءِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّوَكُّلِ بِهِ وَحْدَهُ ، فَمَنْ
عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَخْلُوقٍ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْخَالِقِ وَجَعَلَ مَنْ لَا
يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا
نُشُورًا ، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ
- شَبِيهًا بِمَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ، فَأَزِمَّةُ
الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدَيْهِ ، وَمَرْجِعُهَا إِلَيْهِ ، فَمَا شَاءَ كَانَ
وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى ، وَلَا مُعْطِيَ
لِمَا مَنَعَ ، بَلْ إِذَا فَتَحَ لِعَبْدِهِ بَابَ رَحْمَتِهِ لَمْ يُمْسِكْهَا أَحَدٌ
، وَإِنْ أَمْسَكَهَا عَنْهُ لَمْ يُرْسِلْهَا إِلَيْهِ أَحَدٌ .
فَمِنْ أَقْبَحِ التَّشْبِيهِ : تَشْبِيهُ هَذَا
الْعَاجِزِ الْفَقِيرِ بِالذَّاتِ بِالْقَادِرِ الْغَنِيِّ بِالذَّاتِ .
وَمِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ : الْكَمَالُ
الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ
الْوُجُوهِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا لَهُ وَحْدَهُ
، وَالتَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ وَالْخَشْيَةُ وَالدُّعَاءُ وَالرَّجَاءُ وَالْإِنَابَةُ
وَالتَّوْبَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالِاسْتِعَانَةُ ، وَغَايَةُ الذُّلِّمَعَ غَايَةِ
الْحُبِّ - كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَفِطْرَةً أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَحْدَهُ ، وَيَمْتَنِعُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَفِطْرَةً أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ ،
فَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَ ذَلِكَ الْغَيْرَ
بِمَنْ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا مَثِيلَ وَلَا نِدَّ لَهُ ، وَذَلِكَ أَقْبَحُ التَّشْبِيهِ
وَأَبْطَلُهُ ، وَلِشِدَّةِ قُبْحِهِ وَتَضَمُّنِهِ غَايَةَ الظُّلْمِ أَخْبَرَ
سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ ، مَعَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ .
وَمِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ : الْعُبُودِيَّةُ
الَّتِي قَامَتْ عَلَى سَاقَيْنِ لَا قِوَامَ لَهَا بِدُونِهِمَا : غَايَةِ
الْحُبِّ ، مَعَ غَايَةِ الذُّلِّ
. هَذَا تَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ ، وَتَفَاوُتُ
مَنَازِلِ الْخَلْقِ فِيهَا بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ .
فَمَنْ أَعْطَى حُبَّهُ وَذُلَّهُ وَخُضُوعَهُ لِغَيْرِ
اللَّهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ ، وَهَذَا مِنَ الْمُحَالِ
أَنْ تَجِيءَ بِهِ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ ، وَقُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي
كُلِّ فِطْرَةٍ وَعَقْلٍ ، وَلَكِنْ غَيَّرَتِ [ ص: 137 ] الشَّيَاطِينُ فِطَرَ
الْخَلْقِ وَعُقُولَهُمْ وَأَفْسَدَتْهَا عَلَيْهِمْ ، وَاجْتَالَتْهُمْ عَنْهَا ،
وَمَضَى عَلَى الْفِطْرَةِ الْأُولَى مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنَاللَّهِ الْحُسْنَى ،
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ بِمَا يُوَافِقُ
فِطَرَهُمْ وَعُقُولَهُمْ ، فَازْدَادُوا بِذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ ، يَهْدِي
اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ
[ النُّورِ : 35 ] .
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَمِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ
السُّجُودُ ، فَمَنْ سَجَدَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَ الْمَخْلُوقَ بِهِ .
وَمِنْهَا : التَّوَكُّلُ ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى
غَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ
.
وَمِنْهَا : التَّوْبَةُ ، فَمَنْ تَابَ لِغَيْرِهِ
فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ .
وَمِنْهَا :
الْحَلِفُ بِاسْمِهِ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا لَهُ ،
فَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ ، هَذَا فِي جَانِبِ التَّشْبِيهِ .
وَأَمَّا فِي جَانِبِ التَّشَبُّهِ بِهِ : فَمَنْ
تَعَاظَمَ وَتَكَبَّرَ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى إِطْرَائِهِ فِي الْمَدْحِ
وَالتَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ وَالرَّجَاءِ ، وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِهِ خَوْفًا
وَرَجَاءً وَالْتِجَاءً وَاسْتِعَانَةً ، فَقَدْ تَشَبَّهَ بِاللَّهِ وَنَازَعَهُ
فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ ، وَهُوَحَقِيقٌ بِأَنْ يُهِينَهُ غَايَةَ الْهَوَانِ
، وَيُذِلَّهُ غَايَةَ الذُّلِّ ، وَيَجْعَلَهُ تَحْتَ أَقْدَامِ خَلْقِهِ .
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ : يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : " الْعَظَمَةُ إِزَارِي ،
وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي ، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ " .
وَإِذَا كَانَ الْمُصَوِّرُ الَّذِي يَصْنَعُ الصُّورَةَ
بِيَدِهِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَشَبُّهِهِ
بِاللَّهِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ ، فَمَا الظَّنُّ بِالتَّشَبُّهِ بِاللَّهِ
فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ ؟
كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ ،
يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : [ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ
يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي ، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً ، فَلْيَخْلُقُوا شَعِيرَةً
] ، فَنَبَّهَ بِالذَّرَّةِ وَالشَّعِيرَةِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا
وَأَكْبَرُ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ هَذَا حَالُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ
فِي صَنْعَةِ صُورَةٍ ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ فِي خَوَاصِّ
رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ ؟ وَكَذَلِكَ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ فِي الِاسْمِ
الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، كَمَلِكِ الْمُلُوكِ ، وَحَاكِمِ
الْحُكَّامِ ، وَنَحْوِهِ .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ أَخْنَعَ الْأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ
رَجُلٌ يُسَمَّى [ ص: 138 ] بِشَاهَانْ شَاهْ - أَيْ مَلِكِ الْمُلُوكِ - لَا
مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ وَفِي لَفْظٍ : أَغِيظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ رَجُلٌ
يُسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ
.
فَهَذَا مَقْتُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَى مَنْ تَشَبَّهَ
بِهِ فِي الِاسْمِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِلَّا لَهُ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَلِكُ
الْمُلُوكِ وَحْدَهُ ، وَهُوَ حَاكِمُ الْحُكَّامِ وَحْدَهُ ، فَهُوَ الَّذِي
يَحْكُمُ عَلَى الْحُكَّامِ كُلِّهِمْ ، وَيَقْضِي عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ ، لَا غَيْرُهُ .
فَصْلٌ: سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا
فَهَاهُنَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَكْشِفُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ أَنَّ أَعْظَمَ
الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِهِ ، فَإِنَّ الْمُسِيءَ بِهِ
الظَّنَّ قَدْ ظَنَّ بِهِ خِلَافَ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ ، وَظَنَّ بِهِ مَا
يُنَاقِضُ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
الظَّانِّينَ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ بِمَا لَمْ يَتَوَعَّدْ بِهِ غَيْرَهُمْ ،
كَمَا قَالَ تَعَالَى : عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [ سُورَةُ الْفَتْحِ
: 6 ] .
وَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ : وَذَلِكُمْ
ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ
الْخَاسِرِينَ [ سُورَةُ فُصِّلَتْ : 23 ] .
قَالَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ
قَالَ لِقَوْمِهِ : مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ
فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [ الصَّافَّاتِ : 85 - 87 ] .
أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ أَنْ يُجَازِيَكُمْ بِهِ إِذَا
لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ ؟ وَمَا ظَنَنْتُمْ بِهِ حِينَ
عَبَدْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ ؟
وَمَا ظَنَنْتُمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ
وَرُبُوبِيَّتِهِ مِنَ النَّقْصِ حَتَّى أَحْوَجَكُمْ ذَلِكَ إِلَى عُبُودِيَّةِ
غَيْرِهِ ؟ فَلَوْ ظَنَنْتُمْ بِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلِيمٌ ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ
، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى
خَلْقِهِ ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ
غَيْرُهُ ، وَالْعَالِمُ بِتَفَاصِيلِ الْأُمُورِ ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ
خَافِيَةٌ مِنْ خَلْقِهِ ، وَالْكَافِي لَهُمْ وَحْدَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى
مُعِينٍ ، وَالرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي رَحْمَتِهِ إِلَى مَنْ يَسْتَعْطِفُهُ
، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ ، فَإِنَّهُمْ
يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُعَرِّفُهُمْ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ [ ص: 139 ]
وَحَوَائِجَهُمْ ، وَيُعِينُهُمْ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ ، وَإِلَى مَنْ
يَسْتَرْحِمُهُمْ وَيَسْتَعْطِفُهُمْ بِالشَّفَاعَةِ ، فَاحْتَاجُوا إِلَى
الْوَسَائِطِضَرُورَةً ، لِحَاجَتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَقُصُورِ عِلْمِهِمْ .
فَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، الْغَنِيُّ
عَنْ كُلِّ شَيْءٍ ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ
شَيْءٍ ، فَإِدْخَالُ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ نَقْصٌ بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ
وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ ، وَظَنٌّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ ، وَهَذَا
يَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْرَعَهُ لِعِبَادِهِ ، وَيَمْتَنِعُ فِي الْعُقُولِ
وَالْفِطَرِ جَوَازُهُ ، وَقُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ
فَوْقَ كُلِّ قَبِيحٍ .
يُوَضِّحُ هَذَا : أَنَّ الْعَابِدَ مُعَظِّمٌ
لِمَعْبُودِهِ ، مُتَأَلِّهٌ خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لَهُ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى وَحْدَهُ
هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ كَمَالَ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالِ وَالتَّأَلُّهِ
وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ ، وَهَذَا خَالِصُ حَقِّهِ ، فَمِنْ أَقْبَحِ الظُّلْمِ
أَنْ يُعْطِيَ حَقَّهُ لِغَيْرِهِ ، أَوْ يُشْرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِيهِ ،
وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الَّذِي جُعِلَ شَرِيكَهُ فِي حَقِّهِ هُوَ عَبْدُهُ وَمَمْلُوكُهُ
، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ
مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ
فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ
الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [ سُورَةُ الرُّومِ : 28 ] .
أَيْ : إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَأْنَفُ أَنْ يَكُونَ
مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فِي رِزْقِهِ ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِي مِنْ عَبِيدِي
شُرَكَاءَ فِيمَا أَنَا بِهِ مُنْفَرِدٌ ؟ وَهُوَ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي لَا
تَنْبَغِي لِغَيْرِي ، وَلَا تَصِحُّ لِسِوَايَ .
فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَمَا قَدَرَنِي حَقَّ قَدْرِي ، وَلَا
عَظَّمَنِي حَقَّ تَعْظِيمِي ، وَلَا أَفْرَدَنِي بِمَا أَنَا مُفْرَدٌ بِهِ
وَحْدِي دُونَ خَلْقِي ، فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ
غَيْرَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى
: يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [ سُورَةُ الْحَجِّ : 73 - 74 ] .
فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ
غَيْرَهُ ، مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ أَضْعَفِ حَيَوَانٍ وَأَصْغَرِهِ ،
وَإِنْ سَلَبَهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ
مِنْهُ ، وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ
جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ سُورَةُ الزُّمَرِ : 67 ] فَمَا
قَدَرَ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ وَعَظَمَتُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ فِي
عِبَادَتِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ [ ص: 140 ] ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ
هُوَ أَعْجَزُ شَيْءٍ وَأَضْعَفُهُ ، فَمَا قَدَرَ الْقَوِيَّ الْعَزِيزَ حَقَّ قَدْرِهِ
مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ الضَّعِيفَ الذَّلِيلَ .
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ :
إِنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَى خَلْقِهِ رَسُولًا ، وَلَا أَنْزَلَ كِتَابًا ، بَلْ
نَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَحْسُنُ مِنْهُ ، مِنْ إِهْمَالِ
خَلْقِهِ وَتَضْيِيعِهِمْ وَتَرْكِهِمْ سُدًى ، وَخَلْقِهِمْ بَاطِلًا وَعَبَثًا ،
وَلَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَفَى حَقَائِقَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى
وَصِفَاتِهِ الْعُلَا ، فَنَفَى سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَإِرَادَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ
وَعُلُوَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ ، وَكَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ
خَلْقِهِ بِمَا يُرِيدُهُ ، أَوْ نَفَى عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَتَعَلُّقَهَا
بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ ، فَأَخْرَجَهَا عَنْ
قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ ، وَجَعَلَهُمْ يَخْلُقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ
مَا يَشَاءُونَ بِدُونِ مَشِيئَةِ الرَّبِّ ، فَيَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا
يَشَاءُ ، وَيَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ . تَعَالَى عَنْ قَوْلِ أَشْبَاهِ الْمَجُوسِ
عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ : إِنَّهُ
يُعَاقِبُ عَبْدَهُ عَلَى مَا لَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ ، وَلَا لَهُ عَلَيْهِ
قُدْرَةٌ ، وَلَا تَأْثِيرٌ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ
الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ، فَيُعَاقِبُ عَبْدَهُ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ
الَّذِي جَبَرَ الْعَبْدَ عَلَيْهِ
. وَجَبْرُهُ عَلَى الْفِعْلِ أَعْظَمُ مِنْ إِكْرَاهِ
الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ
أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَكْرَهَ عَبَدَهُ عَلَى فِعْلٍ ، أَوْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ
ثُمَّ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَبِيحًا ، فَأَعْدَلُ الْعَادِلِينَ وَأَحْكَمُ
الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ كَيْفَ يَجْبُرُ الْعَبْدَ عَلَى فِعْلٍ
لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا تَأْثِيرٌ ، وَلَا هُوَ وَاقِعٌ بِإِرَادَتِهِ
، بَلْ وَلَا هُوَ فِعْلُهُ أَلْبَتَّةَ ، ثُمَّ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةَ
الْأَبَدِ ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ
شَرٌّ مِنْ أَقْوَالِ الْمَجُوسِ
. وَالطَّائِفَتَانِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ .
وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ لَمْ
يَصُنْهُ عَنْ نَتَنٍ وَلَا حُشٍّ ، وَلَا مَكَانٍ يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهِ بَلْ
جَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، صَانَهُ عَنْ عَرْشِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوِيًا
عَلَيْهِ : إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
يَرْفَعُهُ [ سُورَةُ فَاطِرٍ : 10 ]
.
وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ، وَتَنْزِلُ
مِنْ عِنْدِهِ : يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ
يَعْرُجُ إِلَيْهِ [ سُورَةُ السَّجْدَةِ : 5 ] .
فَصَانَهُ عَنِ اسْتِوَائِهِ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ ،
ثُمَّ جَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَأْنَفُ الْإِنْسَانُ ، بَلْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ
أَنْ يَكُونَ فِيهِ.
وَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَفَى
حَقِيقَةَ مَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمَقْتِهِ
، وَلَا مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ حِكْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ
الْمَقْصُودَةُ بِفِعْلِهِ ، وَلَا مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ [ ص: 141 ] فِعْلِهِ ،
وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا يَقُومُ بِهِ ، بَلْ أَفْعَالُهُ
مَفْعُولَاتٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ ، فَنَفَى حَقِيقَةَ مَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ
وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ ، وَتَكْلِيمِهِ مُوسَى مِنْ جَانِبِ الطُّورِ ،
وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ بِنَفْسِهِ
، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ ، الَّتِي نَفَوْهَا
وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ بِنَفْيِهَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ جَعَلَ
لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا ، أَوْ جَعَلَهَ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي جَمِيعِ
مَخْلُوقَاتِهِ ، أَوْ جَعَلَهُ عَيْنَ هَذَا الْوُجُودِ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ :
إِنَّهُ رَفَعَ أَعْدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَعْلَى ذِكْرَهُمْ ، وَجَعَلَ فِيهِمُ الْمُلْكَ
وَالْخِلَافَةَ وَالْعِزَّ ، وَوَضَعَ أَوْلِيَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَهَانَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَضَرَبَ
عَلَيْهِمُ الذُّلَّ أَيْنَمَا ثُقِفُوا ، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْقَدْحِ
فِي جَنَابِ الرَّبِّ . تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ عُلُوًّا كَبِيرًا .
وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ أَرْسَلَ مَلِكًا ظَالِمًا ،
فَادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ ، وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ ، وَمَكَثَ زَمَانًا
طَوِيلًا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ كُلَّ وَقْتٍ ، وَيَقُولُ : قَالَ اللَّهُ كَذَا
، وَأَمَرَ بِكَذَا ، وَنَهَى عَنْ كَذَا ، يَنْسَخُ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ
، وَيَسْتَبِيحُ دِمَاءَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ ، وَيَقُولُ
: اللَّهُ أَبَاحَ لِي ذَلِكَ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُظْهِرُهُ وَيُؤَيِّدُهُ ،
وَيُعْلِيهِ ، وَيُعِزُّهُ ، وَيُجِيبُ دَعَوَاتِهِ ، وَيُمَكِّنُهُ مِمَّنْ
خَالَفَهُ ، وَيُقِيمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى صِدْقِهِ ، وَلَا يُعَادِيهِ أَحَدٌ
إِلَّا ظَفِرَ بِهِ ، فَيَصْدُقُهُبِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ ،
وَيُحْدِثُ أَدِلَّةَ تَصْدِيقِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ أَعْظَمَ الْقَدْحِ
وَالطَّعْنِ فِي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَعِلْمِهِ ، وَحِكْمَتِهِ ،
وَرَحْمَتِهِ ، وَرُبُوبِيَّتِهِ .
تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الْجَاحِدِينَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَوَازِنْ بَيْنَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ ، وَقَوْلِ
إِخْوَانِهِمْ مِنَ الرَّافِضَةِ ، تَجِدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
رَضِيعَيْ لِبَانِ ثَدْيِ أُمٍّ تَقَاسَمَا بِأَسْحَمَ
دَاجٍ عَوْضُ لَا تَتَفَرَّقُ
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ
أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ أَوْلِيَاءَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَعْصِهِ طَرْفَةَ
عَيْنٍ ، وَيُدْخِلَهُمْ دَارَ الْجَحِيمِ ، وَيُنَعِّمَ أَعْدَاءَهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ
بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وَيُدْخِلَهُمْ دَارَ النَّعِيمِ ، وَأَنَّ كِلَا
الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا الْخَبَرُ الْمَحْضُ
جَاءَ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، فَمَعْنَاهُ لِلْخَبَرِ لَا لِمُخَالَفَةِ
حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ .
وَقَدْ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى مَنْ
جَوَّزَ عَلَيْهِ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ ، وَجَعَلَ الْحُكْمَ بِهِ مِنْ
أَسْوَأِ الْأَحْكَامِ .
قَالَ تَعَالَى : [ ص: 142 ] وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [
سُورَةُ ص : 27 - 28 ] .
وَقَالَ : أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا
السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [ سُورَةُ الْجَاثِيَةِ : 21 - 22 ] .
وَقَالَ : أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ
مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [ سُورَةُ الْقَلَمِ : 35 - 36 ] وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ
حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى ، وَلَا يَبْعَثُ مَنْ
فِي الْقُبُورِ ، وَلَا يَجْمَعُخَلْقَهُ لِيَوْمٍ يُجَازِي فِيهِ الْمُحْسِنَ
بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ ، وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ
مِنْ ظَالِمِهِ ، وَيُكْرِمُ الْمُتَحَمِّلِينَ الْمَشَاقَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ
أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ بِأَفْضَلِ كَرَامَتِهِ ، وَيُبَيِّنُ لِخَلْقِهِ
الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ، وَيَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا
كَاذِبِينَ .
وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ هَانَ
عَلَيْهِ أَمْرُهُ فَعَصَاهُ ، وَنَهْيُهُ فَارْتَكَبَهُ ، وَحَقُّهُ فَضَيَّعَهُ
، وَذِكْرُهُ فَأَهْمَلَهُ ، وَغَفَلَ قَلْبُهُ عَنْهُ ، وَكَانَ هَوَاهُ آثَرَ
عِنْدَهُ مِنْ طَلَبِ رِضَاهُ ، وَطَاعَةُ الْمَخْلُوقِ أَهَمَّ مِنْ طَاعَتِهِ ،
فَلِلَّهِ الْفَضْلَةُ مِنْ قَلْبِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ ، هَوَاهُ
الْمُقَدَّمُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ عِنْدَهُ ، يَسْتَخِفُّ بِنَظَرِ
اللَّهِ إِلَيْهِ ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ بِكُلِّقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ ، وَيَسْتَحِي
مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ ، وَيَخْشَى النَّاسَ وَلَا يَخْشَى
اللَّهَ ، وَيُعَامِلُ الْخَلْقَ بِأَفْضَلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ
عَامَلَ اللَّهَ عَامَلَهُ بِأَهْوَنِ مَا عِنْدَهُ وَأَحْقَرِهِ ، وَإِنْ قَامَ
فِي خِدْمَةِ مَنْ يُحِبُّهُ مِنَ الْبَشَرِ قَامَ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ
وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ ، وَقَدْ أَفْرَغَ لَهُ قَلْبَهُ وَجَوَارِحَهُ ،
وَقَدَّمَهُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ مَصَالِحِهِ ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي حَقِّ
رَبِّهِ - إِنْ سَاعَدَ الْقَدَرُ - قَامَ قِيَامًا لَا يَرْضَاهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقٍ
مِثْلِهِ ، وَبَذَلَ لَهُ مِنْ مَالِهِ مَا يَسْتَحِي أَنْ يُوَاجِهَ بِهِ
مَخْلُوقًا مِثْلَهُ ، فَهَلْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ
؟
وَهَلْ قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ شَارَكَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ عَدُوِّهِ فِي مَحْضِ حَقِّهِ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ
وَالطَّاعَةِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ؟ فَلَوْ جَعَلَ
لَهُ مِنْ أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ
جَرَاءَةً وَتَوَثُّبًا عَلَى مَحْضِ حَقِّهِ وَاسْتِهَانَةً بِهِ وَتَشْرِيكًا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَلَا يَنْبَغِي وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ
سُبْحَانَهُ ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا شَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَبْغَضَ
الْخَلْقِ إِلَيْهِ ، وَأَهْوَنَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَمْقَتَهُمْ عِنْدَهُ ، وَهُوَ
عَدُوُّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؟ فَإِنَّهُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ
، كَمَا قَالَ تَعَالَى : [ ص: 143 ] أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ
أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ
اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
[ سُورَةُ يس : 60 - 61 ] .
وَلَمَّا عَبَدَ الْمُشْرِكُونَ الْمَلَائِكَةَ
بِزَعْمِهِمْ وَقَعَتْ عِبَادَتُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلشَّيَاطِينِ ،
وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ .
كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا
ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ
قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ
أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ [ سُورَةُ سَبَأٍ : 40 - 41 ] .
فَالشَّيْطَانُ يَدْعُو الْمُشْرِكَ إِلَى عِبَادَتِهِ ،
وَيُوهِمُهُمْ أَنَّهُ مَلَكٌ ، وَكَذَلِكَ عُبَّادُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
وَالْكَوَاكِبِ ، وَهِيَ الَّتِي تُخَاطِبُهُمْ ، وَتَقْضِي لَهُمُ الْحَوَائِجَ ،
وَلِهَذَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَارَنَهَا الشَّيْطَانُ ، فَيَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ
، فَيَقَعُ سُجُودُهُمْ لَهُ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِهَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ
عَبَدَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ لَمْ يَعْبُدْهُمَا وَإِنَّمَا عَبَدَ الشَّيْطَانَ .
فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْبُدُ مَنْ أَمَرَهُ
بِعِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ أُمِّهِ ، وَرَضِيَهَا لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِهَا ،
وَهَذَا هُوَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ ، لَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ،
فَنَزَلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي
آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ
اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
.
فَمَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ غَيْرَ اللَّهِ
كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَّا وَقَعَتْ عِبَادَتُهُ لِلشَّيْطَانِ ، فَيَسْتَمْتِعُ
الْعَابِدُ بِالْمَعْبُودِ فِي حُصُولِ غَرَضِهِ ، وَيَسْتَمْتِعُ الْمَعْبُودُ
بِالْعَابِدِ فِي تَعْظِيمِهِ لَهُ ، وَإِشْرَاكِهِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ
غَايَةُ رِضَا الشَّيْطَانِ ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أَيْ : مِنْ
إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ
بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ
مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ
عَلِيمٌ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 128
] .
فَهَذِهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى السِّرِّ الَّذِي
لِأَجْلِهِ كَانَ الشِّرْكُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَأَنَّهُ لَا
يَغْفِرُهُ بِغَيْرِ التَّوْبَةِ مِنْهُ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي
الْعَذَابِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ وَقُبْحُهُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ
عَنْهُ ، بَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَشْرَعَ لِعِبَادِهِ عِبَادَةَ
إِلَهٍ غَيْرِهِ ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مَا يُنَاقِضُ أَوْصَافَ كَمَالِهِ
، وَنُعُوتَ جَلَالِهِ ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالْمُنْفَرِدِ بِالرُّبُوبِيَّةِ
وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْعَظْمَةِ وَالْإِجْلَالِ أَنْ يَأْذَنَ فِي مُشَارَكَتِهِ
فِي ذَلِكَ ، أَوْ يَرْضَى بِهِ ؟ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
[ ص: 144
]
فَصْلٌ:
الشِّرْكُ وَالْكِبْرُفَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ أَكْبَرَ
شَيْءٍ مُنَافَاةً لِلْأَمْرِ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْخَلْقَ ، وَأَمَرَ لِأَجْلِهِ
بِالْأَمْرِ ، كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ .
وَكَذَلِكَ الْكِبْرُ وَتَوَابِعُهُ كَمَا تَقَدَّمَ ،
فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ لِتَكُونَ الطَّاعَةُ
لَهُ وَحْدَهُ ، وَالشِّرْكُ وَالْكِبْرُ يُنَافِيَانِ ذَلِكَ .
وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى أَهْلِ
الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ ، فَلَا يَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ
ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ .
فَصْلٌ:
الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍوَيَلِي ذَلِكَ
فِي كِبَرِ الْمَفْسَدَةِ : الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ
وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ ، وَوَصْفُهُ بِضِدِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ
بِهِ رَسُولُهُ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . فَهَذَا أَشَدُّ شَيْءٍ
مُنَاقَضَةً وَمُنَافَاةً لِكَمَالِ مَنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ، وَقَدْحٌ
فِي نَفْسِ الرُّبُوبِيَّةِ وَخَصَائِصِ الرَّبِّ ، فَإِنْ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ
عِلْمٍ فَهُوَ عِنَادٌ أَقْبَحُ مِنَ الشِّرْكِ ، وَأَعْظَمُ إِثْمًا عِنْدَ
اللَّهِ .
فَإِنَّ الْمُشْرِكَ الْمُقِرَّ بِصِفَاتِ الرَّبِّ
خَيْرٌ مِنَ الْمُعَطِّلِ الْجَاحِدِ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ ، كَمَا أَنَّ مَنْ
أَقَرَّ لِمَلِكٍ بِالْمُلْكِ ، وَلَمْ يَجْحَدْ مُلْكَهُ وَلَا الصِّفَاتِ
الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا الْمُلْكَ ، لَكِنْ جَعَلَ مَعَهُ شَرِيكًا فِي بَعْضِ
الْأُمُورِ ، يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ ، خَيْرٌ مِمَّنْ جَحَدَ صِفَاتِ الْمَلِكِ
وَمَا يَكُونُ بِهِ مَلِكًا ، وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي سَائِرِ الْفِطَرِ
وَالْعُقُولِ .
فَأَيْنَ الْقَدْحُ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَحْدِ
لَهَا ، مِنْ عِبَادَةِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الْمَعْبُودِ الْحَقِّ وَبَيْنَ
الْعَابِدِ ، يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ إِعْظَامًا
لَهُ وَإِجْلَالًا ؟
فَدَاءُ التَّعْطِيلِ هَذَا الدَّاءُ الْعُضَالُ الَّذِي
لَا دَوَاءَ لَهُ ، وَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْ إِمَامِ الْمُعَطِّلَةِ
فِرْعَوْنَ ، أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مُوسَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ رَبَّهُ
فَوْقَ السَّمَاوَاتِ ، فَقَالَ : يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ
الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي
لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [ سُورَةُ غَافِرٍ : 36 - 37 ] .
وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ
فِي كُتُبِهِ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ .
[ ص: 145 ] وَلَقَدْ ذَكَرْنَا لَفْظَهُ فِي غَيْرِ
هَذَا الْكِتَابِ . وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَالشِّرْكُ
مُتَلَازِمَانِ . وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْبِدَعُ الْمُضِلَّةُ جَهْلًا
بِصِفَاتِ اللَّهِ وَتَكْذِيبًا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ
بِهِ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنَادًا
وَجَهْلًا - كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَإِنْ قَصُرَتْ عَنِ الْكُفْرِ وَكَانَتْ
أَحَبَّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنْ كِبَارِ الذُّنُوبِ .
كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : الْبِدْعَةُ أَحَبُّ
إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ : لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا
وَالْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا
.
وَقَالَ إِبْلِيسُ : أَهْلَكْتُ بَنِي آدَمَ بِالذُّنُوبِ
وَأَهْلَكُونِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَبِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَلَمَّا
رَأَيْتُ ذَلِكَ بَثَثْتُ فِيهِمُ الْأَهْوَاءَ ، فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا
يَتُوبُونَ ، لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُذْنِبَ إِنَّمَا ضَرَرُهُ عَلَى
نَفْسِهِ ، وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَضَرَرُهُ عَلَى النَّوْعِ ، وَفِتْنَةُ
الْمُبْتَدِعِ فِي أَصْلِ الدِّينِ ، وَفِتْنَةُ الْمُذْنِبِ فِي الشَّهْوَةِ ،
وَالْمُبْتَدِعُ قَدْ قَعَدَ لِلنَّاسِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ
يَصُدُّهُمْ عَنْهُ ، وَالْمُذْنِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ ، وَالْمُبْتَدِعُ قَادِحٌ
فِي أَوْصَافِ الرَّبِّ وَكَمَالِهِ ، وَالْمُذْنِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ .
وَالْمُبْتَدِعُ يَقْطَعُ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَ
الْآخِرَةِ ، وَالْعَاصِي بَطِيءُ السَّيْرِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ .
فَصْلٌ:
الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُثُمَّ لَمَّا كَانَ الظُّلْمُ
وَالْعُدْوَانُ مُنَافِيَيْنِ لِلْعَدْلِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ
وَالْأَرْضُ ، وَأَرْسَلَ لَهُ سُبْحَانَهُ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِهِ - كَانَ مِنْ
أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَكَانَتْ دَرَجَتُهُ فِي الْعَظَمَةِ بِحَسَبِ
مَفْسَدَتِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَكَانَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ الطِّفْلَ
الصَّغِيرَ الَّذِي لَا ذَنْبَ لَهُ وَقَدْ جَبَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُلُوبَ
عَلَى مَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَطْفِهَا عَلَيْهِمْ ، وَخَصَّ الْوَالِدَيْنِ
مِنْ ذَلِكَ بِمَزِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ ، فَقَتْلُهُ خَشْيَةَ أَنْ يُشَارِكَهُفِي
مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَالِهِ ، مِنْ أَقْبَحِ الظُّلْمِ وَأَشَدِّهِ ، وَكَذَلِكَ
قَتْلُهُ أَبَوَيْهِ اللَّذَيْنِ كَانَا سَبَبَ وُجُودِهِ ، وَكَذَلِكَ قَتْلُهُ
ذَا رَحِمِهِ .
وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ الْقَتْلِ بِحَسَبِ قُبْحِهِ
وَاسْتِحْقَاقِ مَنْ قَتَلَهُ لِلْسَعْيِ فِي إِبْقَائِهِ وَنَصِيحَتِهِ .
وَلِهَذَا كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ .
وَيَلِيهِ مَنْ قَتَلَ إِمَامًا عَادِلًا يَأْمُرُ
النَّاسَ بِالْقِسْطِ ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ ، وَيَنْصَحُهُمْ
[ ص: 146 ] فِي دِينِهِمْ ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءَ قَتْلِ
النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ عَمْدًا الْخُلُودَ فِي النَّارِ ، وَغَضَبَ الْجَبَّارِ وَلَعْنَتَهُ
، وَإِعْدَادَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ لَهُ ، هَذَا مُوجِبُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ
عَمْدًا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْوَاقِعَ بَعْدَ
الْقَتْلِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا مَانِعٌ مِنْ نُفُوذِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ ، وَهَلْ
تَمْنَعُ تَوْبَةُ الْمُسْلِمِ مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهِ ؟ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ
وَالْخَلَفِ ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .
تَوْبَةُ الْقَاتِلِ
وَالَّذِينَ قَالُوا : لَا تَمْنَعُ التَّوْبَةُ مِنْ
نُفُوذِهِ . رَأَوْا أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَمْ يَسْتَوْفِهِ فِي دَارِ
الدُّنْيَا وَخَرَجَ مِنْهُ بِظُلَامَتِهِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْتَوْفَى فِي
دَارِ الْعَدْلِ .
قَالُوا :
وَمَا اسْتَوْفَاهُ الْوَارِثُ إِنَّمَا اسْتَوْفَى
مَحْضَ حَقِّهِ الَّذِي خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ اسْتِيفَائِهِ وَالْعَفْوِ
عَنْهُ ، وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْتُولَ مِنِ اسْتِيفَاءِ وَارِثِهِ ؟ وَأَيُّ اسْتِدْرَاكٍ
لِظُلَامَتِهِ حَصَلَ بِاسْتِيفَاءِ وَارِثِهِ ؟
وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ :
أَنَّ حَقَّ الْمَقْتُولِ لَا يَسْقُطُ بِاسْتِيفَاءِ الْوَارِثِ وَهُمَا
وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا .
وَرَأَتْ طَائِفَةٌ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ
وَاسْتِيفَاءِ الْوَارِثِ ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا ،
وَالذَّنْبُ الَّذِي جَنَاهُ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ .
قَالُوا : وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ تَمْحُو أَثَرَ
الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ ، وَهُمَا أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْقَتْلِ ، فَكَيْفَ
تَقْصُرُ عَنْ مَحْوِ أَثَرِ الْقَتْلِ ؟ وَقَدْ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ
الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ ، وَجَعَلَهُمْ مِنْ خِيَارِ
عِبَادِهِ ، وَدَعَا الَّذِينَ أَحْرَقُوا أَوْلِيَاءَهُ وَفَتَنُوهُمْ عَنْ
دِينِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ ، وَقَالَ تَعَالَى : قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا
[ سُورَةُ الزُّمَرِ : 53 ] فَهَذَا فِي حَقِّ
التَّائِبِ ، وَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَمَا دُونَهُ .
قَالُوا : وَكَيْفَ يَتُوبُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ
وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ ؟ هَذَا مَعْلُومٌ انْتِفَاؤُهُ فِي
شَرْعِ اللَّهِ وَجَزَائِهِ .
قَالُوا
: وَتَوْبَةُ هَذَا الْمُذْنِبِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ ،
وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمَقْتُولِ ، فَأَقَامَ الشَّارِعُ وَلِيَّهُ
مَقَامَهُ وَجَعَلَ تَسْلِيمَ النَّفْسِ إِلَيْهِ كَتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمَقْتُولِ
، بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ لِوَارِثِهِ ، فَإِنَّهُ
يَقُومُ مَقَامَ تَسْلِيمِهِ لِلْمُوَرِّثِ .
وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَتْلَ
يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ
: حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْمَقْتُولِ ، [ ص: 147 ]
وَحَقٌّ لِلْوَلِيِّ ، فَإِذَا سَلَّمَ الْقَاتِلُ نَفْسَهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا
إِلَى الْوَلِيِّ نَدَمًا عَلَى مَا فَعَلَ ، وَخَوْفًا مِنَ اللَّهِ ، وَتَوْبَةً
نَصُوحًا ، سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ ، وَحَقُّ الْوَلِيِّ
بِالِاسْتِيفَاءِ أَوِ الصُّلْحِ أَوِ الْعَفْوِ ، وَبَقِيَ حَقُّ الْمَقْتُولِ
يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ عَبْدِهِ التَّائِبِ
الْمُحْسِنِ ، وَيُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ هَذَا ،
وَلَا تَبْطُلُ تَوْبَةُ هَذَا
.
التَّوْبَةُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَالِ : فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا
، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : إِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ إِلَى الْوَارِثِ
بَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهِ فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا بَرِئَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : بَلِ الْمُطَالَبَةُ لِمَنْ
ظَلَمَهُ بِأَخْذِهِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَهُوَ لَمْ
يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهُ بِأَخْذِ وَارِثِهِ لَهُ ، فَإِنَّهُ مَنَعَهُ مِنِ
انْتِفَاعِهِ بِهِ فِي طُولِ حَيَاتِهِ ، وَمَاتَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ ،
وَهَذَا ظُلْمٌ لَمْ يَسْتَدْرِكْهُ ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ
بِاسْتِدْرَاكِهِ ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوِ انْتَقَلَ مِنْ وَاحِدٍ
إِلَى وَاحِدٍ ، وَتَعَدَّدَ الْوَرَثَةُ ، كَانَتِ الْمُطَالِبَةُ لِلْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ
حَقٌّ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ
كَوْنِهِ هُوَ الْوَارِثَ ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ
وَأَحْمَدَ .
وَفَصَلَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ
الطَّائِفَتَيْنِ ، فَقَالَ : إِنْ تَمَكَّنَ الْمَوْرُوثُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ
وَالْمُطَالَبَةِ بِهِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى مَاتَ ، صَارَتِ الْمُطَالَبَةُ
بِهِ لِلْوَارِثِ فِي الْآخِرَةِ ، كَمَا هِيَ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا ، وَإِنْ
لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ طَلَبِهِ وَأَخْذِهِ ، بَلْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ
ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ، فَالطَّلَبُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ .
وَهَذَا التَّفْصِيلُ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُقَالُ ،
فَإِنَّ الْمَالَ إِذَا اسْتَهْلَكَهُ الظَّالِمُ عَلَى الْمَوْرُوثِ ،
وَتَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنْهُ ، صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ الَّذِي قَتَلَهُ قَاتِلٌ
، وَدَارِهِ الَّتِي أَحْرَقَهَا غَيْرُهُ ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ الَّذِي
أَكَلَهُ وَشَرِبَهُ غَيْرُهُ ، وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا تَلَفَ عَلَى
الْمَوْرُوثِ لَا عَلَى الْوَارِثِ ، فَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِمَنْ تَلَفَ عَلَى
مِلْكِهِ . وَيَبْقَى أَنْ يُقَالَ
: فَإِذَا كَانَ الْمَالُ عَقَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ
أَعْيَانًا قَائِمَةً بَاقِيَةً بَعْدَ الْمَوْتِ فَهِيَ مِلْكُ الْوَارِثِ يَجِبُ
عَلَى الْغَاصِبِ دَفْعُهَا إِلَيْهِ كُلَّوَقْتٍ ، فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ
أَعْيَانَ مَالِهِ اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ،
كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا فِي الدُّنْيَا .
وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ لَا مَخْلَصَ مِنْهُ إِلَّا
بِأَنْ يُقَالَ : الْمُطَالِبَةُ لَهُمَا جَمِيعًا ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مَالًا
مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ ؛ اسْتَحَقَّ كُلٌّ مِنْهُمُ الْمُطَالَبَةَ
لِحَقِّهِ مِنْهُ ، كَمَا لَوِ اسْتَوْلَى عَلَى وَقْفٍ مُرَتَّبٍ عَلَى بُطُونٍ ،
فَأَبْطَلَ حَقَّ الْبُطُونِ كُلِّهِمْ مِنْهُ ، كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ لِجَمِيعِهِمْ ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِهَا مِنْ بَعْضٍ
، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
[ ص: 148
]
فَصْلٌ:
جَرِيمَةُ الْقَتْلِوَلَمَّا كَانَتْ مَفْسَدَةُ
الْقَتْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ
فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا
فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 32 ] .
وَقَدْ أَشْكَلَ فَهْمُ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ
النَّاسِ ، وَقَالَ : مَعْلُومٌ أَنَّ إِثْمَ قَاتِلِ مِائَةٍ أَعْظَمُ عِنْدَ
اللَّهِ مِنْ إِثْمِ قَاتِلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنَّمَا أَتَوْهُ مِنْ ظَنِّهِمْ
أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي مِقْدَارِ الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَةِ ، وَاللَّفْظُ لَمْ
يَدُلَّ عَلَى هَذَا ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْتَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ
أَخْذُهُ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ
.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا
لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [ سُورَةُ النَّازِعَاتِ : 46 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا
يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ [ سُورَةُ الْأَحْقَافِ :
35 ] .
وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنَّ لُبْثَهُمْ فِي الدُّنْيَا
إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْمِقْدَارَ
.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- : مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ ،
وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ ، أَيْ
: مَعَ الْعِشَاءِ كَمَا جَاءَ فِي لَفْظٍ آخَرَ ، وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ
: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ
الدَّهْرَ ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ قَرَأَ
" قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ " فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ ،
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثَوَابَ فَاعِلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمْ يَبْلُغْ ثَوَابَ
الْمُشَبَّهِ بِهِ ، فَيَكُونُ قَدْرُهُمَا سَوَاءً ، وَلَوْ كَانَ قَدْرُ
الثَّوَابِ سَوَاءً لَمْ يَكُنْ لِمُصَلِّي الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ جَمَاعَةً فِي
قِيَامِ اللَّيْلِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ ، وَمَا أُوتِيَ
أَحَدٌ - بَعْدَ الْإِيمَانِ - أَفْضَلَ مِنَ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَفِي أَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ التَّشْبِيهُ
بَيْنَ قَاتِلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَقَاتِلِ النَّاسِ جَمِيعًا ؟
قِيلَ : فِي وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ :
أَحَدُهَا :
أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَالِفٌ لِأَمْرِهِ مُتَعَرِّضٌ
لِعُقُوبَتِهِ ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ
، وَاسْتِحْقَاقِ الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَإِعْدَادِهِ عَذَابًا عَظِيمًا
، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي دَرَجَاتِ الْعَذَابِ ، فَلَيْسَ إِثْمُ مَنْ
قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامًا عَادِلًا أَوْ عَالِمًا يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْقِسْطِ
، كَإِثْمِ مَنْ قَتَلَ مَنْ لَا مَزِيَّةَ لَهُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ .
[ ص: 149 ] الثَّانِي : أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي
اسْتِحْقَاقِ إِزْهَاقِ النَّفْسِ
.
الثَّالِثُ :
أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْجَرَاءَةِ عَلَى سَفْكِ
الدَّمِ الْحَرَامِ ، فَإِنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ ، بَلْ
لِمُجَرَّدِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ، أَوْ لِأَخْذِ مَالِهِ : فَإِنَّهُ
يَجْتَرِئُ عَلَى قَتْلِ كُلِّ مَنْ ظَفَرَ بِهِ وَأَمْكَنَهُ قَتْلُهُ ، فَهُوَ مُعَادٍ
لِلنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ يُسَمَّى قَاتِلًا أَوْ فَاسِقًا
أَوْ ظَالِمًا أَوْ عَاصِيًا بِقَتْلِهِ وَاحِدًا ، كَمَا يُسَمَّى كَذَلِكَ
بِقَتْلِهِ النَّاسَ جَمِيعًا .
وَمِنْهَا
: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي
تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ ، إِذَا
اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ
، فَإِذَا أَتْلَفَ الْقَاتِلُ مِنْ هَذَا الْجَسَدِ عُضْوًا ، فَكَأَنَّمَا أَتْلَفَ
سَائِرَ الْجَسَدِ ، وَآلَمَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ ، فَمَنْ آذَى مُؤْمِنًا
وَاحِدًا فَكَأَنَّمَا آذَى جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَفِي أَذَى جَمِيعِ
الْمُؤْمِنِينَ أَذَى جَمِيعِ النَّاسِ ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنِ
النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ ، فَإِيذَاءُ الْخَفِيرِ إِيذَاءُ
الْمَخْفُورِ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ ، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ
الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ .
وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْوَعِيدُ فِي أَوَّلِ زَانٍ وَلَا
أَوَّلِ سَارِقٍ وَلَا أَوَّلِ شَارِبِ مُسْكِرٍ ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ
الْمُشْرِكِينَ قَدْ يَكُونُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ قَاتِلٍ ؛ لِأَنَّهُ
أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الشِّرْكَ ؛ وَلِهَذَا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ لَحْيٍ الْخُزَاعِيَّ يُعَذَّبُ أَعْظَمَ الْعَذَابِ
فِي النَّارِ ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلَامُ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ
كَافِرٍ بِهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 41 ] .
أَيْ فَيَقْتَدِي بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ ، فَيَكُونُ
إِثْمُ كَفْرِهِ عَلَيْكُمْ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً
فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا .
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : يَجِيءُ
الْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ ،
وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا ، يَقُولُ : يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي ؟
فَذَكَرُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ : وَمَنْ
يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [ سُورَةُ
النِّسَاءِ : 93 ] .
ثُمَّ قَالَ : مَا نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا
بُدِّلَتْ ، وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ ؟ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ
حَسَنٌ .
[ ص: 150
] وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ قَالَ : نَظَرَ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ : مَا أَعْظَمَكِ
وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ ، وَالْمُؤْمِنُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ ،
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ
جُنْدُبٍ قَالَ : أَوَّلُ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ ، فَمَنِ
اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ ، وَمَنِ
اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ
أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ .
وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي
فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا .
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : مِنْ وَرَطَاتِ
الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا : سَفْكُ
الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ
.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ
: سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ .
وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ
، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا .
هَذِهِ عُقُوبَةُ قَاتِلِ عَدُوِّ اللَّهِ إِذَا كَانَ
فِي عَهْدِهِ وَأَمَانِهِ ، فَكَيْفَ عُقُوبَةُ قَاتِلِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ ؟
وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى
مَاتَتْ جُوعًا وَعَطَشًا ، فَرَآهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي النَّارِ وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا فِي وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا ، فَكَيْفَ
عُقُوبَةُ مَنْ حَبَسَ مُؤْمِنًا حَتَّى مَاتَ بِغَيْرِ جُرْمٍ ؟ وَفِي بَعْضِ
السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ
عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ .
فَصْلٌ: جَرِيمَةُ الزِّنَىوَلَمَّا كَانَتْ مَفْسَدَةُ
الزِّنَى مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِمَصْلَحَةِ نِظَامِ
الْعَالَمِ فِي حِفْظِ الْأَنْسَابِ ، وَحِمَايَةِ الْفُرُوجِ ، وَصِيَانَةِ
الْحُرُمَاتِ ، وَتَوَقِّي مَا يُوقِعُ أَعْظَمَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ
بَيْنَ النَّاسِ ، مِنْ إِفْسَادِ كُلٍّ مِنْهُمُ امْرَأَةَ صَاحِبِهِ وَبِنْتِهِ
وَأُخْتِهِ وَأُمِّهِ ، وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الْعَالَمِ ، كَانَتْ تَلِي
مَفْسَدَةَ الْقَتْلِ فِي الْكِبَرِ ، وَلِهَذَا قَرَنَهَا اللَّهُ
سُبْحَانَهُبِهَا فِي كِتَابِهِ ، وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي سُنَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : وَلَا أَعْلَمُ بَعْدَ
قَتْلِ النَّفْسِ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنَ الزِّنَى .
وَقَدْ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ حُرْمَتَهُ بِقَوْلِهِ : [
ص: 151 ] وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ
النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ
يَفْعَلْ ذَلِكَيَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ
فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ [ سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 68 - 70 ] .
فَقَرَنَ الزِّنَى بِالشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ ،
وَجَعَلَ جَزَاءَ ذَلِكَ الْخُلُودَ فِي الْعَذَابِ الْمُضَاعَفِ ، مَا لَمْ يَرْفَعِ
الْعَبْدُ مُوجِبَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ،
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً
وَسَاءَ سَبِيلًا [ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 32 ] .
فَأَخْبَرَ عَنْ فُحْشِهِ فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ
الْقَبِيحُ الَّذِي قَدْ تَنَاهَى قُبْحُهُ حَتَّى اسْتَقَرَّ فُحْشُهُ فِي
الْعُقُولِ حَتَّى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ ، كَمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ
فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ : رَأَيْتُ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا زَنَى بِقِرْدَةٍ ، فَاجْتَمَعَ الْقُرُودُ عَلَيْهِمَا
فَرَجَمُوهُمَا حَتَّى مَاتَا ]
.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ غَايَتِهِ بِأَنَّهُ " سَاءَ
سَبِيلًا " فَإِنَّهُ سَبِيلُ هَلَكَةٍ وَبَوَارٍ وَافْتِقَارٍ فِي
الدُّنْيَا ، وَعَذَابٍ وَخِزْيٍ وَنَكَالٍ فِي الْآخِرَةِ .
وَلَمَّا كَانَ نِكَاحُ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ مِنْ أَقْبَحِهِ
خَصَّهُ بِمَزِيدِ ذَمٍّ ، فَقَالَ : إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ
سَبِيلًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 22
] .
وَعَلَّقَ سُبْحَانَهُ فَلَاحَ الْعَبْدِ عَلَى حِفْظِ
فَرْجِهِ مِنْهُ ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْفَلَاحِ بِدُونِهِ ، فَقَالَ : قَدْ
أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ
عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ إِلَى قَوْلِهِ : فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ : 1 - 7 ] .
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ : أَنَّ مَنْ لَمْ
يَحْفَظْ فَرْجَهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ ، وَأَنَّهُ مِنَ
الْمَلُومِينَ ، وَمِنَ الْعَادِينَ ، فَفَاتَهُ الْفَلَاحُ ، وَاسْتَحَقَّ اسْمَ
الْعُدْوَانِ ، وَوَقَعَ فِي اللَّوْمِ ، فَمُقَاسَاةُ أَلَمِ الشَّهْوَةِ
وَمُعَانَاتُهَا أَيْسَرُ مِنْ بَعْضِ ذَلِكَ .
وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ ذَمَّ الْإِنْسَانَ ، وَأَنَّهُ
خُلِقَ هَلُوعًا لَا يَصْبِرُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ ، [ ص: 152 ] بَلْ إِذَا
مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنَعَ وَبَخِلَ ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزِعَ ، إِلَّا
مَنِ اسْتَثْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاجِينَ مِنْ خَلْقِهِ ، فَذَكَرَ
مِنْهُمْ : وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ
أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ [ سُورَةُ الْمَعَارِجِ : 29 - 31 ] .
فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَأْمُرَ
الْمُؤْمِنِينَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِمْ ، وَحِفْظِ فُرُوجِهِمْ ، وَأَنْ
يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ مُشَاهِدٌ لِأَعْمَالِهِمْ ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا ، يَعْلَمُ
خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 19 ] .
وَلَمَّا كَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ
جُعِلَ الْأَمْرُ بِغَضِّهِ مُقَدَّمًا عَلَى حِفْظِ الْفَرْجِ ، فَإِنَّ
الْحَوَادِثَ مَبْدَؤُهَا مِنَ الْبَصَرِ ، كَمَا أَنَّ مُعْظَمَ النَّارِ مِنْ
مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ ، فَتَكُونُ نَظْرَةٌ ، ثُمَّ تَكُونُ خَطْرَةٌ ، ثُمَّ
خُطْوَةٌ ، ثُمَّ خَطِيئَةٌ .
وَلِهَذَا قِيلَ : مَنْ حَفِظَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ
أَحْرَزَ دِينَهُ : اللَّحَظَاتِ ، وَالْخَطَرَاتِ ، وَاللَّفَظَاتِ ،
وَالْخُطُوَاتِ .
فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ بَوَّابَ نَفْسِهِ
عَلَى هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ ، وَيُلَازِمَ الرِّبَاطَ عَلَى
ثُغُورِهَا ، فَمِنْهَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ ، فَيَجُوسُ خِلَالَ
الدِّيَارِ وَيُتَبِّرُ مَا عَلَا تَتْبِيرًا .
فَصْلٌ:
مَدْخَلُ الْمَعَاصِي (مَدْخَلُ النَّظْرَة)وَأَكْثَرُ
مَا تَدْخُلُ الْمَعَاصِي عَلَى الْعَبْدِ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ
، فَنَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا فَصْلًا يَلِيقُ بِهِ .
**************************** النَّظْرَةُ **********************************
فَأَمَّا اللَّحَظَاتُ : فَهِيَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ
وَرَسُولُهَا ، وَحِفْظُهَا أَصْلُ حِفْظِ الْفَرْجِ ، فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ
أَوْرَدَ نَفْسَهُ مَوَارِدَ الْمُهْلِكَاتِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- : لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ ، فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ
لَكَ الْأُخْرَى .
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ
عَنْ مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ لِلَّهِ ، أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلَاوَةً إِلَى
يَوْمِ يَلْقَاهُ هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ .
[ ص: 153 ] وَقَالَ : غُضُّوا أَبْصَارَكُمْ ،
وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ ، وَقَالَ : إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ
، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَجَالِسُنَا مَا لَنَا بُدٌّ مِنْهَا ، قَالَ :
فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ ، قَالُوا
: وَمَا حَقُّهُ ؟ قَالَ : غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ .
وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي
تُصِيبُ الْإِنْسَانَ ، فَالنَّظْرَةُ تُوَلِّدُ خَطْرَةً ، ثُمَّ تُوَلِّدُ
الْخَطْرَةُ فِكْرَةً ، ثُمَّ تُوَلِّدُ الْفِكْرَةُ شَهْوَةً ، ثُمَّ تُوَلِّدُ
الشَّهْوَةُ إِرَادَةً ، ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً ، فَيَقَعُ
الْفِعْلُ وَلَا بُدَّ ، مَا لَمْ يَمْنَعْمِنْهُ مَانِعٌ ، وَفِي هَذَا قِيلَ :
الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ أَيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمِ مَا
بَعْدَهُ .
قَالَ الشَّاعِرُ :
كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ ***
وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ
كَمْ نَظْرَةٌ بَلَغَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا ***
كَمَبْلَغِ السَّهْمِ بَيْنَ الْقَوْسِ وَالْوَتَرِ
وَالْعَبْدُ مَا دَامَ ذَا طَرْفٍ يُقَلِّبُهُ *** فِي
أَعْيُنِ الْعِينِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ
يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ *** لَا
مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ
وَمِنْ آفَاتِ النَّظَرِ : أَنَّهُ يُورِثُ الْحَسَرَاتِ
وَالزَّفَرَاتِ وَالْحَرَقَاتِ ، فَيَرَى الْعَبْدُ مَا لَيْسَ قَادِرًا عَلَيْهِ
وَلَا صَابِرًا عَنْهُ ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَذَابِ ، أَنْ تَرَى مَا لَا صَبْرَ
لَكَ عَنْ بَعْضِهِ ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى بَعْضِهِ .
قَالَ الشَّاعِرُ :
وَكُنْتُ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا ***
لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ
رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ ***
عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ
وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ ، وَمُرَادُهُ
: أَنَّكَ تَرَى مَا لَا تَصْبِرُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ ،
فَإِنَّ قَوْلَهُ : " لَا كُلُّهُأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ " نَفْيٌ
لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْكُلِّ الَّذِي لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ
عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ . وَكَمْ مَنْ أَرْسَلَ لَحَظَاتِهِ فَمَا قَلَعَتْ
إِلَّا وَهُوَ يَتَشَحَّطُ بَيْنَهُنَّ قَتِيلًا ، كَمَا قِيلَ :
يَا نَاظِرًا مَا أَقْلَعَتْ لَحَظَاتُهُ *** حَتَّى
تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلَا
وَلِي مِنْ أَبْيَاتٍ :
مَلَّ السَّلَامَةَ فَاغْتَدَتْ لَحَظَاتُهُ *** وَقْفًا
عَلَى طَلَلٍ يَظُنُّ جَمِيلًا
مَا زَالَ يُتْبِعُ إِثْرَهُ لَحَظَاتِهِ *** حَتَّى تَشَحَّطَ
بَيْنَهُنَّ قَتِيلًا
[ ص: 154 ] وَمِنَ الْعَجَبِ : أَنَّ لَحْظَةَ
النَّاظِرِ سَهْمٌ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ حَتَّى يَتَبَوَّأَ
مَكَانًا مِنْ قَلْبِ النَّاظِرِ ، وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ
يَا رَامِيًا بِسِهَامِ اللَّحْظِ مُجْتَهِدًا *** أَنْتَ
الْقَتِيلُ بِمَا تَرْمِي فَلَا تُصِبِ
يَا بَاعِثَ الطَّرْفِ يَرْتَادُ الشِّفَاءَ لَهُ ***
احْبِسْ رَسُولَكَ لَا يَأْتِيكَ بِالْعَطَبِ
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ : أَنَّ النَّظْرَةَ تَجْرَحُ
الْقَلْبَ جُرْحًا ، فَيَتْبَعُهَا جُرْحٌ عَلَى جُرْحٍ ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُهُ
أَلَمُ الْجِرَاحَةِ مِنِ اسْتِدْعَاءِ تَكْرَارِهَا ، وَلِي أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى :
مَا زِلْتَ تُتْبِعُ نَظْرَةً فِي نَظْرَةٍ *** فِي
إِثْرِ كُلِّ مَلِيحَةٍ وَمَلِيحِ
وَتَظُنُّ ذَاكَ دَوَاءَ جُرْحِكَ وَهُوَ فِي ***
الْتَحْقِيقِ تَجْرِيحٌ عَلَى تَجْرِيحِ
فَذَبَحْتَ طَرْفَكَ بِاللِّحَاظِ وَبِالْبُكَا ***
فَالْقَلْبُ مِنْكَ ذَبِيحٌ أَيُّ ذَبِيحِ
وَقَدْ قِيلَ : إِنَّ حَبْسَ اللَّحَظَاتِ أَيْسَرُ مِنْ
دَوَامِ الْحَسَرَاتِ .
فَصْلٌ:
مَدْخَلُ الْمَعَاصِي (مَدْخَلُ الْخَطَرَة)وَأَمَّا
الْخَطَرَاتُ : فَشَأْنُهَا أَصْعَبُ ، فَإِنَّهَا مَبْدَأُ الْخَيْرِ
وَالشَّرِّ ، وَمِنْهَا تَتَوَلَّدُ الْإِرَادَاتُ وَالْهِمَمُ وَالْعَزَائِمُ ،
فَمَنْ رَاعَى خَطَرَاتِهِ مَلَكَ زِمَامَ نَفْسِهِ وَقَهَرَ هَوَاهُ ، وَمَنْ غَلَبَتْهُ
خَطَرَاتُهُ فَهَوَاهُ وَنَفْسُهُ لَهُ أَغْلَبُ ، وَمَنِ اسْتَهَانَ
بِالْخَطَرَاتِ قَادَتْهُ قَهْرًا إِلَى الْهَلَكَاتِ ، وَلَا تَزَالُ
الْخَطَرَاتُ تَتَرَدَّدُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى تَصِيرَ مُنًى بَاطِلَةً .
كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى
إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [ سُورَةُ النُّورِ : 39 ] .
وَأَخَسُّ النَّاسِ هِمَّةً وَأَوْضَعُهُمْ نَفْسًا ،
مَنْ رَضِيَ مِنَ الْحَقَائِقِ بِالْأَمَانِي الْكَاذِبَةِ ، وَاسْتَجْلَبَهَا
لِنَفْسِهِ وَتَجَلَّى بِهَا ، وَهِيَ لَعَمْرُ اللَّهِ رُءُوسُ أَمْوَالِ
الْمُفْلِسِينَ ، وَمَتَاجِرُ الْبَطَّالِينَ ، وَهِيَ قُوتُ النَّفْسِ
الْفَارِغَةِ ، الَّتِي قَدْ قَنَعَتْ مِنَ الْوَصْلِبِزَوْرَةِ الْخَيَالِ ،
وَمِنَ الْحَقَائِقِ بِكَوَاذِبِ الْآمَالِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
أَمَانِيَّ مِنْ سُعْدَى رِوَاءٌ عَلَى الظَّمَا
سَقَتْنَا بِهَا سُعْدَى عَلَى ظَمَأٍ بَرْدَا مُنًى إِنْ تَكُنْ حَقًّا تَكُنْ
أَحْسَنَ الْمُنَى
وَإِلَّا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنًا رَغْدَا
وَهِيَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ ،
وَيَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْعَجْزُ وَالْكَسَلُ ، وَتُوَلِّدُ التَّفْرِيطَ
وَالْحَسْرَةَ [ ص: 155 ] وَالنَّدَمَ ، وَالْمُتَمَنِّي لَمَّا فَاتَتْهُ مُبَاشَرَةُ
الْحَقِيقَةِ بِجِسْمِهِ حَوَّلَ صُورَتَهَا فِي قَلْبِهِ ، وَعَانَقَهَا
وَضَمَّهَا إِلَيْهِ ، فَقَنَعَبِوِصَالِ صُورَةٍ وَهْمِيَّةٍ خَيَالِيَّةٍ
صَوَّرَهَا فِكْرُهُ .
وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا مَثَلُهُ
مَثَلُ الْجَائِعِ وَالظَّمْآنِ ، يُصَوِّرُ فِي وَهْمِهِ صُورَةَ الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ ، وَهُوَ لَا يَأْكُلُ وَلَا وَيَشْرَبُ .
وَالسُّكُونُ إِلَى ذَلِكَ وَاسْتِجْلَابُهُ يَدُلُّ
عَلَى خَسَارَةِ النَّفْسِ وَوَضَاعَتِهَا ، وَإِنَّمَا شَرَفُ النَّفْسِ
وَزَكَاؤُهَا ، وَطَهَارَتُهَا وَعُلُوُّهَا بِأَنْ يَنْفِيَ عَنْهَا كُلَّ
خَطْرَةٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا ، وَلَا يَرْضَى أَنْ يُخْطِرَهَا بِبَالِهِ ،
وَيَأْنَفَ لِنَفْسِهِ مِنْهَا
.
ثُمَّ الْخَطَرَاتُ بَعْدُ أَقْسَامٌ تَدُورُ عَلَى
أَرْبَعَةِ أُصُولٍ :
خَطَرَاتٌ يَسْتَجْلِبُ بِهَا الْعَبْدُ مَنَافِعَ
دُنْيَاهُ .
وَخَطَرَاتٌ يَسْتَدْفِعُ بِهَا مَضَارَّ دُنْيَاهُ .
وَخَطَرَاتٌ يَسْتَجْلِبُ بِهَا مَصَالِحَ آخِرَتِهِ .
وَخَطَرَاتٌ يَسْتَدْفِعُ بِهَا مَضَارَّ آخِرَتِهِ .
فَلْيَحْصُرِ الْعَبْدُ خَطَرَاتِهِ وَأَفْكَارَهُ
وَهُمُومَهُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ ، فَإِذَا انْحَصَرَتْ لَهُ
فِيهَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُ مِنْهَا وَلَمْ يَتْرُكْهُ لِغَيْرِهِ ، وَإِذَا
تَزَاحَمَتْ عَلَيْهِ الْخَطَرَاتُ لِتَزَاحُمِ مُتَعَلِّقَاتِهَا ، قَدَّمَ
الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ الَّذِي يَخْشَى فَوْتَهُ ، وَأَخَّرَ الَّذِي لَيْسَ بِأَهَمَّ
وَلَا يَخَافُ فَوْتَهُ .
بَقِيَ قِسْمَانِ آخَرَانِ :
أَحَدُهُمَا : مُهِمٌّ لَا يَفُوتُ .
وَالثَّانِي : غَيْرُ مُهِمٍّ وَلَكِنَّهُ يَفُوتُ .
فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَدْعُو إِلَى تَقْدِيمِهِ ،
فَهُنَا يَقَعُ التَّرَدُّدُ وَالْحَيْرَةُ ، فَإِنْ قَدَّمَ الْمُهِمَّ ؛ خَشِيَ
فَوَاتَ مَا دُونَهُ ، وَإِنْ قَدَّمَ مَا دُونَهُ فَاتَهُ الِاشْتِغَالُ بِهِ
عَنِ الْمُهِمِّ ، وَكَذَلِكَ يَعْرِضُ لَهُ أَمْرَانِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا
، وَلَا يَحْصُلُ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِتَفْوِيتِ الْآخَرِ .
فَهُوَ مَوْضِعُ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَالْفِقْهِ
وَالْمَعْرِفَةِ ، وَمِنْ هَاهُنَا ارْتَفَعَ مَنِ ارْتَفَعَ وَأَنْجَحَ مَنْ
أَنْجَحَ ، وَخَابَ مَنْ خَابَ ، فَأَكْثَرُ مَنْ تَرَى مِمَّنْ يَعْظُمُ عَقْلُهُ
وَمَعْرِفَتُهُ ، يُؤْثِرُ غَيْرَ الْمُهِمِّ الَّذِي لَا يَفُوتُ عَلَى الْمُهِمِّ
الَّذِي يَفُوتُ ، وَلَا تَجِدُ أَحَدًا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ
مُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ .
وَالتَّحْكِيمُ فِي هَذَا الْبَابِ لِلْقَاعِدَةِ
الْكُبْرَى الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ ، وَإِلَيْهَا
مَرْجِعُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ ، وَهِيَ إِيثَارُ أَكْبَرِ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَأَعْلَاهُمَا
، وَإِنْ فَاتَتِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي هِيَ دُونَهَا ، وَالدُّخُولُ فِي أَدْنَى
الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا .
[ ص: 156
] فَيُفَوِّتُ مَصْلَحَةً لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَكْبَرُ
مِنْهَا ، وَيَرْتَكِبُ مَفْسَدَةً لِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا .
خَطَرَاتُ الْعَاقِلِ
فَخَطَرَاتُ الْعَاقِلِ وَفِكْرُهُ لَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ
، وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الشَّرَائِعُ ، وَمَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا
تَقُومُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ ، وَأَعْلَى الْفِكَرِ وَأَجَلُّهَا وَأَنْفَعُهَا :
مَا كَانَ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ ، فَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ أَنْوَاعٌ :
أَحَدُهَا : الْفِكْرَةُ فِي آيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَتَعَقُّلُهَا
، وَفَهْمُهَا وَفَهْمُ مُرَادِهِ مِنْهَا ، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ
تَعَالَى ، لَا لِمُجَرَّدِ تِلَاوَتِهَا ، بَلِ التِّلَاوَةُ وَسِيلَةٌ .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : أُنْزِلَ الْقُرْآنُ
لِيُعْمَلَ بِهِ ، فَاتَّخَذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا .
الثَّانِي :
الْفِكْرَةُ فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ وَالِاعْتِبَارُ
بِهَا ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ ، وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ
، وَبِرِّهِ وَجُودِهِ ، وَقَدْ حَضَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ عَلَى
التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِهِ وَتَدَبُّرِهَا وَتَعَقُّلِهَا ، وَذَمَّ الْغَافِلَ
عَنْ ذَلِكَ .
الثَّالِثُ : الْفِكْرَةُ فِي آلَائِهِ وَإِحْسَانِهِ ،
وَإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ
وَمَغْفِرَتِهِ وَحِلْمِهِ .
وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ تَسْتَخْرِجُ مِنَ
الْقَلْبِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَخَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ . وَدَوَامُ
الْفِكْرَةِ فِي ذَلِكَ مَعَ الذِّكْرِ يَصْبُغُ الْقَلْبَ فِي الْمَعْرِفَةِ
وَالْمَحَبَّةِ صِبْغَةً تَامَّةً
.
الرَّابِعُ : الْفِكْرَةُ فِي عُيُوبِ النَّفْسِ وَآفَاتِهَا
، وَفِي عُيُوبِ الْعَمَلِ ، وَهَذِهِ الْفِكْرَةُ عَظِيمَةُ النَّفْعِ ، وَهَذَا
بَابٌ لِكُلِّ خَيْرٍ ، وَتَأْثِيرُهَا فِي كَسْرِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ
بِالسُّوءِ ، وَمَتَى كُسِرَتْ عَاشَتِ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَانْبَعَثَتْ
وَصَارَ الْحُكْمُ لَهَا ، فَحَيِيَ الْقَلْبُ ، وَدَارَتْ كَلِمَتُهُ فِي
مَمْلَكَتِهِ ، وَبَثَّ أُمَرَاءَهُ وَجُنُودَهُ فِي مَصَالِحِهِ .
الْخَامِسُ : الْفِكْرَةُ فِي وَاجِبِ الْوَقْتِ
وَوَظِيفَتِهِ وَجَمْعُ الْهَمِّ كُلِّهِ عَلَيْهِ ، فَالْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ
، فَإِنْ أَضَاعَهُ ضَاعَتْ عَلَيْهِمَصَالِحُهُ كُلُّهَا ، فَجَمِيعُ الْمَصَالِحِ
إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنَ الْوَقْتِ ، وَإِنْ ضَيَّعَهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْهُ أَبَدًا .
قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : "
صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْهُمْ سِوَى حَرْفَيْنِ :
أَحَدُهُمَا قَوْلُهُمْ : الْوَقْتُ سَيْفٌ ، فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ " .
وَذَكَرَ الْكَلِمَةَ الْأُخْرَى : " وَنَفْسُكَ
إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ " .
فَوَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ ،
وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ ، وَمَادَّةُ
الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ ، وَهُوَ يَمُرُّ أَسْرَعَ مِنَ
السَّحَابِ ، فَمَا كَانَ مِنْ وَقْتِهِ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ [ ص: 157 ] فَهُوَ
حَيَاتُهُ وَعُمُرُهُ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَيَاتِهِ ،
وَإِنْ عَاشَ فِيهِ عَاشَ عَيْشَ الْبَهَائِمِ ، فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ فِي
الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ ، وَكَانَ خَيْرَ مَا
قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ وَالْبِطَالَةُ ، فَمَوْتُ هَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ
حَيَاتِهِ .
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ -
لَيْسَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا فَلَيْسَ لَهُ مِنْ
عُمُرِهِ إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ .
وَمَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامِ مِنَ الْخَطَرَاتِ
وَالْفِكَرِ ، فَإِمَّا وَسَاوِسُ شَيْطَانِيَّةٌ وَإِمَّا أَمَانِيُّ بَاطِلَةٌ ،
وَخِدَعٌ كَاذِبَةٌ ، بِمَنْزِلَةِ خَوَاطِرِ الْمُصَابِينَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ السُّكَارَى
وَالْمَحْشُوشِينَ وَالْمُوَسْوِسِينَ ، وَلِسَانُ حَالِ هَؤُلَاءِ يَقُولُ عِنْدَ
انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ :
إِنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحَشْرِ عِنْدَكُمْ ***
مَا قَدْ لَقِيتُ فَقَدْ ضَيَّعْتُ أَيَّامِي
أُمْنِيَّةٌ ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا ***
وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامِ
وَاعْلَمْ أَنَّ وُرُودَ الْخَاطِرِ لَا يَضُرُّ ،
وَإِنَّمَا يَضُرُّ اسْتِدْعَاؤُهُ وَمُحَادَثَتُهُ ، فَالْخَاطِرُ كَالْمَارِّ
عَلَى الطَّرِيقِ ، فَإِنْ تَرَكْتَهُ مَرَّ وَانْصَرَفَ عَنْكَ ، وَإِنِ اسْتَدْعَيْتَهُ
سَحَرَكَ بِحَدِيثِهِ وَغُرُورِهِ ، وَهُوَ أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ
الْفَارِغَةِ الْبَاطِلَةِ ، وَأَثْقَلُ شَيْءٍ عَلَى الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ
الشَّرِيفَةِ السَّمَاوِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ .
وَقَدْ رَكَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْإِنْسَانِ
نَفْسَيْنِ : نَفْسًا أَمَّارَةً وَنَفْسًا مُطْمَئِنَّةً ، وَهُمَا
مُتَعَادِيَتَانِ ، فَكُلُّ مَا خَفَّ عَلَى هَذِهِ ثَقُلَ عَلَى هَذِهِ ، وَكُلُّ
مَا الْتَذَّتْ بِهِ هَذِهِ تَأَلَّمَتْ بِهِ الْأُخْرَى ، فَلَيْسَ عَلَى
النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ أَشَقُّ مِنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَإِيثَارِ رِضَاهُ عَلَى
هَوَاهَا ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْفَعُ مِنْهُ ، وَلَيْسَ عَلَى النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ
أَشَقُّ مِنَ الْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَمَا جَاءَ بِهِ دَاعِي الْهَوَى .
وَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ أَضَرُّ مِنْهُ ، وَالْمَلَكُ
مَعَ هَذِهِ عَنْ يَمْنَةِ الْقَلْبِ ، وَالشَّيْطَانُ مَعَ تِلْكَ عَنْ يَسْرَةِ
الْقَلْبِ ، وَالْحُرُوبُ مُسْتَمِرَّةٌ لَا تَضَعُ أَوْزَارَهَا إِلَّا أَنْ
يُسْتَوْفَى أَجَلُهَا مِنَ الدُّنْيَا ، وَالْبَاطِلُ كُلُّهُ يَتَحَيَّزُ مَعَ
الشَّيْطَانِ وَالْأَمَّارَةِ ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ يَتَحَيَّزُ مَعَ الْمَلَكِ
وَالْمُطْمَئِنَّةِ ، وَالْحَرْبُ دُوَلٌ وَسِجَالٌ ، وَالنَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ
، وَمَنْ صَبَرَ وَصَابَرَ وَرَابَطَ وَاتَّقَى اللَّهَ فَلَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمًا لَا يُبَدَّلُ أَبَدًا :
أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى ، وَالْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ، فَالْقَلْبُ
لَوْحٌ فَارِغٌ ، وَالْخَوَاطِرُ نُقُوشٌ تُنْقَشُ فِيهِ ، فَكَيْفَ يَلِيقُ
بِالْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ نُقُوشُ لَوْحِهِ مَا بَيْنَ كَذِبٍ وَغُرُورٍ وَخُدَعٍ
، وَأَمَانِيِّ بَاطِلَةٍ ، وَسَرَابٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ ؟ فَأَيُّ حِكْمَةٍ
وَعِلْمٍ وَهُدًى يَنْتَقِشُ مَعَ هَذِهِ النُّقُوشِ ؟ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ
يَنْتَقِشَ ذَلِكَ فِي لَوْحِ قَلْبِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ
فِي مَحِلٍّ مَشْغُولٍ بِكِتَابَةِ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ
يُفْرِغِ الْقَلْبَ مِنَ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيَّةِ ، لَمْ تَسْتَقِرَّ فِيهِ
الْخَوَاطِرُ النَّافِعَةُ ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا فِي مَحِلٍّ
فَارِغٍ ، كَمَا قِيلَ
[ ص: 158
]
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ****
فَصَادَفَ قَلْبًا فَارِغًا فَتَمَكَّنَا
وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ بَنَوْا
سُلُوكَهُمْ عَلَى حِفْظِ الْخَوَاطِرِ ، وَأَنْ لَا يُمَكِّنُوا خَاطِرًا
يَدْخُلُ قُلُوبَهُمْ حَتَّى تَصِيرَ الْقُلُوبُ فَارِغَةً قَابِلَةً لِلْكَشْفِ
وَظُهُورِ حَقَائِقِ الْعُلْوِيَّاتِ فِيهَا ، وَهَؤُلَاءِ حَفِظُوا شَيْئًا وَغَابَتْ
عَنْهُمْ أَشْيَاءُ ، فَإِنَّهُمْ أَخْلَوُا الْقُلُوبَ مِنْ أَنْ يَطْرُقَهَا
خَاطِرٌ فَبَقِيَتْ فَارِغَةً لَا شَيْءَ فِيهَا ، فَصَادَفَهَا الشَّيْطَانُ
خَالِيَةً ، فَبَذَرَ فِيهَا الْبَاطِلَ فِي قَوَالِبَ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهَا
أَعْلَى الْأَشْيَاءِ وَأَشْرَفُهَا ، وَعَوَّضَهُمْ بِهَا عَنِ الْخَوَاطِرِ
الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى ، وَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ عَنْ
هَذِهِ الْخَوَاطِرِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَوَجَدَ الْمَحِلَّ خَالِيًا ،
فَيَشْغَلُهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ صَاحِبِهِ ، حَيْثُ لَمْ يَسْتَطِعْأَنْ
يَشْغَلَهُ بِالْخَوَاطِرِ السُّفْلِيَّةِ ، فَشَغَلَهُ بِإِرَادَةِ التَّجْرِيدِ
وَالْفَرَاغِ مِنَ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا صَلَاحَ لِلْعَبْدِ وَلَا فَلَاحَ
إِلَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُسْتَوْلِيَةَ عَلَى قَلْبِهِ ، وَهِيَ إِرَادَةُ
مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَشُغْلُالْقَلْبِ
وَاهْتِمَامُهُ بِمَعْرِفَتِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ بِهِ ، وَالْقِيَامِ بِهِ ،
وَتَنْفِيذِهِ فِي الْخَلْقِ ، وَالتَّطَرُّقِ إِلَى ذَلِكَ ، وَالتَّوَسُّلِ
إِلَيْهِ بِالدُّخُولِ فِي الْخَلْقِ لِتَنْفِيذِهِ ، فَيُضِلُّهُمُ الشَّيْطَانُ
عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ دَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِهِ وَتَعْطِيلِهِ مِنْ بَابِ
الزُّهْدِفِي خَوَاطِرِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا .
وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ كَمَالَهُمْ فِي ذَلِكَ
التَّجْرِيدِ وَالْفَرَاغِ ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ ، إِنَّمَا الْكَمَالُ فِي
امْتِلَاءِ الْقَلْبِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْفِكْرِ فِي
تَحْصِيلِ مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ وَمِنَ النَّاسِ ،
وَالْفِكْرِ فِي طُرُقِ ذَلِكَ وَالتَّوَصُّلِ إِلَيْهِ ، فَأَكْمَلُ النَّاسِ
أَكْثَرُهُمْ خَوَاطِرَ وَفِكْرًا وَإِرَادَاتٍ لِذَلِكَ ، كَمَا أَنَّ أَنْقَصَ
النَّاسِ أَكْثَرُهُمْ خَوَاطِرَ وَفِكْرًا وَإِرَادَاتٍ لِحُظُوظِهِ وَهَوَاهُ
أَيْنَ كَانَتْ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- كَانَتْ تَتَزَاحَمُ عَلَيْهِ الْخَوَاطِرُ فِي مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى ،
فَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهَا فِي صَلَاتِهِ ، فَكَانَ يُجَهِّزُ جَيْشَهُ وَهُوَ فِي
الصَّلَاةِ ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ ، وَهَذَا
مِنْ بَابِ تَدَاخُلِ الْعِبَادَاتِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَهُوَ مِنْ
بَابٍ عَزِيزٍ شَرِيفٍ ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَّا صَادِقٌ حَاذِقُ الطَّلَبِ ،
مُتَضَلِّعٌ مِنَ الْعِلْمِ ، عَالِي الْهِمَّةِ ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِي
عِبَادَةٍ يَظْفَرُ فِيهَا بِعِبَادَاتٍ شَتَّى ، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ .
فَصْلٌ: مَدْخَلُ الْمَعَاصِي (مَدْخَلُ اللَّفَظَة)وَأَمَّا
اللَّفَظَاتُ : فَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا يُخْرِجَ لَفْظَةً ضَائِعَةً ، بَلْ لَا
يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو فِيهِ الرِّبْحَ وَالزِّيَادَةَ فِي دِينِهِ ،
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ نَظَرَ : هَلْ فِيهَا رِبْحٌ
وَفَائِدَةٌ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ أَمْسَكَ عَنْهَا ،
وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ ، نَظَرَ : هَلْ تَفُوتُهُ بِهَا كَلِمَةٌ أَرْبَحُ مِنْهَا
، فَلَا يُضَيِّعُهَا بِهَذِهِ ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَدِلَّ عَلَى مَا فِي
الْقَلْبِ ، فَاسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُكَ
عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ ، شَاءَ صَاحِبُهُ أَمْ أَبَى .
[ ص: 159 ] قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ : الْقُلُوبُ
كَالْقُدُورِ تَغْلِي بِمَا فِيهَا ، وَأَلْسِنَتُهَا مَغَارِفُهَا ، فَانْظُرْ
إِلَى الرَّجُلِ حِينَ يَتَكَلَّمُ فَإِنَّ لِسَانَهُ يَغْتَرِفُ لَكَ بِمَا فِي
قَلْبِهِ ، حُلْوٌ وَحَامِضٌ ، وَعَذْبٌ وَأُجَاجٌ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ ،
وَيُبَيِّنُ لَكَ طَعْمَ قَلْبِهِ اغْتِرَافُ لِسَانِهِ ، أَيْ كَمَا تَطْعَمُ بِلِسَانِكَطَعْمَ
مَا فِي الْقُدُورِ مِنَ الطَّعَامِ فَتُدْرِكُ الْعِلْمَ بِحَقِيقَتِهِ ،
كَذَلِكَ تَطْعَمُ مَا فِي قَلْبِ الرَّجُلِ مِنْ لِسَانِهِ ، فَتَذُوقُ مَا فِي
قَلْبِهِ مِنْ لِسَانِهِ ، كَمَا تَذُوقُ مَا فِي الْقِدْرِ بِلِسَانِكَ .
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ : لَا يَسْتَقِيمُ
إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى
يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ .
وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ ؟ فَقَالَ : الْفَمُ
وَالْفَرْجُ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَقَدْ سَأَلَ مُعَاذٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُهُ
مِنَ النَّارِ ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بِرَأْسِهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ ، ثُمَّ قَالَ : أَلَا أُخْبِرُكَ
بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قَالَ : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَخَذَ
بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ : كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا ، فَقَالَ : وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ
بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ ؟ فَقَالَ : ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ ، وَهَلْ
يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا
حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ ؟ قَالَ التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ
التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَى
وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ ، حَتَّى
تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ ، وَهُوَ
يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ،
يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
، وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ ،
وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ ، وَلَا يُبَالِي
مَا يَقُولُ .
وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ ذَلِكَ فَانْظُرْ فِيمَا
رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ
: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : قَالَ رَجُلٌ :
وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : مَنْ
ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنِّي لَا أَغْفِرُ لِفُلَانٍ ؟ قَدْ غَفَرْتُ لَهُ
وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ فَهَذَا الْعَابِدُ الَّذِي قَدْ عَبَدَ اللَّهَ مَا شَاءَ
أَنْ يَعْبُدَهُ ، أَحْبَطَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ عَمَلَهُ كُلَّهُ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ذَلِكَ ، ثُمَّ
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ الْعَبْدَ
لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ؛
يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ
بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ [ ص: 160 ] لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا ؛ يَهْوِي
بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ : إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ
بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ
مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
.
وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ
الْمُزَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ
أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ
تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ
يَلْقَاهُ ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ
مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا
سَخَطَهُإِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ : كَمْ مِنْ كَلَامٍ
قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ .
وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ
أَنَسٍ قَالَ : تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ، فَقَالَ رَجُلٌ : أَبْشِرْ
بِالْجَنَّةِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
وَمَا يُدْرِيكَ ؟ لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ، أَوْ بَخِلَ بِمَا
لَا يُنْقِصُهُ قَالَ : حَدِيثٌ حَسَنٌ
.
وَفِي لَفْظٍ : أَنَّ غُلَامًا اسْتُشْهِدَ يَوْمَ
أُحُدٍ ، فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنَ الْجُوعِ ،
فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَتْ : هَنِيئًا لَكَ يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ
، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : وَمَا يُدْرِيكِ ؟
لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ، وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ
يَرْفَعُهُ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ، فَلْيَقُلْ
خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ .
وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِذَا شَهِدَ أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ أَوْ
لِيَسْكُتْ .
وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ
مَا لَا يَعْنِيهِ .
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ
قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا
أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ ، قَالَ : قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ
اسْتَقِمْ ، قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ ؟
فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ .
وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قَالَ : كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ
أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ ، أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ
التِّرْمِذِيُّ : حَدِيثٌ حَسَنٌ
.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : إِذَا أَصْبَحَ الْعَبْدُ ،
فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ ، تَقُولُ : اتَّقِ اللَّهَ فِينَا
فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ ، فَإِذَا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا ، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ
اعْوَجَجْنَا .
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُحَاسِبُ أَحَدُهُمْ
نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ : يَوْمٌ حَارٌّ ، وَيَوْمٌ بَارِدٌ .
وَلَقَدْ رُئِيَ بَعْضُ [ ص: 161 ] الْأَكَابِرِ مِنْ
أَهْلِ الْعِلْمِ فِي النَّوْمِ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ ، فَقَالَ : أَنَا
مَوْقُوفٌ عَلَى كَلِمَةٍ قُلْتُهَا ، قُلْتُ : مَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَى
غَيْثٍ ، فَقِيلَ لِي : وَمَا يُدْرِيكَ ؟ أَنَا أَعْلَمُ بِمَصْلَحَةِ عِبَادِي .
وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِجَارِيَتِهِ يَوْمًا :
هَاتِي السُّفْرَةَ نَعْبَثُ بِهَا ، ثُمَّ قَالَ : أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ، مَا
أَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا وَأَنَا أَخْطُمُهَا وَأَزُمُّهَا إِلَّا هَذِهِ
الْكَلِمَةَ خَرَجَتْ مِنِّي بِغَيْرِ خِطَامٍ وَلَا زِمَامٍ ، أَوْ كَمَا قَالَ .
وَأَيْسَرُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ حَرَكَةُ اللِّسَانِ
وَهِيَ أَضَرُّهَا عَلَى الْعَبْدِ
.
وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ هَلْ يُكْتَبُ
جَمِيعُ مَا يُلْفَظُ بِهِ أَوِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فَقَطْ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ
أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ .
وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ : كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ
عَلَيْهِ لَا لَهُ ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ ، وَكَانَ
الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُمْسِكُ عَلَى لِسَانِهِ وَيَقُولُ :
هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ ، وَالْكَلَامُ أَسِيرُكَ ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ
فِيكَ صِرْتَ أَنْتَ أَسِيرَهُ ، وَاللَّهُ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ : مَا يَلْفِظُ
مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ .
وَفِي اللِّسَانِ آفَتَانِ عَظِيمَتَانِ ، إِنْ خَلَصَ
الْعَبْدُ مِنْ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَخْلُصْ مِنَ الْأُخْرَى : آفَةُ الْكَلَامِ ،
وَآفَةُ السُّكُوتِ ، وَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَعْظَمَ إِثْمًا مِنَ الْأُخْرَى
فِي وَقْتِهَا ، فَالسَّاكِتُ عَنِ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ ، عَاصٍ لِلَّهِ ،
مُرَاءٍ مُدَاهِنٌ إِذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْمُتَكَلِّمُ
بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ ، عَاصٍ لِلَّهِ ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ
مُنْحَرِفٌ فِي كَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ فَهُمْ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ ،
وَأَهْلُ الْوَسَطِ - وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ - كَفُّوا
أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ ، وَأَطْلَقُوهَا فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ
نَفْعُهُ فِي الْآخِرَةِ ، فَلَا تَرَى أَحَدَهُمْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ
تَذْهَبُ عَلَيْهِ ضَائِعَةً بِلَا مَنْفَعَةٍ ، فَضْلًا أَنَ تَضُرَّهُ فِي
آخِرَتِهِ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ
أَمْثَالِ الْجِبَالِ ، فَيَجِدُ لِسَانَهُ قَدْ هَدَمَهَا عَلَيْهِ كُلَّهَا ،
وَيَأْتِي بِسَيِّئَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَجِدُ لِسَانَهُ قَدْ هَدَمَهَا
مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ .
فَصْلٌ:
مَدْخَلُ الْمَعَاصِي (مَدْخَلُ الْخُطْوَةُ)وَأَمَّا
الْخُطُوَاتُ : فَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا يَنْقِلَ قَدَمَهُ إِلَّا فِيمَا
يَرْجُو ثَوَابَهُ ،
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي خُطَاهُ مَزِيدُ ثَوَابٍ ،
فَالْقُعُودُ عَنْهَا خَيْرٌ لَهُ ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلِّ
مُبَاحٍ يَخْطُو إِلَيْهِ قُرْبَةً يَنْوِيهَا لِلَّهِ ، فَتَقَعُ خُطَاهُ قُرْبَةً
.
[ ص: 162 ] وَلَمَّا كَانَتِ الْعَثْرَةُ عَثْرَتَيْنِ :
عَثْرَةَ الرِّجْلِ وَعَثْرَةَ اللِّسَانِ ، جَاءَتْ إِحْدَاهُمَا قَرِينَةَ الْأُخْرَى
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى
الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [ سُورَةُ
الْفُرْقَانِ : 63 ] .
فَوَصَفَهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي لَفْظَاتِهِمْ
وَخُطُوَاتِهِمْ ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ اللَّحَظَاتِ وَالْخَطَرَاتِ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى : يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [ سُورَةُ
غَافِرٍ : 19 ] .
وَهَذَا كُلُّهُ ذَكَرْنَاهُ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ
تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَوُجُوبِ حِفْظِ الْفَرْجِ ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ :
الْفَمُ ، وَالْفَرْجُ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- : لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ : الثَّيِّبِ
الزَّانِي ، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ
لِلْجَمَاعَةِ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي اقْتِرَانِ الزِّنَى بِالْكُفْرِ وَقَتْلِ
النَّفْسِ ، نَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ ، وَنَظِيرُ حَدِيثِ ابْنِ
مَسْعُودٍ .
وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بِالْأَكْثَرِ وُقُوعًا ، وَالَّذِي يَلِيهِ ، فَالزِّنَى أَكْثَرُ
وُقُوعًا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنَ
الرِّدَّةِ ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَنَقَّلَ مِنَ الْأَكْبَرِ إِلَى مَا هُوَ
أَكْبَرُ مِنْهُ ، وَمَفْسَدَةُ الزِّنَى مُنَاقِضَةٌ لِصَلَاحِ الْعَالَمِ :
فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا زَنَتْ أَدْخَلَتِ الْعَارَ عَلَى أَهْلِهَا
وَزَوْجِهَا وَأَقَارِبِهَا ، وَنَكَّسَتْ رُءُوسَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ ، وَإِنْ حَمَلَتْ
مِنَ الزِّنَى ، فَإِنْ قَتَلَتْ وَلَدَهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الزِّنَى وَالْقَتْلِ
، وَإِنْ حَمَلَتْهُ عَلَى الزَّوْجِ أَدْخَلَتْ عَلَى أَهْلِهِ وَأَهْلِهَا
أَجْنَبِيًّا لَيْسَ مِنْهُمْ ، فَوَرِثَهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ، وَرَآهُمْ
وَخَلَا بِهِمْ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ
مِنْ مَفَاسِدِ زِنَاهَا .
وَأَمَّا زِنَى الرَّجُلِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ اخْتِلَاطَ الْأَنْسَابِ
أَيْضًا ، وَإِفْسَادَ الْمَرْأَةِ الْمَصُونَةِ وَتَعْرِيضَهَا لِلتَّلَفِ وَالْفَسَادِ
، وَفِي هَذِهِ الْكَبِيرَةِ خَرَابُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ ، وَإِنْ عَمَرَتِ
الْقُبُورَ فِي الْبَرْزَخِ وَالنَّارَ فِي الْآخِرَةِ ، فَكَمْ فِي الزِّنَى مِنِ
اسْتِحْلَالٍ لِحُرُمَاتٍ وَفَوَاتِ حُقُوقٍ وَوُقُوعِ مَظَالِمَ ؟
وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ : أَنَّهُ يُوجِبُ الْفَقْرَ ،
وَيُقَصِّرُ الْعُمُرَ ، وَيَكْسُو صَاحِبَهُ سَوَادَ الْوَجْهِ ، وَثَوْبَ
الْمَقْتِ بَيْنَ النَّاسِ .
وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ أَيْضًا : أَنَّهُ يُشَتِّتُ
الْقَلْبَ وَيُمْرِضُهُ إِنْ لَمْ يُمِتْهُ ، وَيَجْلِبُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ
وَالْخَوْفَ ، وَيُبَاعِدُ صَاحِبَهُمِنَ الْمَلَكِ وَيُقَرِّبُهُ مِنَ
الشَّيْطَانِ ، فَلَيْسَ بَعْدَ مَفْسَدَةِ الْقَتْلِ أَعْظَمُ مِنْ [ ص: 163 ]
مَفْسَدَتِهِ ، وَلِهَذَا شُرِعَ فِيهِ الْقَتْلُ عَلَى أَشْنَعِ الْوُجُوهِ
وَأَفْحَشِهَا وَأَصْعَبِهَا ، وَلَوْ بَلَغَ الْعَبْدَ أَنَّ امْرَأَتَهُ أَوْ
حُرْمَتَهُ قُتِلَتْ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَبْلُغَهُ أَنَّهَا
زَنَتْ .
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
- : لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ
مُصْفَحٍ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ -
فَقَالَ : تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ ؟ وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ ، وَاللَّهُ
أَغْيَرُ مِنِّي ، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا
ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ ، وَغَيْرَةُ
اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ .
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ
الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ ، مِنْ
أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ
.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خُطْبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ قَالَ : يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ،
وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ
تَزْنِيَ أَمَتُهُ ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا
أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ
وَقَالَ : اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ ؟
.
وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِخُصُوصِهَا عَقِبَ
صَلَاةِ الْكُسُوفِ سِرٌّ بَدِيعٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ ، وَظُهُورُ الزِّنَى مِنْ
أَمَارَاتِ خَرَابِ الْعَالَمِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ ، كَمَا فِي
الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ : لَأُحَدِّثَنَّكُمْ
حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي ، سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- يَقُولُ : مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ
الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَى
وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ
امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ
.
وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ
أَنَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الزِّنَى يَغْضَبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَشْتَدُّ
غَضَبُهُ ، فَلَا بُدَّأَنْ يُؤَثِّرَ غَضَبُهُ فِي الْأَرْضِ عُقُوبَةً .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : مَا ظَهَرَ
الرِّبَا وَالزِّنَى فِي قَرْيَةٍ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ بِإِهْلَاكِهَا .
وَرَأَى بَعْضُ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْنَهُ
يَغْمِزُ امْرَأَةً ، فَقَالَ : مَهْلًا يَا بُنَيَّ ، فَصُرِعَ الْأَبُ عَنْ
سَرِيرِهِ فَانْقَطَعَ نُخَاعُهُ وَأَسْقَطَتِ امْرَأَتُهُ ، وَقِيلَ لَهُ :
هَكَذَا غَضَبُكَ لِي ؟ لَا يَكُونُ فِي جِنْسِكَ خَيْرٌ أَبَدًا .
وَخَصَّ سُبْحَانَهُ حَدَّ الزِّنَى مِنْ بَيْنِ
الْحُدُودِ بِثَلَاثِ خَصَائِصَ
:
أَحَدُهَا :
الْقَتْلُ فِيهِ بِأَشْنَعِ الْقَتَلَاتِ ، وَحَيْثُ
خَفَّفَهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْبَدَنِ بِالْجَلْدِ وَعَلَى
الْقَلْبِ بِتَغْرِيبِهِ عَنْ وَطَنِهِ سَنَةً .
[ ص: 164 ] الثَّانِي : أَنَّهُ نَهَى عِبَادَهُ أَنْ
تَأْخُذَهُمْ بِالزُّنَاةِ رَأْفَةٌ فِي دِينِهِ ، بِحَيْثُ تَمْنَعُهُمْ مِنْ
إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ
وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ شَرَعَ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ ؛ فَهُوَ أَرْحَمُ بِكُمْ ،
وَلَمْ تَمْنَعْهُ رَحْمَتُهُ مِنْ أَمْرِهِ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ ، فَلَا
يَمْنَعْكُمْ أَنْتُمْ مَا يَقُومُ بِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرَّأْفَةِ مِنْ إِقَامَةِ
أَمْرِهِ .
وَهَذَا -
وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ - وَلَكِنْ
ذُكِرَ فِي حَدِّ الزِّنَى خَاصَّةً لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِهِ ،
فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَجِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْقَسْوَةِ عَلَى
الزَّانِي مَا يَجِدُونَهُ عَلَى السَّارِقِ وَالْقَاذِفِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ ،
فَقُلُوبُهُمْ تَرْحَمُالزَّانِيَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْحَمُ غَيْرَهُ مِنْ
أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ ، فَنُهُوا أَنْ
تَأْخُذَهُمْ هَذِهِ الرَّأْفَةُ وَتَحْمِلَهُمْ عَلَى تَعْطِيلِ حَدِّ اللَّهِ .
وَسَبَبُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ : أَنَّ هَذَا ذَنْبٌ
يَقَعُ مِنَ الْأَشْرَافِ وَالْأَوْسَاطِ وَالْأَرَاذِلِ ، وَفِي النُّفُوسِ
أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَيْهِ ، وَالْمُشَارِكُ فِيهِ كَثِيرٌ ، وَأَكْثَرُ
أَسْبَابِهِ الْعِشْقُ ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ إِلَى رَحْمَةِ الْعَاشِقِ ،
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعُدُّ مُسَاعَدَتَهُ طَاعَةً وَقُرْبَةً ، وَإِنْ
كَانَتِ الصُّورَةُ الْمَعْشُوقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ، وَلَا يَسْتَنْكِرُ
هَذَا الْأَمْرَ ، فَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَشْبَاهِ
الْأَنْعَامِ ، وَلَقَدْ حَكَى لَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا نُقَّاصُ
الْعُقُولِ كَالْخُدَّامِ وَالنِّسَاءِ
.
وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا ذَنْبٌ غَالِبًا مَا يَقَعُ
مَعَ التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ
وَالظُّلْمِ وَالِاغْتِصَابِ مَا تَنْفُرُ النُّفُوسُ مِنْهُ .
وَفِي النُّفُوسِ شَهْوَةٌ غَالِبَةٌ لَهُ فَيُصَوِّرُ
ذَلِكَ لَهَا ، فَتَقُومُ بِهَا رَحْمَةٌ تَمْنَعُ إِقَامَةَ الْحَدِّ ، وَهَذَا كُلُّهُ
مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ . وَكَمَالُ الْإِيمَانِ أَنْ تَقُومَ بِهِ قُوَّةٌ
يُقِيمُ بِهَا أَمْرَ اللَّهِ ، وَرَحْمَةٌ يَرْحَمُ بِهَا الْمَحْدُودَ ،
فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُمَا
بِمَشْهَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَا يَكُونُ فِي خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لَا
يَرَاهُمَا أَحَدٌ ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي مَصْلَحَةِ الْحَدِّ ، وَالْحِكْمَةُ
الزَّجْرُ ، وَحَدُّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ مُشْتَقٌّ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى
لِقَوْمِ لُوطٍ بِالْقَذْفِ بِالْحِجَارَةِ ، وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الزِّنَا
وَاللِّوَاطِ فِي الْفُحْشِ ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَسَادٌ يُنَاقِضُ حِكْمَةَ
اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ ، فَإِنَّ فِي اللِّوَاطِ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا يَفُوتُ
الْحَصْرَ وَالتَّعْدَادَ ، وَلَأَنْ يُقْتَلَ الْمَفْعُولُ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ
أَنْ يُؤْتَى ، فَإِنَّهُيَفْسَدُ فَسَادًا لَا يُرْجَى لَهُ بَعْدَهُ صَلَاحٌ
أَبَدًا ، وَيَذْهَبُ خَيْرُهُ كُلُّهُ ، وَتَمُصُّ الْأَرْضُ مَاءَ الْحَيَاءِ
مِنْ وَجْهِهِ ، فَلَا يَسْتَحِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنْ خَلْقِهِ
، وَتَعْمَلُ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ نُطْفَةُ الْفَاعِلِ مَا يَعْمَلُ السُّمُّ
فِي الْبَدَنِ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
مَفْعُولٌ بِهِ ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ ، سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ يَحْكِيهِمَا .
وَالَّذِينَ قَالُوا : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ
احْتَجُّوا بِأُمُورٍ :
مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زَنْيَةٍ فَإِذَا كَانَ هَذَا
حَالُ وَلَدِ الزِّنَى مَعَ [ ص: 165 ] أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ
مَظِنَّةُ كُلِّ شَرٍّ وَخُبْثٍ ، وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَجِيءَ مِنْهُ خَيْرٌ
أَبَدًا ، لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ خَبِيثَةٍ ، وَإِذَا كَانَ الْجَسَدُ
الَّذِي تَرَبَّى عَلَى الْحَرَامِ ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ ، فَكَيْفَ
بِالْجَسَدِ الْمَخْلُوقِ مِنَ النُّطْفَةِ الْحَرَامِ ؟
قَالُوا : وَالْمَفْعُولُ بِهِ شَرٌّ مِنْ وَلَدِ
الزِّنَى ، وَأَخْزَى وَأَخْبَثُ وَأَوْقَحُ ، وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يُوَفَّقَ
لِخَيْرٍ ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَكُلَّمَا عَمِلَ خَيْرًا
قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَا يُفْسِدُهُ عُقُوبَةً لَهُ ، وَقَلَّ أَنْ تَرَى مَنْ
كَانَ كَذَلِكَ فِي صِغَرِهِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِبَرِهِ شَرٌّ مِمَّا كَانَ ،
وَلَا يُوَفَّقُ لِعِلْمٍ نَافِعٍ ، وَلَا عَمَلٍ صَالِحٍ ، وَلَا تَوْبَةٍ
نَصُوحٍ .
وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ : إِنْ
تَابَ الْمُبْتَلَى بِهَذَا الْبَلَاءِ وَأَنَابَ ، وَرُزِقَ تَوْبَةً نَصُوحًا
وَعَمَلًا صَالِحًا ، وَكَانَ فِي كِبَرِهِ خَيْرًا مِنْهُ فِي صِغَرِهِ ،
وَبَدَّلَ سَيِّئَاتِهِ بِحَسَنَاتٍ ، وَغَسَلَ عَارَ ذَلِكَ عَنْهُ بِأَنْوَاعِ
الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ ، وَغَضَّ بَصَرَهُ وَحَفِظَ فَرْجَهُ عَنِ
الْمُحَرَّمَاتِ ، وَصَدَقَ اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ ، فَهَذَا مَغْفُورٌ لَهُ
وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ، وَإِذَا
كَانَتِ التَّوْبَةُ تَمْحُو كُلَّ ذَنْبٍ ، حَتَّى الشِّرْكَ بِاللَّهِ وَقَتْلَ
أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَالسِّحْرَ وَالْكُفْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ ، فَلَا
تَقْصُرُ عَنْ مَحْوِ هَذَا الذَّنْبِ ، وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ حِكْمَةُ اللَّهِ
تَعَالَى بِهِ عَدْلًا وَفَضْلًا أَنَّ
: التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ،
وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَقَتْلِ
النَّفْسِ وَالزِّنَى ، أَنَّهُ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ ، وَهَذَا
حُكْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ تَائِبٍ مِنْ ذَنْبٍ .
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ
أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [
سُورَةُ الزُّمَرِ : 53 ] .
فَلَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ ،
وَلَكِنْ هَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ خَاصَّةً .
وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ إِنْ كَانَ فِي كِبَرِهِ
شَرًّا مِمَّا كَانَ فِي صِغَرِهِ ؛ لَمْ يُوَفَّقْ لِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ ، وَلَا
لِعَمَلٍ صَالِحٍ ، وَلَا اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ ، وَلَا أَبْدَلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ
، فَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يُوَفَّقَ عِنْدَ الْمَمَاتِ لِخَاتِمَةٍ يَدْخُلُ بِهَا
الْجَنَّةَ ، عُقُوبَةًلَهُ عَلَى عَمَلِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى يُعَاقِبُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِسَيِّئَةٍ أُخْرَى ، وَتَتَضَاعَفُ
عُقُوبَةُ السَّيِّئَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَةِ
بِحَسَنَةٍ أُخْرَى .
إِذَا نَظَرْتَ إِلَى حَالِ كَثِيرٍ مِنَ
الْمُحْتَضِرِينَ وَجَدْتَهُمْ يُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ ،
عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ .
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِشْبِيلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَاعْلَمْ أَنَّ لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ - أَعَاذَنَا
اللَّهُ مِنْهَا - أَسْبَابًا ، وَلَهَا طُرُقٌ وَأَبْوَابٌ ، أَعْظَمُهَا [ ص:
166 ] الِانْكِبَابُ عَلَى الدُّنْيَا ، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأُخْرَى ،
وَالْإِقْدَامُ وَالْجَرْأَةُ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَرُبَّمَا
غَلَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ ضَرْبٌ مِنَ الْخَطِيئَةِ ، وَنَوْعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ
، وَجَانِبٌ مِنَ الْإِعْرَاضِ ، وَنَصِيبٌ مِنَ الْجَرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ ،
فَمَلَكَ قَلْبَهُ ، وَسَبَى عَقْلَهُ وَأَطْفَأَ نُورَهُ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ
حُجُبَهُ فَلَمْ تَنْفَعْ فِيهِ تَذْكِرَةٌ ، وَلَا نَجَحَتْ فِيهِ مَوْعِظَةٌ ،
فَرُبَّمَا جَاءَهُ الْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ ، فَسَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ مَكَانٍ
بَعِيدٍ ، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْمُرَادُ ، وَلَا عَلِمَ مَا أَرَادَ ،
وَإِنْ كَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّاعِي وَأَعَادَ .
قَالَ : وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ رِجَالِ النَّاصِرِ
نَزَلَ الْمَوْتُ بِهِ ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ : قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ ، فَقَالَ : النَّاصِرُ مَوْلَايَ ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ ،
فَأَعَادَ مِثْلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ غَشْيَةٌ ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ :
النَّاصِرُ مَوْلَايَ ، وَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ كُلَّمَا قِيلَ لَهُ قُلْ : لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، قَالَ
: النَّاصِرُ مَوْلَايَ ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ : يَا
فُلَانُ ، النَّاصِرُ إِنَّمَا يَعْرِفُكَ بِسَيْفِكَ ، وَالْقَتْلَ الْقَتْلَ ،
ثُمَّ مَاتَ .
قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ : وَقِيلَ لِآخَرَ - مِمَّنْ أَعْرِفُهُ
- قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ . فَجَعَلَ يَقُولُ : الدَّارُ الْفُلَانِيَّةُ أَصْلِحُوا
فِيهَا كَذَا ، وَالْبُسْتَانُ الْفُلَانِيُّ افْعَلُوا فِيهِ كَذَا .
وَقَالَ : وَفِيمَا أَذِنَ أَبُو طَاهِرٍ السَّلَفِيُّ
أَنْ أُحَدِّثَ بِهِ عَنْهُ : أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ ، فَقِيلَ لَهُ
: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَجَعَلَ يَقُولُ بِالْفَارِسِيَّةِ : دَهْ
يَازَدَهْ دَهْ وَازَدَهْ ، تَفْسِيرُهُ : عَشْرٌ بِأَحَدَ عَشَرَ .
وَقِيلَ لِآخَرَ : قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ،
فَجَعَلَ يَقُولُ :
أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ
قَالَ :
وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ قِصَّةٌ ، وَذَلِكَ أَنَّ
رَجُلًا كَانَ وَاقِفًا بِإِزَاءِ دَارِهِ ، وَكَانَ بَابُهَا يُشْبِهُ بَابَ
هَذَا الْحَمَّامِ ، فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ لَهَا مَنْظَرٌ ، فَقَالَتْ : أَيْنَ الطَّرِيقُ
إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ ؟ فَقَالَ : هَذَا حَمَّامُ مِنْجَابِ ، فَدَخَلَتِ
الدَّارَ وَدَخَلَ وَرَاءَهَا ، فَلَمَّا رَأَتْ نَفْسَهَا فِي دَارِهِ وَعَلِمَتْ
أَنَّهُ قَدْ خَدَعَهَا ، أَظْهَرَتْ لَهُ الْبُشْرَى وَالْفَرَحَ بِاجْتِمَاعِهَا
مَعَهُ ، وَقَالَتْ لَهُ : يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعَنَا مَا يَطِيبُ بِهِ عَيْشُنَا
وَتَقَرُّ بِهِ عُيُونُنَا ، فَقَالَ لَهَا : السَّاعَةَ آتِيكِ بِكُلِّ مَا
تُرِيدِينَ وَتَشْتَهِينَ ، وَخَرَجَ وَتَرَكَهَا فِي الدَّارِ وَلَمْ يُغْلِقْهَا
، فَأَخَذَ مَا يَصْلُحُ وَرَجَعَ ، فَوَجَدَهَا قَدْ خَرَجَتْ وَذَهَبَتْ ، وَلَمْ
تَخُنْهُ فِي شَيْءٍ ، فَهَامَ الرَّجُلُ وَأَكْثَرَ الذِّكْرَ لَهَا ، وَجَعَلَ
يَمْشِي فِي الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ وَيَقُولُ :
يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ *** كَيْفَ
الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ ؟
فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا يَقُولُ ذَلِكَ ، إِذَا
بِجَارِيَتِهِ أَجَابَتْهُ مِنْ طَاقٍ
:
هَلَّا جَعَلْتَ سَرِيعًا إِذْ ظَفِرْتَ بِهَا ***
حِرْزًا عَلَى الدَّارِ أَوْ قُفْلًا عَلَى الْبَابِ
فَازْدَادَ هَيَمَانُهُ وَاشْتَدَّ ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى
ذَلِكَ ، حَتَّى كَانَ هَذَا الْبَيْتُ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا .
[ ص: 167 ] وَلَقَدْ بَكَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ : كُلُّ هَذَا خَوْفًا
مِنَ الذُّنُوبِ ؟ فَأَخَذَ تِبْنَةً مِنَ الْأَرْضِ ، وَقَالَ : الذُّنُوبُ أَهْوَنُ
مِنْ هَذَا ، وَإِنَّمَا أَبْكِي مِنْ خَوْفِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ .
وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفِقْهِ : أَنْ يَخَافَ
الرَّجُلُ أَنْ تَخْذُلَهُ ذُنُوبُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، فَتَحُولُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْخَاتِمَةِ الْحُسْنَى
.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ
أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ يُغْمَى عَلَيْهِ ثُمَّ يَفِيقُ وَيَقْرَأُ :
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ
مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 110 ] .
فَمِنْ هَذَا خَافَ السَّلَفُ مِنَ الذُّنُوبِ ، أَنْ
تَكُونَ حِجَابًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَاتِمَةِ الْحُسْنَى .
قَالَ :
وَاعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ - أَعَاذَنَا
اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا - لَا تَكُونُ لِمَنِ اسْتَقَامَ ظَاهِرُهُ وَصَلُحَ
بَاطِنُهُ ، مَا سُمِعَ بِهَذَا وَلَا عُلِمَ بِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ،
وَإِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ لَهُ فَسَادٌ فِي الْعَقْدِ ، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى الْكَبَائِرِ
، وَإِقْدَامٌ عَلَى الْعَظَائِمِ، فَرُبَّمَا غَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى
يَنْزِلَ بِهِ الْمَوْتُ قَبْلَ التَّوْبَةِ ، فَيَأْخُذُهُ قَبْلَ إِصْلَاحِ
الطَّوِيَّةِ ، وَيَصْطَلِمُهُ قَبْلَ الْإِنَابَةِ فَيَظْفَرُ بِهِ الشَّيْطَانُ
عِنْدَ تِلْكَ الصَّدْمَةِ ، وَيَخْتَطِفُهُ عِنْدَ تِلْكَ الدَّهْشَةِ ،
وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ .
قَالَ :
وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ رَجُلٌ يَلْزَمُ
مَسْجِدًا لِلْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ ، وَعَلَيْهِ بَهَاءُ الطَّاعَةِ وَأَنْوَارُ الْعِبَادَةِ
، فَرَقِيَ يَوْمًا الْمَنَارَةَ عَلَى عَادَتِهِ لِلْأَذَانِ ، وَكَانَ تَحْتَ
الْمَنَارَةِ دَارٌ لِنَصْرَانِيٍّ ، فَاطَّلَعَ فِيهَا ، فَرَأَى ابْنَةَ صَاحِبِ
الدَّارِ فَافْتُتِنَ بِهَا ، فَتَرَكَ الْأَذَانَ ، وَنَزَلَ إِلَيْهَا ،
وَدَخَلَ الدَّارَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ لَهُ : مَا شَأْنُكَ وَمَا تُرِيدُ ؟
قَالَ : أُرِيدُكِ ، فَقَالَتْ : لِمَاذَا ؟ قَالَ : قَدْ سَبَيْتِ لُبِّي ،
وَأَخَذْتِ بِمَجَامِعِ قَلْبِي ، قَالَتْ : لَا أُجِيبُكَ إِلَى رِيبَةٍ أَبَدًا
، وَقَالَ : أَتَزَوَّجُكِ ؟ قَالَتْ : أَنْتَ مُسْلِمٌ وَأَنَا نَصْرَانِيَّةٌ
وَأَبِي لَا يُزَوِّجُنِي مِنْكَ ، قَالَ : أَتَنَصَّرُ ، قَالَتْ : إِنْ فَعَلْتَ
أَفْعَلُ ، فَتَنَصَّرَ الرَّجُلُ لِيَتَزَوَّجَهَا ، وَأَقَامَ مَعَهُمْ فِي
الدَّارِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، رَقِيَ إِلَى سَطْحٍ
كَانَ فِي الدَّارِ فَسَقَطَ مِنْهُ فَمَاتَ ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا ، وَفَاتَهُ
دِينُهُ .
قَالَ :
وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا عَشِقَ شَخْصًا فَاشْتَدَّ
كَلَفُهُ بِهِ ، وَتَمَكَّنَ حُبُّهُ مِنْ قَلْبِهِ ، حَتَّى وَقَعَ أَلَمٌ بِهِ
وَلَزِمَ الْفِرَاشَ بِسَبَبِهِ ، وَتَمَنَّعَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عَلَيْهِ ، وَاشْتَدَّ
نِفَارُهُ عَنْهُ ، فَلَمْ تَزَلِ الْوَسَائِطُ يَمْشُونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى
وَعَدَهُ بِأَنْ يَعُودَهُ ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ النَّاسُ ، فَفَرِحَ
وَاشْتَدَّ سُرُورُهُ وَانْجَلَى غَمُّهُ ، وَجَعَلَ يَنْتَظِرُ الْمِيعَادَ
الَّذِي ضَرَبَ لَهُ ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ السَّاعِي
بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ : إِنَّهُ وَصَلَ مَعِي إِلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ وَرَجَعَ ،
وَرَغَّبْتُ إِلَيْهِ وَكَلَّمْتُهُ ، فَقَالَ : إِنَّهُ ذَكَرَنِي وَصَرَّحَ بِي
، وَلَا أَدْخُلُ مَدَاخِلَ الرِّيبَةِ وَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِمَوَاقِعِ
التُّهَمِ ، فَعَاوَدْتُهُ فَأَبَى وَانْصَرَفَ ، فَلَمَّا سَمِعَ [ ص: 168 ]
الْبَائِسُ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ ، وَعَادَ إِلَى أَشَدَّ مِمَّا كَانَ بِهِ ،
وَبَدَتْ عَلَيْهِ عَلَائِمُ ، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ :
يَا سَلْمُ يَا رَاحَةَ الْعَلِيلِ *** وَيَا شِفَا
الْمُدْنَفِ النَّحِيلِ
رِضَاكِ أَشْهَى إِلَى فُؤَادِي *** مِنْ رَحْمَةِ
الْخَالِقِ الْجَلِيلِ
فَقُلْتُ لَهُ : يَا فُلَانُ اتَّقِ اللَّهَ ، قَالَ :
قَدْ كَانَ ، فَقُمْتُ عَنْهُ ، فَمَا جَاوَزْتُ بَابَ دَارِهِ حَتَّى سَمِعْتُ
صَيْحَةَ الْمَوْتِ ، فَعِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ ، وَشُؤْمِ الْخَاتِمَةِ .
فَصْلٌ: عُقُوبَةُ اللِّوَاطِوَلَمَّا كَانَتْ مَفْسَدَةُ
اللِّوَاطِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ ؛ كَانَتْ عُقُوبَتُهُ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ .
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ : هَلْ هُوَ أَغْلَظُ
عُقُوبَةً مِنَ الزِّنَى ، أَوِ الزِّنَى أَغْلَظُ عُقُوبَةً مِنْهُ ، أَوْ
عُقُوبَتُهُمَا سَوَاءٌ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :
فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ، وَعَلِيُّ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ،
وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ ، وَخَالِدُ بْنُ زَيْدٍ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَعْمَرٍ ، وَالزُّهْرِيُّ ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ ،
وَمَالِكٌ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ - فِي أَصَحِّ
الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ - وَالشَّافِعِيُّ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ - إِلَى أَنَّ
عُقُوبَتَهُ أَغْلَظُ مِنْ عُقُوبَةِ الزِّنَى ، وَعُقُوبَتُهُ الْقَتْلُ عَلَى
كُلِّ حَالٍ ، مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنٍ.
وَذَهَبَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَالْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ ،
وَقَتَادَةُ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالشَّافِعِيُّ - فِي ظَاهِرِ مَذْهَبِهِ - ،
وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ - فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ عَنْهُ - ، وَأَبُو
يُوسُفَ ، وَمُحَمَّدٌ : إِلَى أَنَّ عُقُوبَتَهُ وَعُقُوبَةَ الزَّانِي سَوَاءٌ .
وَذَهَبَ الْحَاكِمُ وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ
عُقُوبَتَهُ دُونَ عُقُوبَةِ الزَّانِي ، وَهِيَ التَّعْزِيرُ .
قَالُوا :
لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ مِنَ الْمَعَاصِي لَمْ يُقَدِّرِ
اللَّهُ وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ حَدًّا
مُقَدَّرًا ، فَكَانَ فِيهِ التَّعْزِيرُ ، كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ
وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ .
قَالُوا : وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ فِي مَحَلٍّ لَا تَشْتَهِيهِ
الطِّبَاعُ ، بَلْ رَكَّبَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّفْرَةِ مِنْهُ حَتَّى
الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ ، فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ حَدٌّ كَوَطْءِ الْأَتَانِ
وَغَيْرِهَا .
قَالُوا : وَلِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى زَانِيًا لُغَةً
وَلَا شَرْعًا وَلَا عُرْفًا ، فَلَا يَدْخُلُ فِي النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى
حَدِّ الزَّانِينَ .
[ ص: 169
] قَالُوا : وَقَدْ رَأَيْنَا قَوَاعِدَ الشَّرِيعَةِ ،
أَنَّ الْمَعْصِيَةَ إِذَا كَانَ الْوَازِعُ عَنْهَا طَبِيعِيًّا اكْتُفِيَ
بِذَلِكَ الْوَازِعِ مِنَ الْحَدِّ ، وَإِذَا كَانَ فِي الطِّبَاعِ تَقَاضِيهَا ،
جُعِلَ فِي الْحَدِّ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ الطِّبَاعِ لَهَا ، وَلِهَذَا جُعِلَ الْحَدُّ
فِي الزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْمُسْكِرِ دُونَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ
وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ
.
قَالُوا : وَطَرْدُ هَذَا ، أَنَّهُ لَا حَدَّ فِي
وَطْءِ الْبَهِيمَةِ وَلَا الْمَيِّتَةِ ، وَقَدْ جَبَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ
الطِّبَاعَ عَلَى النَّفْرَةِ مِنْ وَطْءِ الرَّجُلِ رَجُلًا مِثْلَهُ أَشَدَّ
نَفْرَةٍ ، كَمَا جَبَلَهَا عَلَى النَّفْرَةِ مِنَ اسْتِدْعَاءِ الرَّجُلِ مَنْ
يَطَؤُهُ بِخِلَافِ الزِّنَى ، فَإِنَّ الدَّاعِيَ فِيهِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ .
قَالُوا
: وَلِأَنَّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ إِذَا اسْتَمْتَعَ
بِشَكْلِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، كَمَا تَسَاحَقَتِ الْمَرْأَتَانِ
وَاسْتَمْتَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى .
قَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ : وَهُوَ جُمْهُورُ
الْأُمَّةِ ، وَحَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ إِجْمَاعًا لِلصَّحَابَةِ ، لَيْسَ فِي
الْمَعَاصِي أَعْظَمُ مَفْسَدَةً مِنْ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ ، وَهِيَ تَلِي
مَفْسَدَةَ الْكُفْرِ ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَعْظَمَ مِنْ مَفْسَدَةِ الْقَتْلِ ،
كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُتَعَالَى .
قَالُوا : وَلَمْ يَبْتَلِ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذِهِ
الْكَبِيرَةِ قَبْلَ قَوْمِ لُوطٍ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ، وَعَاقَبَهُمْ
عُقُوبَةً لَمْ يُعَاقِبْ بِهَا أَحَدًا غَيْرَهُمْ ، وَجَمَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ
أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ بَيْنَ الْإِهْلَاكِ ، وَقَلْبِ دِيَارِهِمْ عَلَيْهِمْ ،
وَالْخَسْفِ بِهِمْ ، وَرَجْمِهِمْ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السَّمَاءِ ، فَنَكَّلَ
بِهِمْ نَكَالًا لَمْ يُنَكِّلْهُ أُمَّةً سِوَاهُمْ ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ
مَفْسَدَةِ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الَّتِي تَكَادُ الْأَرْضُ تَمِيدُ مِنْ
جَوَانِبِهَا إِذَا عُمِلَتْ عَلَيْهَا ، وَتَهْرُبُ الْمَلَائِكَةُ إِلَى
أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِذَا شَاهَدُوهَا ، خَشْيَةَ نُزُولِ الْعَذَابِ
عَلَى أَهْلِهَا ، فَيُصِيبُهُمْ مَعَهُمْ ، وَتَعِجُّ الْأَرْضُ إِلَى رَبِّهَا
تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَتَكَادُ الْجِبَالُ تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا ،
وَقَتْلُ الْمَفْعُولِ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ وَطْئِهِ ، فَإِنَّهُ إِذَا وَطِئَهُ
قَتَلَهُ قَتْلًا لَا تُرْجَى الْحَيَاةُ مَعَهُ بِخِلَافِ قَتْلِهِ فَإِنَّهُ مَظْلُومٌ
شَهِيدٌ ، وَرُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي آخِرَتِهِ .
قَالُوا : وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا : أَنَّ اللَّهَ
سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَدَّ الْقَاتِلِ إِلَى خِيَرَةِ الْوَلِيِّ ، إِنْ شَاءَ
قَتَلَ وَإِنْ شَاءَ عَفَا ، وَحَتَّمَقَتْلَ اللُّوطِيِّ حَدًّا ، كَمَا أَجْمَعَ
عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ،
وَدَلَّتْ عَلَيْهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّرِيحَةُ
الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا ، بَلْ عَلَيْهَا عَمَلُ أَصْحَابِهِ وَخُلَفَائِهِ
الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ - .
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ : أَنَّهُ وَجَدَ
فِي بَعْضِ ضَوَاحِي الْعَرَبِ رَجُلًا يُنْكَحُ كَمَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ ،
فَكَتَبَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَاسْتَشَارَ
أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَكَانَ
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَشَدَّهُمْ قَوْلًا فِيهِ ، فَقَالَ : مَا فَعَلَ
هَذَا إِلَّا أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ وَاحِدَةٌ ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلَ
اللَّهُ بِهَا ، أَرَى أَنْ يُحَرَّقَ بِالنَّارِ ، فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى
خَالِدٍ فَحَرَّقَهُ .
[ ص: 170 ] وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ :
يُنْظَرُ أَعْلَى بِنَاءٍ فِي الْقَرْيَةِ ، فَيُرْمَى اللُّوطِيُّ مِنْهَا
مُنْكَبًّا ، ثُمَّ يُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ .
وَأَخَذَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ هَذَا الْحَدَّ
مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ قَوْمَ لُوطٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الَّذِي رَوَى عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : مَنْ وَجَدْتُمُوهُ
يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ .
رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ
وَغَيْرُهُ ، وَاحْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَإِسْنَادُهُ
عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ .
قَالُوا :
وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، لَعَنَ
اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ عَمِلَ عَمَلَ
قَوْمِ لُوطٍ وَلَمْ يَجِئْ عَنْهُ لَعْنَةُ الزَّانِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي حَدِيثٍ
وَاحِدٍ ، وَقَدْ لَعَنَ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ ، فَلَمْ يَتَجَاوَزْ
بِهِمْ فِي اللَّعْنِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَكَرَّرَ لَعْنَ اللُّوطِيَّةِ ،
وَأَكَّدَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَأَطْبَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَتْلِهِ ، لَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ فِيهِ
رَجُلَانِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ فِي صِفَةِ قَتْلِهِ ،
فَظَنَّالنَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ اخْتِلَافًا مِنْهُمْ فِي قَتْلِهِ ، فَحَكَاهَا
مَسْأَلَةَ نِزَاعٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ ، وَهِيَ بَيْنَهُمْ مَسْأَلَةُ إِجْمَاعٍ
لَا مَسْأَلَةُ نِزَاعٍ .
قَالُوا : وَمَنْ تَأَمَّلَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : وَلَا
تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [ سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ : 32 ] .
وَقَوْلَهُ فِي اللِّوَاطِ : أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ
مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 80 ] .
تَبَيَّنَ لَهُ تَفَاوُتُ مَا بَيْنَهُمَا ، وَأَنَّهُ
سُبْحَانَهُ نَكَّرَ الْفَاحِشَةَ فِي الزِّنَى ، أَيْ هُوَ فَاحِشَةٌ مِنَ
الْفَوَاحِشِ ، وَعَرَّفَهَا فِي اللِّوَاطِ ، وَذَلِكَ يُفِيدُ أَنَّهُ جَامِعٌ
لِمَعَانِي اسْمِ الْفَاحِشَةِ ، كَمَا تَقُولُ : زَيْدٌ الرَّجُلُ ، وَنِعْمَ
الرَّجُلُ زَيْدٌ ، أَيْ أَتَأْتُونَ الْخَصْلَةَ الَّتِي اسْتَقَرَّ فُحْشُهَا
عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ ، فَهِيَ لِظُهُورِ فُحْشِهَا وَكَمَالِهِ غَنِيَّةٌ عَنْ
ذِكْرِهَا ، بِحَيْثُ لَا يَنْصَرِفُ الِاسْمُ إِلَى غَيْرِهَا ، وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ
فِرْعَوْنَ لِمُوسَى : وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ [ سُورَةُ
الشُّعَرَاءِ : 19 ] .
أَيِ الْفَعْلَةَ الشَّنْعَاءَ الظَّاهِرَةَ
الْمَعْلُومَةَ لِكُلِّ أَحَدٍ
.
ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ شَأْنَ فُحْشِهَا بِأَنَّهَا
لَمْ يَعْمَلْهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ قَبْلَهُمْ ، فَقَالَ : مَا
سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ، ثُمَّ زَادَ فِي التَّأْكِيدِ
بِأَنْ صَرَّحَ بِمَا تَشْمَئِزُّ مِنْهُ الْقُلُوبُ ، وَتَنْبُو [ ص: 171 ]
عَنْهُ الْأَسْمَاعُ ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الطِّبَاعُ أَشَدَّ نَفْرَةٍ ، وَهُوَ إِتْيَانُ
الرَّجُلِ رَجُلًا مِثْلَهُ يَنْكِحُهُ كَمَا يَنْكِحُ الْأُنْثَى ، فَقَالَ :
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 81 ] .
ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى اسْتِغْنَائِهِمْ عَنْ ذَلِكَ ،
وَأَنَّ الْحَامِلَ لَهُمْ عَلَيْهِ لَيْسَ إِلَّا مُجَرَّدَ الشَّهْوَةِ لَا
الْحَاجَةَ الَّتِي لِأَجْلِهَا مَالَ الذَّكَرُ إِلَى الْأُنْثَى ، وَمِنْ
قَضَاءِ الْوَطَرِ وَلَذَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ ، وَحُصُولِ الْمَوَدَّةِ
وَالرَّحْمَةِ الَّتِي تَنْسَى الْمَرْأَةُ لَهَا أَبَوَيْهَا ، وَتَذْكُرُ
بَعْلَهَا ، وَحُصُولِ النَّسْلِ الَّذِي هُوَ حِفْظُ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي
هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ ، وَتَحْصِينِ الْمَرْأَةِ وَقَضَاءِ وَطَرِهَا ،
وَحُصُولِ عَلَاقَةِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي هِيَ أُخْتُ النَّسَبِ ، وَقِيَامِ
الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ ، وَخُرُوجِ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مِنْ جِمَاعِهِنَّ
كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَمُكَاثَرَةِ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- الْأَنْبِيَاءَ بِأُمَّتِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ
مَصَالِحِ النِّكَاحِ ، وَالْمَفْسَدَةُ الَّتِي فِي اللِّوَاطِ تُقَاوِمُ ذَلِكَ
كُلَّهُ ، وَتُرْبِي عَلَيْهِ بِمَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُ فَسَادِهِ ، وَلَا
يَعْلَمُ تَفْصِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ
.
ثُمَّ أَكَّدَ قُبْحَ ذَلِكَ بِأَنَّ اللُّوطِيَّةَ
عَكَسُوا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا الرِّجَالَ ،
وَقَلَبُوا الطَّبِيعَةَ الَّتِي رَكَّبَهَا اللَّهُ فِي الذُّكُورِ ، وَهِيَ
شَهْوَةُ النِّسَاءِ دُونَ الذُّكُورِ ، فَقَلَبُوا الْأَمْرَ ، وَعَكَسُوا
الْفِطْرَةَ وَالطَّبِيعَةَ فَأَتَوُا الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ
، وَلِهَذَا قَلَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ دِيَارَهُمْ ، فَجَعَلَ
عَالِيَهَا سَافِلَهَا ، وَكَذَلِكَ قُلِبُوا هُمْ ، وَنُكِّسُوا فِي الْعَذَابِ
عَلَى رُؤُوسِهِمْ .
ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ قُبْحَ ذَلِكَ بِأَنْ حَكَمَ
عَلَيْهِمْ بِالْإِسْرَافِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، فَقَالَ : بَلْ أَنْتُمْ
قَوْمٌ مُسْرِفُونَ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 81 ] .
فَتَأَمَّلْ هَلْ جَاءَ مِثْلُ ذَلِكَ أَوْ قَرِيبٌ
مِنْهُ فِي الزِّنَى ؟
وَأَكَّدَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ :
وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ [ سُورَةُ
الْأَنْبِيَاءِ : 74 ] .
ثُمَّ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمُ الذَّمَّ بِوَصْفَيْنِ
فِي غَايَةِ الْقُبْحِ فَقَالَ : إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ [
سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 74 ]
.
وَسَمَّاهُمْ مُفْسِدِينَ فِي قَوْلِ نَبِيِّهِمْ :
رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ [ سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ : 30 ] .
[ ص: 172
] وَسَمَّاهُمْ ظَالِمِينَ فِي قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ
لِإِبْرَاهِيمَ : إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا
كَانُوا ظَالِمِينَ [ سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ : 31 ] .
فَتَأَمَّلْ مَنْ عُوقِبَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ
، وَمَنْ ذَمَّهُ اللَّهُ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمَذَمَّاتِ ، وَلَمَّا جَادَلَ
فِيهِمْ خَلِيلُهُ إِبْرَاهِيمُ الْمَلَائِكَةَ ، وَقَدْ أَخْبَرُوهُ
بِإِهْلَاكِهِمْ قِيلَ لَهُ : يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ
أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ [ سُورَةُ هُودٍ :
76 ] .
وَتَأَمَّلْ خُبْثَ اللُّوطِيَّةِ وَفَرْطَ
تَمَرُّدِهِمْ عَلَى اللَّهِ حَيْثُ جَاءُوا نَبِيَّهُمْ لُوطًا لَمَّا سَمِعُوا
بِأَنَّهُ قَدْ طَرَقَهُ أَضْيَافٌ هُمْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ صُوَرًا ،
فَأَقْبَلَ اللُّوطِيَّةُ إِلَيْهِمْ يُهَرْوِلُونَ ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ
لَهُمْ : يَاقَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [ سُورَةُ هُودٍ : 78
] .
فَفَدَى أَضْيَافَهُ بِبَنَاتِهِ يُزَوِّجُهُمْ بِهِمْ
خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ وَأَضْيَافِهِ مِنَ الْعَارِ الشَّدِيدِ ، فَقَالَ : يَاقَوْمِ
هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِي
فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ، فَرَدُّوا عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ
رَدَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ : لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ
وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
[ سُورَةُ هُودٍ : 79 ] .
فَنَفَثَ نَبِيُّ اللَّهِ مِنْهُ نَفْثَةَ مَصْدُورٍ
خَرَجَتْ مِنْ قَلْبٍ مَكْرُوبٍ ، فَقَالَ : لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ
آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ فَنَفَّسَ لَهُ رُسُلُ اللَّهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ
، وَأَعْلَمُوهُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ لَيْسُوا يُوصَلُ إِلَيْهِمْ ، وَلَا إِلَيْهِ
بِسَبَبِهِمْ ، فَلَا تَخَفْ مِنْهُمْ ، وَلَا تَعْبَأْ بِهِمْ ، وَهَوِّنْ
عَلَيْكَ ، فَقَالُوا : يَالُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ
وَبَشَّرُوهُ بِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْوَعْدِ لَهُ وَلِقَوْمِهِ مِنَ
الْوَعِيدِ الْمُصِيبِ فَقَالُوا : فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ
وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ
إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [ سُورَةُ هُودٍ : 81 ] .
فَاسْتَبْطَأَ نَبِيُّ اللَّهِ مَوْعِدَ هَلَاكِهِمْ ،
وَقَالَ : أُرِيدُ أَعْجَلَ مِنْ هَذَا ، فَقَالَتِ الْمَلَائِكَةُ : أَلَيْسَ
الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فَوَاللَّهِ مَا كَانَ بَيْنَ إِهْلَاكِ أَعْدَاءِ اللَّهِ
وَنَجَاةِ نَبِيِّهِ وَأَوْلِيَائِهِ إِلَّا مَا بَيْنَ السَّحَرِ [ ص: 173 ]
وَطُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَإِذَا بِدِيَارِهِمْ قَدِ اقْتُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا ،
وَرُفِعَتْ نَحْوَ السَّمَاءِ حَتَّى سَمِعَتِ الْمَلَائِكَةُ نُبَاحَ الْكِلَابِ
وَنَهِيقَ الْحَمِيرِ ، فَبَرَزَ الْمَرْسُومُ الَّذِي لَا يُرَدُّ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ
الْجَلِيلِ ، إِلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ جِبْرَائِيلَ ، بِأَنْ قَلَبَهَا
عَلَيْهِمْ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ
قَائِلٍ : فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [ سُورَةُ هُودٍ : 82 ] فَجَعَلَهُمْ
آيَةً لِلْعَالَمِينَ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ، وَنَكَالًا وَسَلَفًا لِمَنْ
شَارَكَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَجَعَلَ دِيَارَهُمْ
بِطَرِيقِ السَّالِكِينَ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ
وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ [
سُورَةُ الْحِجْرِ : 75 - 77 ]
.
أَخَذَهُمْ عَلَى غِرَّةٍ وَهُمْ نَائِمُونَ ، وَجَاءَهُمْ
بَأْسُهُ وَهُمْ فِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا
كَانُوا يَكْسِبُونَ ، فَقُلِبَتْ تِلْكَ اللَّذَّةُ آلَامًا ، فَأَصْبَحُوا بِهَا
يُعَذَّبُونَ .
مَآرِبُ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لِأَهْلِهَا عَذَابًا
فَصَارَتْ فِي الْمَمَاتِ عَذَابًا
ذَهَبَتِ اللَّذَّاتُ وَأَعْقَبَتِ الْحَسَرَاتِ ،
وَانْقَضَتِ الشَّهَوَاتُ ، وَأَوْرَثَتِ الشِّقْوَاتِ ، وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا ،
وَعُذِّبُوا طَوِيلًا ، رَتَعُوا مَرْتَعًا وَخِيمًا فَأَعْقَبَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا ، أَسْكَرَتْهُمْ خَمْرَةُ تِلْكَ الشَّهَوَاتِ ، فَمَا اسْتَفَاقُوا مِنْهَا
إِلَّا فِي دِيَارِ الْمُعَذَّبِينَ ، وَأَرْقَدَتْهُمْ تِلْكَ الْغَفْلَةُ ،
فَمَا اسْتَيْقَظُوا مِنْهَا إِلَّا وَهُمْ فِي مَنَازِلِ الْهَالِكِينَ ،
فَنَدِمُوا وَاللَّهِ أَشَدَّ النَّدَامَةِ حِينَ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ ،
وَبَكَوْا عَلَى مَا أَسْلَفُوهُ بَدَلَ الدُّمُوعِ بِالدَّمِ ، فَلَوْ رَأَيْتَ
الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ ، وَالنَّارُ تَخْرُجُ مِنْ
مَنَافِذِ وُجُوهِهِمْ وَأَبْدَانِهِمْ وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِ الْجَحِيمِ ،
وَهُمْ يَشْرَبُونَ بَدَلَ لَذِيذِ الشَّرَابِ كُئُوسَ الْحَمِيمِ ، وَيُقَالُ
لَهُمْ وَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ يُسْحَبُونَ : ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ اصْلَوْهَا
فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا
كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [ سُورَةُ الطُّورِ : 16 ] .
وَقَدْ قَرَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَسَافَةَ
الْعَذَابِ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَبَيْنَ إِخْوَانِهِمْ فِي الْعَمَلِ ،
فَقَالَ مُخَوِّفًا لَهُمْ أَنْ يَقَعَ الْوَعِيدُ : وَمَا هِيَ مِنَ
الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [ سُورَةُ هُودٍ : 83
] .
فَيَا نَاكِحِي الذُّكْرَانِ يَهْنِيكُمُ الْبُشْرَى ***
فَيَوْمَ مَعَادِ النَّاسِ إِنَّ لَكُمْ أَجْرًا
كُلُوا وَاشْرَبُوا وَازْنُوا وَلُوطُوا وَأَبْشِرُوا
*** فَإِنَّ لَكُمْ زَفَرًا إِلَى الْجَنَّةِ الْحَمْرَا
فَإِخْوَانُكُمْ قَدْ مَهَّدُوا الدَّارَ قَبْلَكُمُ ***
وَقَالُوا إِلَيْنَا عَجِّلُوا لَكُمُ الْبُشْرَى
[ ص: 174
]
وَهَا نَحْنُ أَسْلَافٌ لَكُمْ فِي انْتِظَارِكُمُ ***
سَيَجْمَعُنَا الْجَبَّارُ فِي نَارِهِ الْكُبْرَى
وَلَا تَحْسَبُوا أَنَّ الَّذِينَ نَكَحْتُمُو ***
يَغِيبُونَ عَنْكُمْ بَلْ تَرَوْنَهُمْ جَهْرًا
وَيَلْعَنُ كُلًّا مِنْكُمَا بِخَلِيلِهِ *** وَيَشْقَى
بِهِ الْمَحْزُونُ فِي الْكَرَّةِ الْأُخْرَى
يُعَذِّبُ كُلًّا مِنْهُمَا بِشَرِيكِهِ *** كَمَا
اشْتَرَكَا فِي لَذَّةٍ تُوجِبُ الْوِزْرَا
فَصْلٌ:
عُقُوبَةِ اللِّوَاطِ وَعُقُوبَةِ الزِّنَىفِي
الْأَجْوِبَةِ عَمَّا احْتَجَّ بِهِ مَنْ جَعَلَ عُقُوبَةَ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ
دُونَ عُقُوبَةِ الزِّنَى .
أَمَّا قَوْلُهُمْ : إِنَّهَا مَعْصِيَةٌ لَمْ يَجْعَلِ
اللَّهُ فِيهِ حَدًّا مُعَيَّنًا ، فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا :
أَنَّ الْمُبَلِّغَ عَنِ اللَّهِ جَعَلَ حَدَّ
صَاحِبِهَا الْقَتْلَ حَتْمًا ، وَمَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّمَا شَرَعَهُ عَنِ اللَّهِ ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ
حَدَّهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالشَّرْعِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّهُ
غَيْرُ ثَابِتٍ بِنَصِّ الْكِتَابِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ انْتِفَاءُ حُكْمِهِ
لِثُبُوتِهِ بِالسُّنَّةِ .
الثَّانِي : أَنَّ هَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ
بِالرَّجْمِ ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ .
فَإِنْ قُلْتُمْ : بَلْ ثَبَتَ بِقُرْآنٍ نُسِخَ
لَفْظُهُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ .
قُلْنَا : فَيُنْقَضُ عَلَيْكُمْ بِحَدِّ شَارِبِ
الْخَمْرِ .
الثَّالِثُ :
أَنَّ نَفْيَ دَلِيلٍ مُعَيَّنٍ لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ
مُطْلَقِ الدَّلِيلِ وَلَا نَفْيَ الْمَدْلُولِ ، فَكَيْفَ وَقَدْ قَدَّمْنَا
أَنَّ الدَّلِيلَ الَّذِي نَفَيْتُمُوهُ غَيْرُ مُنْتَفٍ ؟
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ : إِنَّهُ وَطْءٌ لَا تَشْتَهِيهِ
الطِّبَاعُ ، بَلْ رَكَّبَ اللَّهُ الطِّبَاعَ عَلَى النَّفْرَةِ مِنْهُ ، فَهُوَ
كَوَطْءِ الْمَيْتَةِ وَالْبَهِيمَةِ ، فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا
: أَنَّهُ قِيَاسٌ فَاسِدُ الِاعْتِبَارِ ، مَرْدُودٌ
بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
الثَّانِي : أَنَّ قِيَاسَ وَطْءِ الْأَمْرَدِ
الْجَمِيلِ الَّذِي فِتْنَتُهُ تَرْبُو عَلَى كُلِّ فِتْنَةٍ ، عَلَى وَطْءِ
أَتَانٍ أَوِ امْرَأَةٍ مَيِّتَةٍ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ ، وَهَلْ يَعْدِلُ
ذَلِكَ أَحَدٌ قَطُّ بِأَتَانٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ مَيِّتَةٍ ، أَوْ سَبَى ذَلِكَ
عَقْلَ عَاشِقٍ ، أَوْ أَسَرَ قَلْبَهُ ، أَوِ اسْتَوْلَى عَلَى فِكْرِهِ
وَنَفْسِهِ ؟ فَلَيْسَ فِي الْقِيَاسِ أَفْسَدُ مِنْ هَذَا .
الثَّالِثُ : أَنَّ هَذَا مُنْتَقِضٌ بِوَطْءِ الْأُمِّ
وَالْبِنْتِ وَالْأُخْتِ ، فَإِنَّ النَّفْرَةَ الطَّبِيعِيَّةَ عَنْهُ حَاصِلَةٌ
مَعَ أَنَّ الْحَدَّ فِيهِ مِنْ أَغْلَظِ الْحُدُودِ - فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ - وَهُوَ
الْقَتْلُ بِكُلِّ حَالٍ مُحْصَنًا كَانَ أَوْ غَيْرَ [ ص: 175 ] مُحْصَنٍ ،
وَهَذِهِ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ ، وَهُوَ قَوْلُ
إِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ
حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ لَقِيتُ عَمِّي وَمَعَهُ الرَّايَةُ ،
فَقُلْتُ : إِلَى أَيْنَ تُرِيدُ ؟ قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى رَجُلٍ نَكَحَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ
أَضْرِبَ عُنُقَهُ وَآخُذَ مَالَهُ
.
قَالَ التِّرْمِذِيُّ : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ، قَالَ
الْجَوْزَجَانِيُّ : عَمُّ الْبَرَاءِ اسْمُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو .
فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ
ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: مَنْ وَقَعَ عَلَى ذَاتِ مَحْرَمٍ فَاقْتُلُوهُ .
وَرُفِعَ إِلَى الْحَجَّاجِ رَجُلٌ اغْتَصَبَ أُخْتَهُ
عَلَى نَفْسِهَا ، فَقَالَ : احْبِسُوهُ وَسَلُوا مَنْ هَاهُنَا مِنْ أَصْحَابِ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَسَأَلُوا عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ مُطَرِّفٍ ، فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ : مَنْ تَخَطَّى حُرَمَ الْمُؤْمِنِينَ ، فَخُطُّوا
وَسَطَهُ بِالسَّيْفِ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الْقَتْلِ بِالتَّوْسِيطِ ، وَهَذَا
دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ ، وَأَنَّ مَنْ لَا يُبَاحُ وَطْؤُهُ
بِحَالٍ فَحَدُّ وَطْئِهِ الْقَتْلُ ، دَلِيلُهُ : مَنْ وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ أَوِ
ابْنَتِهِ ، وَكَذَلِكَ يُقَالُ فِي وَطْءِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ ، وَوَطْءِ مَنْ
لَا يُبَاحُ وَطْؤُهُ بِحَالٍ ، فَكَانَ حَدُّهُ الْقَتْلَ كَاللُّوطِيِّ .
وَالتَّحْقِيقُ : أَنْ يُسْتَدَلَّ عَلَى
الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالنَّصِّ ، وَالْقِيَاسُ يَشْهَدُ لِصِحَّةِ كُلٍّ مِنْهُمَا
، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ مَنْ زَنَى بِذَاتِ مَحْرَمِهِ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي صِفَةِ الْحَدِّ ، هَلْ هُوَ
الْقَتْلُ بِكُلِّ حَالٍ ، أَوْ حَدُّهُ حَدُّ الزَّانِي ، عَلَى قَوْلَيْنِ :
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ - فِي
إِحْدَى رِوَايَتَيْهِ - : أَنَّ حَدَّهُ حَدُّ الزَّانِي .
وَذَهَبَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ
الْحَدِيثِ إِلَى : أَنَّ حَدَّهُ الْقَتْلُ بِكُلِّ حَالٍ .
وَكَذَلِكَ اتَّفَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَوْ
أَصَابَهَا بِاسْمِ النِّكَاحِ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ أَنَّهُ يُحَدُّ ، إِلَّا
أَبَا حَنِيفَةَ وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ رَأَى ذَلِكَ شُبْهَةً مُسْقِطَةً لِلْحَدِّ .
وَمُنَازِعُوهُ يَقُولُونَ : إِذَا أَصَابَهَا بِاسْمِ
النِّكَاحِ فَقَدْ زَادَ الْجَرِيمَةَ غِلَظًا وَشِدَّةً ، فَإِنَّهُ ارْتَكَبَ
مَحْذُورَيْنِ عَظِيمَيْنِ : مَحْذُورَ الْعَقْدِ ، وَمَحْذُورَ الْوَطْءِ ،
فَكَيْفَ تُخَفَّفُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِضَمِّ مَحْذُورِ الزِّنَى ؟
وَأَمَّا وَطْءُ الْمَيِّتَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ
لِلْفُقَهَاءِ ، وَهُمَا فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ .
[ ص: 176 ] أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ
، وَهُوَ قَوْلُ الْأَوْزَاعِيِّ ، فَإِنَّ فِعْلَهُ أَعْظَمُ جُرْمًا وَأَكْبَرُ
ذَنْبًا انْضَمَّ إِلَى فَاحِشَتِهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الْمَيِّتَةِ .
فَصْلٌ: وَاطِئِ الْبَهِيمَةِوَأَمَّا وَاطِئُ
الْبَهِيمَةِ فَلِلْفُقَهَاءِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
أَحَدُهَا :
أَنَّهُ يُؤَدَّبُ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا
قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ ، وَهُوَ
قَوْلُ إِسْحَاقَ .
وَالْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ
الزَّانِي ، يُجْلَدُ إِنْ كَانَ بِكْرًا ، وَيُرْجَمُ إِنْ كَانَ مُحْصَنًا ،
وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ .
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ : أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ اللُّوطِيِّ
، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ، فَيُخَرَّجُ عَلَى الرِّوَايَتَيْنِ فِي حَدِّهِ ،
هَلْ هُوَ الْقَتْلُ حَتْمًا أَوْ هُوَ كَالزَّانِي ؟
وَالَّذِينَ قَالُوا : " حَدُّهُ الْقَتْلُ "
احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ
، وَاقْتُلُوهَا مَعَهُ .
قَالُوا : وَلِأَنَّهُ وَطْءٌ لَا يُبَاحُ بِحَالٍ ؛
فَكَانَ فِيهِ الْقَتْلُ كَحَدِّ اللُّوطِيِّ .
وَمَنْ لَمْ يَرَ حَدًّا قَالُوا : لَمْ يَصِحَّ فِيهِ
الْحَدِيثُ ، وَلَوْ صَحَّ لَقُلْنَا بِهِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لَنَا مُخَالَفَتُهُ .
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَعِيدٍ الشَّالَنْجِيُّ :
سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنِ الَّذِي يَأْتِي الْبَهِيمَةَ ، فَوَقَفَ عِنْدَهَا ،
وَلَمْ يَثْبُتْ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ : الْحَدِيثُ ضَعِيفٌ ، وَأَيْضًا
فَرَاوِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَدْ أَفْتَى بِأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، قَالَ
أَبُو دَاوُدَ : وَهَذَا يُضَعِّفُ الْحَدِيثَ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الزَّاجِرَ الطَّبْعِيَّ عَنْ
إِتْيَانِ الْبَهِيمَةِ أَقْوَى مِنَ الزَّاجِرِ الطَّبْعِيِّ عَنِ التَّلَوُّطِ ،
وَلَيْسَ الْأَمْرُ أَنَّهُمَا فِي طِبَاعِ النَّاسِ سَوَاءٌ ، فَإِلْحَاقُ
أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مِنْ أَفْسَدِ الْقِيَاسِ كَمَا تَقَدَّمَ .
فَصْلٌ: اللِّوَاطِ وَالسِّحَاقِوَأَمَّا قِيَاسُكُمْ
وَطْءَ الرِّجَالِ لِمِثْلِهِ عَلَى تَدَالُكِ الْمَرْأَتَيْنِ ، فَمِنْ أَفْسَدِ
الْقِيَاسِ ، إِذْ لَا إِيلَاجَ هُنَاكَ ، وَإِنَّمَا نَظِيرُهُ مُبَاشَرَةُ
الرَّجُلِ الرَّجُلَ مِنْ غَيْرِ إِيلَاجٍ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ
[ ص: 177 ] الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ
: " إِذَا أَتَتِ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَهُمَا
زَانِيَتَانِ " وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِذَلِكَ ، لِعَدَمِ
الْإِيلَاجِ ، وَإِنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمَا اسْمُ الزِّنَى الْعَامُّ ، كَزِنَى
الْعَيْنِ وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَالْفَمِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا : فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى
أَنَّ حُكْمَ التَّلَوُّطِ مَعَ الْمَمْلُوكِ كَحُكْمِهِ مَعَ غَيْرِهِ ، وَمَنْ
ظَنَّ أَنَّ تَلَوُّطَ الْإِنْسَانِ بِمَمْلُوكِهِ جَائِزٌ ، وَاحْتَجَّ عَلَى
ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ
فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ [ سُورَةُ الْمَعَارِجِ : 30 ] .
وَقَاسَ ذَلِكَ عَلَى أَمَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ فَهُوَ
كَافِرٌ ، يُسْتَتَابُ كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا
ضُرِبَتْ عُنُقُهُ ، وَتَلَوُّطُالْإِنْسَانِ بِمَمْلُوكِهِ كَتَلَوُّطِهِ
بِمَمْلُوكِ غَيْرِهِ فِي الْإِثْمِ وَالْحُكْمِ .
فَصْلٌ: دَوَاءِ اللِّوَاطِفَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ مَعَ
هَذَا كُلِّهِ دَوَاءٌ لِهَذَا الدَّاءِ الْعُضَالِ ؟ وَرُقْيَةٌ لِهَذَا
السِّحْرِ الْقَتَّالِ ؟ وَمَا الِاحْتِيَالُ لِدَفْعِ هَذَا الْخَبَالِ ؟ وَهَلْ
مِنْ طَرِيقٍ قَاصِدٍ إِلَى التَّوْفِيقِ ؟ وَهَلْ يُمْكِنُ السَّكْرَانَ بِخَمْرِ
الْهَوَى أَنْ يُفِيقَ ؟ وَهَلْ يَمْلِكُ الْعَاشِقُ قَلْبَهُ وَالْعِشْقُ قَدْ
وَصَلَ إِلَى سُوَيْدَائِهِ ؟ وَهَلْ لِلطَّبِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ حِيلَةٌ فِي
بُرْئِهِ مِنْ سُوَيْدَائِهِ ؟ وَإِنْ لَامَهُ لَائِمٌ الْتَذَّ بِمَلَامِهِ
ذِكْرًا لِمَحْبُوبِهِ ، وَإِنْ عَذَلَهُ عَاذِلٌ أَغْرَاهُ عَذْلُهُ ، وَسَارَ بِهِ
فِي طَرِيقِ مَطْلُوبِهِ ، يُنَادِي عَلَيْهِ شَاهِدُ حَالِهِ بِلِسَانِ مَقَالِهِ :
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ *** فَلَيْسَ لِي
مُتَأَخَّرٌ عَنْهُ وَلَا مُتَقَدَّمُ
وَأَهَنْتِنِي فَأَهَنْتُ نَفْسِي جَاهِدًا *** مَا مَنْ
يَهُونُ عَلَيْكِ مِمَّنْ يُكْرَمُ
أَشْبَهْتِ أَعْدَائِي فَصِرْتُ أُحِبُّهُمْ *** إِذْ
كَانَ حَظِّي مِنْكِ حَظِّي مِنْهُمْ
أَجِدُ الْمَلَامَةَ فِي هَوَاكِ لَذِيذَةً *** حُبًّا
لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللُّوَّمُ
وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالسُّؤَالِ
الْأَوَّلِ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ الِاسْتِفْتَاءُ ، وَالدَّاءُ الَّذِي طَلَبَ
لَهُ الدَّوَاءَ .
قِيلَ
: نَعَمْ ، الْجَوَابُ مِنْ رَأْسٍ : " مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ دَاءٍ إِلَّا جَعَلَ لَهُ دَوَاءً ، عَلِمَهُ
مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ " .
وَالْكَلَامُ فِي دَوَاءِ دَاءِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ
بِالْمَحَبَّةِ الْهَوَائِيَّةِ مِنْ طَرِيقَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : حَسْمُ مَادَّتِهِ قَبْلَ حُصُولِهَا .
[ ص: 178 ] وَالثَّانِي : قَلْعُهَا بَعْدَ نُزُولِهِ ،
وَكِلَاهُمَا يَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَمُتَعَذِّرٌ
عَلَى مَنْ لَمْ يُعِنْهُ اللَّهُ ، فَإِنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدَيْهِ .
فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْمَانِعُ مِنْ حُصُولِ هَذَا
الدَّاءِ ، فَأَمْرَانِ :
مَنَافِعُ غَضِّ الْبَصَرِ
غَضُّ الْبَصَرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَإِنَّ النَّظْرَةَ
سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ ، وَمَنْ أَطْلَقَ لَحَظَاتِهِ دَامَتْ
حَسَرَاتُهُ ، وَفِي غَضِّ الْبَصَرِ عِدَّةُ مَنَافِعَ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ
الَّذِي هُوَ غَايَةُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ، فَلَيْسَ
لِلْعَبْدِ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ أَنْفَعُ مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ ،
وَمَا شَقِيَ مَنْ شَقِيَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَّا بِتَضْيِيعِ
أَوَامِرِهِ .
الثَّانِيَةُ : أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ أَثَرِ
السَّهْمِ الْمَسْمُومِ - الَّذِي لَعَلَّ فِيهِ هَلَاكَهُ - إِلَى قَلْبِهِ .
الثَّالِثَةُ : أَنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ أُنْسًا
بِاللَّهِ وَجَمْعِيَّةً عَلَيْهِ ، فَإِنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ يُفَرِّقُ
الْقَلْبَ وَيُشَتِّتُهُ ، وَيُبْعِدُهُعَنِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْقَلْبِ
شَيْءٌ أَضَرُّ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَصَرِ ، فَإِنَّهُ يُورِثُ الْوَحْشَةَ بَيْنَ
الْعَبْدِ وَرَبِّهِ .
الرَّابِعَةُ : أَنَّهُ يُقَوِّي الْقَلْبَ وَيُفْرِحُهُ
، كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَ الْبَصَرِ يُضْعِفُهُ وَيُحْزِنُهُ .
الْخَامِسَةُ : أَنَّهُ يُكْسِبُ الْقَلْبَ نُورًا ،
كَمَا أَنَّ إِطْلَاقَهُ يُلْبِسُهُ ظُلْمَةً ، وَلِهَذَا ذَكَرَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ آيَةَ النُّورِ عُقَيْبَ الْأَمْرِ بِغَضِّ الْبَصَرِ ، فَقَالَ :
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [ سُورَةُ
النُّورِ : 30 ] .
ثُمَّ قَالَ إِثْرَ ذَلِكَ : اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [ سُورَةُ النُّورِ : 35 ] .
أَيْ مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ
الَّذِي امْتَثَلَ أَوَامِرَهُ وَاجْتَنَبَ نَوَاهِيَهُ ، وَإِذَا اسْتَنَارَ
الْقَلْبُ أَقْبَلَتْ وُفُودُ الْخَيْرَاتِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ، كَمَا
أَنَّهُ إِذَا أَظْلَمَ أَقْبَلَتْ سَحَائِبُ الْبَلَاءِ وَالشَّرِّ عَلَيْهِ مِنْ
كُلِّ مَكَانٍ ، فَمَا شِئْتَ مِنْ بِدَعٍ وَضَلَالَةٍ ، وَاتِّبَاعِ هَوًى ،
وَاجْتِنَابِ هُدًى ، وَإِعْرَاضٍ عَنْ أَسْبَابِ السَّعَادَةِ ، وَاشْتِغَالٍ
بِأَسْبَابِ الشَّقَاوَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكْشِفُهُ لَهُ النُّورُ
الَّذِي فِي الْقَلْبِ ، فَإِذَا نَفَذَ ذَلِكَ النُّورُ بَقِيَ صَاحِبُهُ كَالْأَعْمَى
الَّذِي يَجُوسُ فِي حَنَادِسِ الظَّلَامِ .
السَّادِسَةُ
: أَنَّهُ يُورِثُ فِرَاسَةً صَادِقَةً يُمَيَّزُ بِهَا
بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَالصَّادِقِ وَالْكَاذِبِ ، [ ص: 179 ] وَكَانَ
شُجَاعٌ الْكِرْمَانِيُّ يَقُولُ : مَنْ عَمَّرَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ
، وَبَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ ، وَغَضَّ بَصَرَهُ عَنِ الْمَحَارِمِ ،
وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنِ الشُّبَهَاتِ ، وَاغْتَذَى بِالْحَلَالِ ، لَمْ تُخْطِئْ
لَهُ فِرَاسَةٌ وَكَانَ شُجَاعًا لَا تُخْطِئُ لَهُ فِرَاسَةٌ .
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ يَجْزِي الْعَبْدَ عَلَى عَمَلِهِ
بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِ عَمَلِهِ ، وَمَنْ تَرَكَ لِلَّهِ شَيْئًا عَوَّضَهُ
اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ ، فَإِذَا غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ ،
عَوَّضَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُطْلِقَ نُورَ بَصِيرَتِهِ ، عِوَضًا عَنْ حَبْسِ
بَصَرِهِ لِلَّهِ ، وَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بَابَ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ،
وَالْمَعْرِفَةِ وَالْفِرَاسَةِ الصَّادِقَةِ الْمُصِيبَةِ الَّتِي إِنَّمَا
تُنَالُ بِبَصِيرَةٍ ، فَقَالَ تَعَالَى : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سُورَةُ الْحِجْرِ : 27 ] .
فَوَصَفَهُمْ بِالسَّكْرَةِ الَّتِي هِيَ فَسَادُ
الْعَقْلِ ، وَالْعَمَهِ الَّذِي هُوَ فَسَادُ الْبَصِيرَةِ ، فَالتَّعَلُّقُ بِالصُّوَرِ
يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْلِ ، وَعَمَهَ الْبَصِيرَةِ ، وَسُكْرَ الْقَلْبِ ، كَمَا
قَالَ الْقَائِلٌ :
سَكْرَانُ سُكْرُ هَوًى وَسُكْرُ مُدَامَةٍ *** وَمَتَّى
إِفَاقَةُ مَنْ بِهِ سُكْرَانِ
وَقَالَ الْآخَرُ :
قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ ***
الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ***
وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
السَّابِعَةُ : أَنَّهُ يُورِثُ الْقَلْبَ ثَبَاتًا
وَشَجَاعَةً وَقُوَّةً ، فَجَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ سُلْطَانِ النُّصْرَةِ
وَالْحُجَّةِ ، وَسُلْطَانُ الْقُدْرَةِ وَالْقُوَّةِ ، كَمَا فِي الْأَثَرِ :
" الَّذِي يُخَالِفُ هَوَاهُ ، يَفِرُّ الشَّيْطَانُ مِنْ ظِلِّهِ " .
وَضِدُّ هَذَا تَجِدُ فِي الْمُتَّبِعِ لِهَوَاهُ - مِنْ
ذُلِّ النَّفْسِ وَوَضَاعَتِهَا وَمَهَانَتِهَا وَخِسَّتِهَا وَحَقَارَتِهَا - مَا
جَعَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيمَنْ حَصَاهُ .
كَمَا قَالَ الْحَسَنُ : " إِنَّهُمْ وَإِنْ
طَقْطَقَتْ بِهِمُ الْبِغَالُ ، وَهَمْلَجَتْ بِهِمُ الْبَرَاذِينُ ، إِنَّ ذُلَّ
الْمَعْصِيَةِ فِي رِقَابِهِمْ ، أَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُذِلَّمَنْ عَصَاهُ " .
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعِزَّ قَرِينَ
طَاعَتِهِ ، وَالذُّلَّ قَرِينَ مَعْصِيَتِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : وَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ : 8 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا
وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ :
139 ] .
[ ص: 180 ] وَالْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ ، ظَاهِرٌ
وَبَاطِنٌ ، وَقَالَ تَعَالَى : مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ
الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ
الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [ سُورَةُ فَاطِرٍ : 10 ] .
أَيْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلْيَطْلُبْهَا
بِطَاعَةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ .
وَفِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ : " إِنَّهُ لَا يَذِلُّ
مَنْ وَالَيْتَ ، وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ " وَمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ
فَقَدْ وَالَاهُ فِيمَا أَطَاعَهُ فِيهِ ، وَلَهُ مِنَ الْعِزِّ بِحَسَبِ
طَاعَتِهِ ، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَادَاهُ فِيمَا عَصَاهُ فِيهِ ، وَلَهُ مِنَ
الذُّلِّ بِحَسَبِ مَعْصِيَتِهِ
.
الثَّامِنُ : أَنَّهُ يُسْدَلُ عَلَى الشَّيْطَانِ
مَدْخَلُهُ مِنَ الْقَلْبِ ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مَعَ النَّظْرَةِ وَيَنْفُذُ
مَعَهَا إِلَى الْقَلْبِ أَسْرَعَ مِنْنُفُوذِ الْهَوَاءِ فِي الْمَكَانِ
الْخَالِي ، فَيُمَثِّلُ لَهُ صُورَةَ الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ وَيُزَيِّنُهَا ،
وَيَجْعَلُهَا صَنَمًا يَعْكُفُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ ثُمَّ يَعِدُهُ وَيُمَنِّيهِ ،
وَيُوقِدُ عَلَى الْقَلْبِ نَارَ الشَّهْوَةِ ، وَيُلْقِي عَلَيْهَا حَطَبَ
الْمَعَاصِي الَّتِي لَمْ يَكُنْ يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا بِدُونِ تِلْكَ الصُّورَةِ
، فَيَصِيرُ الْقَلْبُ فِي اللَّهَبِ
.
فَمِنْ ذَلِكَ اللَّهَبِ تِلْكَ الْأَنْفَاسُ الَّتِي
يَجِدُ فِيهَا وَهَجَ النَّارِ ، وَتِلْكَ الزَّفَرَاتُ وَالْحَرْقَاتُ ، فَإِنَّ
الْقَلْبَ قَدْ أَحَاطَتْ بِهِالنِّيرَانُ بِكُلِّ جَانِبٍ ، فَهُوَ فِي وَسَطِهَا
كَالشَّاةِ فِي وَسَطِ التَّنُّورِ ، وَلِهَذَا كَانَتْ عُقُوبَةُ أَصْحَابِ
الشَّهَوَاتِ لِلصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ : أَنْ جُعِلَ لَهُمْ فِي الْبَرْزَخِ
تَنُّورٌ مِنَ النَّارِ ، وَأُودِعَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِيهِ إِلَى يَوْمِ حَشْرِ أَجْسَادِهِمْ
، كَمَا أَرَاهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي
الْمَنَامِ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ .
التَّاسِعَةُ : أَنَّهُ يُفَرِّغُ الْقَلْبَ
لِلْفِكْرَةِ فِي مَصَالِحِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِهَا ، وَإِطْلَاقُ الْبَصَرِ
يُنْسِيهِ ذَلِكَ وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَيَنْفَرِطُ عَلَيْهِ أَمْرُهُ
وَيَقَعُ فِي اتِّبَاعِ هَوَاهُ وَفِي الْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ ، قَالَ
تَعَالَى : وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ
هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا [ سُورَةُ الْكَهْفِ : 28 ] .
وَإِطْلَاقُ النَّظَرِ يُوجِبُ هَذِهِ الْأُمُورَ
الثَّلَاثَةَ بِحَسَبِهِ .
الْعَاشِرَةُ : أَنَّ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ
مَنْفَذًا وَطَرِيقًا يُوجِبُ انْتِقَالَ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ ، وَأَنْ
يَصْلُحَ بِصَلَاحِهِ ، وَيَفْسُدَ بِفَسَادِهِ ، فَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ ؛
فَسَدَ النَّظَرُ ، وَإِذَا فَسَدَ النَّظَرُ ؛ فَسَدَ الْقَلْبُ ، وَكَذَلِكَ فِي
جَانِبِ الصَّلَاحِ ، فَإِذَا خَرِبَتِ الْعَيْنُ وَفَسَدَتْ ؛ خَرِبَ الْقَلْبُ وَفَسَدَ
، وَصَارَ كَالْمَزْبَلَةِ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ النَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ
وَالْأَوْسَاخِ ، فَلَا يَصْلُحُ لِسُكْنَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ
وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ ، وَالْأُنْسِ بِهِ وَالسُّرُورِ بِقُرْبِهِ فِيهِ ،
وَإِنَّمَا يَسْكُنُ فِيهِ أَضْدَادُ ذَلِكَ .
فَهَذِهِ إِشَارَةٌ إِلَى بَعْضِ فَوَائِدِ غَضِّ
الْبَصَرِ نُطْلِعُكَ عَلَى مَا وَرَاءَهَا :
[ ص: 181
]
مَنْعُ تَعَلُّقِ الْقُلُوبِ
الطَّرِيقُ الثَّانِي الْمَانِعُ مِنْ حُصُولِ تَعَلُّقِ
الْقَلْبِ : اشْتِغَالُ الْقَلْبِ بِمَا يَصُدُّهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَيَحُولُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُقُوعِ فِيهِ ، وَهُوَ إِمَّا خَوْفٌ مُقْلِقٌ أَوْ حُبٌّ
مُزْعِجٌ ، فَمَتَى خَلَا الْقَلْبُ مِنْ خَوْفِ مَا فَوَاتُهُ أَضَرُّ عَلَيْهِ
مِنْ حُصُولِ هَذَا الْمَحْبُوبِ ، أَوْ خَوْفِ مَا حُصُولُهُ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ
فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ ، أَوْ مَحَبَّتِهِ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَخَيْرٌ
لَهُ مِنْ هَذَا الْمَحْبُوبِ ، وَفَوَاتُهُ أَضَرُّ عَلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا
الْمَحْبُوبِ ، لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ .
وَشَرْحُ هَذَا : أَنَّ النَّفْسَ لَا تَتْرُكُ مَحْبُوبًا
إِلَّا لِمَحْبُوبٍ أَعْلَى مِنْهُ ، أَوْ خَشْيَةَ مَكْرُوهٍ حُصُولُهُ أَضَرُّ
عَلَيْهِ مِنْ فَوَاتِ هَذَا الْمَحْبُوبِ ، وَهَذَا يَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إِلَى
أَمْرَيْنِ إِنْ فَقَدَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا لَمْ يَنْتَفِعْ بِنَفْسِهِ .
أَحَدُهُمَا : بَصِيرَةٌ صَحِيحَةٌ يُفَرِّقُ بِهَا
بَيْنَ دَرَجَاتِ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ ، فَيُؤْثِرُ أَعْلَى
الْمَحْبُوبَيْنِ عَلَى أَدْنَاهُمَا ، وَيَحْتَمِلُ أَدْنَى الْمَكْرُوهَيْنِ
لِيَخْلُصَ مِنْ أَعْلَاهُمَا ، وَهَذَا خَاصَّةُ الْعَقْلِ ، وَلَا يُعَدُّ
عَاقِلًا مَنْ كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ ، بَلْ قَدْ تَكُونُ الْبَهَائِمُ أَحْسَنَ
حَالًا مِنْهُ .
الثَّانِي
: قُوَّةُ عَزْمٍ وَصَبْرٍ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ هَذَا
الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ، فَكَثِيرًا مَا يَعْرِفُ الرَّجُلُ قَدْرَ التَّفَاوُتِ ،
وَلَكِنْ يَأْبَى لَهُ ضَعْفُ نَفْسِهِ وَهَمَّتِهِ وَعَزِيمَتِهِ عَلَى أَشْيَاءَ
لَا تَنْفَعُ مِنْ خِسَّتِهِ وَحِرْصِهِ وَوَضَاعَةِ نَفْسِهِ وَخِسَّةِ هِمَّتِهِ
، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ ،
وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِمَامَةَ الدِّينِ إِلَّا مِنْ أَهْلِ
الصَّبْرِ وَالْيَقِينِ ، فَقَالَ تَعَالَى ، وَبِقَوْلِهِ يَهْتَدِي
الْمُهْتَدُونَ مِنْهُمْ : وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [ سُورَةُ السَّجْدَةِ : 24 ] .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ ،
وَيَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ ، وَضِدُّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ ، وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ فِي نَفْسِهِ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ
، فَالْأَوَّلُ يَمْشِي فِي نُورِهِ وَيَمْشِي النَّاسُ فِي نُورِهِ ، وَالثَّانِي
قَدْ طُفِئَ نُورُهُ ، فَهُوَ يَمْشِي فِي الظُّلُمَاتِ وَمَنْ تَبِعَهُ فِي
ظُلْمَتِهِ ، وَالثَّالِثُ يَمْشِي فِي نُورِهِ وَحْدَهُ .
فَصْلٌ: تَوْحِيدِ الْمَحْبُوبِإِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ
الْمُقَدِّمَةَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ فِي الْقَلْبِ حُبُّ الْمَحْبُوبِ
الْأَعْلَى وَعِشْقُ الصُّوَرِ أَبَدًا ، بَلْ هُمَا ضِدَّانِلَا يَتَلَاقَيَانِ ،
بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ ، فَمَنْ كَانَتْ قُوَّةُ حُبِّهِ
كُلُّهَا لِلْمَحْبُوبِ الْأَعْلَى الَّذِي مَحَبَّةُ مَا سِوَاهُ بَاطِلَةٌ
وَعَذَابٌ عَلَى صَاحِبِهَا صَرَفَهُ ذَلِكَ عَنْ [ ص: 182 ] مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ ، وَإِنْ
أَحَبَّهُ لَمْ يُحِبَّهُ إِلَّا لِأَجْلِهِ ، أَوْ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى
مَحَبَّتِهِ ، أَوْ قَاطِعًا لَهُ عَمَّا يُضَادُّ مَحَبَّتَهُ وَيُنْقِصُهَا ،
وَالْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ تَقْتَضِي تَوْحِيدَ الْمَحْبُوبِ ، وَأَنْ لَا
يُشْرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَإِذَا كَانَ
الْمَحْبُوبُ مِنَ الْخَلْقِ يَأْنَفُ وَيَغَارُ أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ مَحَبَّةُ غَيْرِهِ
فِي مَحَبَّتِهِ ، وَيَمْقُتُهُ لِذَلِكَ ، وَيُبْعِدُهُ لَا يُحْظِيهِ بِقُرْبِهِ
، وَيَعُدُّهُ كَاذِبًا فِي دَعْوَى مَحَبَّتِهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا
لِصَرْفِ كُلِّ قُوَّةِ الْمَحَبَّةِ إِلَيْهِ ، فَكَيْفَ بِالْحَبِيبِ الْأَعْلَى
الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْمَحَبَّةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ ، وَكُلُّ مَحَبَّةٍ
لِغَيْرِهِ فَهِيَ عَذَابٌ عَلَى صَاحِبِهَا وَوَبَالٌ ؟ وَلِهَذَا لَا يَغْفِرُ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ ، وَيَغْفِرَ مَا
دُونُ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ .
فَمَحَبَّةُ الصُّوَرِ تُفَوِّتُ مَحَبَّةَ مَا هُوَ أَنْفَعُ
لِلْعَبْدِ ، بَلْ تُفَوِّتُ مَحَبَّةَ مَا لَيْسَ لَهُ صَلَاحٌ وَلَا نَعِيمٌ ،
وَلَا حَيَاةٌ نَافِعَةٌإِلَّا بِمَحَبَّتِهِ وَحْدَهُ ، فَلْيَخْتَرْ إِحْدَى
الْمَحَبَّتَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي الْقَلْبِ وَلَا
يَرْتَفِعَانِ مِنْهُ ، بَلْ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَذِكْرِهِ
وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ ، ابْتَلَاهُ بِمَحَبَّةِ غَيْرِهِ ؛ فَيُعَذِّبُهُ
بِهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْبَرْزَخِ وَفِي الْآخِرَةِ ، فَإِمَّا أَنْ
يُعَذِّبَهُ بِمَحَبَّةِ الْأَوْثَانِ ، أَوْ بِمَحَبَّةِ الصُّلْبَانِ ، أَوْ
بِمَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ ، أَوْ بِمَحَبَّةِ النِّسْوَانِ، أَوْ بِمَحَبَّةِ الْعُشَرَاءِ
وَالْإِخْوَانِ ، أَوْ بِمَحَبَّةِ مَا دُونُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي غَايَةِ
الْحَقَارَةِ وَالْهَوَانِ ، فَالْإِنْسَانُ عَبْدُ مَحْبُوبِهِ كَائِنًا مَنْ
كَانَ ، كَمَا قِيلَ :
أَنْتَ الْقَتِيلُ بِكُلِّ مَنْ أَحْبَبْتَهُ فَاخْتَرْ
لِنَفْسِكَ فِي الْهَوَى مَنْ تَصْطَفِي
فَمَنْ لَمْ يَكُنْ إِلَهُهُ مَالِكَهُ وَمَوْلَاهُ ،
كَانَ إِلَهُهُ هَوَاهُ ، قَالَ تَعَالَى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ
هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ
وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ
[ سُورَةُ الْجَاثِيَةِ : 23 ]
.
فَصْلٌ:
خَاصِّيَّةِ التَّعَبُّدِوَخَاصِّيَّةُ التَّعَبُّدِ :
الْحُبُّ مَعَ الْخُضُوعِ ، وَالذُّلِّ لِلْمَحْبُوبِ ، فَمَنْ أَحَبَّ مَحْبُوبًا
وَخَضَعَ لَهُ فَقَدْ تَعَبَّدَ قَلْبَهُ لَهُ ، بَلِ التَّعَبُّدُ آخِرُ مَرَاتِبِ
الْحُبِّ ، وَيُقَالُ لَهُ التَّتَيُّمُ أَيْضًا ، فَإِنَّ أَوَّلَ مَرَاتِبِهِ
الْعَلَاقَةُ ، وَسُمِّيَتْ عَلَاقَةً لِتَعَلُّقِ الْمُحِبِّ بِالْمَحْبُوبِ .
قَالَ الشَّاعِرُ :
وَعُلِّقْتُ لَيْلَى وَهْيَ ذَاتُ تَمَائِمِ وَلَمْ
يَبْدُ لِلْأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
وَقَالَ الْآخَرُ :
أَعَلَاقَةٌ أُمَّ الْوَلِيدِ بُعَيْدَ مَا ***
أَفْنَانُ رَأْسِكَ كَالثِّغَامِ الْمُخْلِسِ
[ ص: 183 ] ثُمَّ بَعْدَهَا الصَّبَابَةُ ، وَسُمِّيَتْ
بِذَلِكَ لِانْصِبَابِ الْقَلْبِ إِلَى الْمَحْبُوبِ ، قَالَ الشَّاعِرُ :
تَشَكَّى الْمُحِبُّونَ الصَّبَابَةَ لَيْتَنِي ***
تَحَمَّلْتُ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي
فَكَانَتْ لِقَلْبِي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّهَا ***
فَلَمْ يَلْقَهَا قَبْلِي مُحِبٌّ وَلَا بَعْدِي
ثُمَّ الْغَرَامُ ، وَهُوَ لُزُومُ الْحُبِّ لِلْقَلْبِ
لُزُومًا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ غَرِيمًا ؛
لِمُلَازَمَتِهِ صَاحِبَهُ ، وَمِنْهُقَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ
غَرَامًا [ سُورَةُ الْفُرْقَانِ : 65
] .
وَقَدْ أُولِعَ الْمُتَأَخِّرُونَ بِاسْتِعْمَالِ هَذَا
اللَّفْظِ فِي الْحُبِّ ، وَقَلَّ أَنْ تَجِدَهُ فِي أَشْعَارِ الْعَرَبِ .
ثُمَّ الْعِشْقُ وَهُوَ إِفْرَاطُ الْمَحَبَّةِ ،
وَلِهَذَا لَا يُوصَفُ بِهِ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَلَا يُطْلَقُ فِي
حَقِّهِ .
ثُمَّ الشَّوْقُ وَهُوَ سَفَرُ الْقَلْبِ إِلَى
الْمَحْبُوبِ أَحَثَّ السَّفَرِ ، وَقَدْ جَاءَ إِطْلَاقُهُ فِي حَقِّ الرَّبِّ
تَعَالَى كَمَا فِي مُسْنَدِ الْإِمَامِأَحْمَدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ :
" أَنَّهُ صَلَّى صَلَاةً فَأَوْجَزَ فِيهَا ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ،
فَقَالَ أَمَا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدَعْوَاتٍ كَانَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - يَدْعُو بِهِنَّ : اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِعِلْمِكَ
الْغَيْبَ ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ ، أَحْيِنِي إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ
خَيْرًا لِي ، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي ، اللَّهُمَّ
إِنِّي أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَأَسْأَلُكَ
كَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَأَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي
الْفَقْرِ وَالْغِنَى ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ ، وَأَسْأَلُكَ
قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ
، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ ، وَأَسْأَلُكَ الشَّوْقَ إِلَى
لِقَائِكَ ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ ،
اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ .
وَفِي أَثَرٍ آخَرَ : " طَالَ شَوْقُ الْأَبْرَارِ
إِلَى لِقَائِي ، وَأَنَا إِلَى لِقَائِهِمْ أَشَدُّ شَوْقًا " .
وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ : مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ
أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ .
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْبَصَائِرِ فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى : مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ [ سُورَةُ
الْعَنْكَبُوتِ : 5 ] .
لَمَّا عَلِمَ سُبْحَانَهُ شِدَّةَ شَوْقِ أَوْلِيَائِهِ
إِلَى لِقَائِهِ ، وَأَنَّ قُلُوبَهُمْ لَا تَهْتَدِي دُونَ لِقَائِهِ ، ضَرَبَ
لَهُمْ أَجَلًا وَمَوْعِدًا لِلِقَائِهِ ، وَتَسْكُنُ نُفُوسُهُمْ بِهِ ، وَأَطْيَبُ
الْعَيْشِ وَأَلَذُّهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَيْشُ الْمُحِبِّينَ الْمُشْتَاقِينَ
الْمُسْتَأْنِسِينَ ، فَحَيَاتُهُمْ هِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ
، وَلَا حَيَاةَ لِلْقَلْبِ [ ص: 184 ] أَطْيَبَ وَلَا أَنْعَمَ وَلَا أَهْنَأَ مِنْهَا
، وَهِيَ الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [
سُورَةُ النَّحْلِ : 97 ] .
لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا الْحَيَاةَ الْمُشْتَرَكَةَ
بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكُفَّارِ ، وَالْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ ، وَمِنْ
طِيبِ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ ، بَلْ رُبَّمَا
زَادَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ فِي ذَلِكَ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً ،
وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُلِكُلِّ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا أَنْ يُحْيِيَهُ
حَيَاةً طَيِّبَةً ، فَهُوَ صَادِقُ الْوَعْدِ الَّذِي لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ ،
وَأَيُّ حَيَاةٍ أَطْيَبُ مِنْ حَيَاةِ مَنِ اجْتَمَعَتْ هُمُومُهُ كُلُّهَا
وَصَارَتْ هَمًّا وَاحِدًا فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ ؟ وَلَمْ يَتَشَعَّبْ قَلْبُهُ ،
بَلْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ ، وَاجْتَمَعَتْ إِرَادَتُهُ وَأَفْكَارُهُ الَّتِي
كَانَتْ مُتَقَسِّمَةً بِكُلِّ وَادٍ مِنْهَا شُعْبَةٌ عَلَى اللَّهِ ، فَصَارَ
ذِكْرُهُ بِمَحْبُوبِهِ الْأَعْلَى وَحُبُّهُ وَالشَّوْقُ إِلَى لِقَائِهِ ، وَالْأُنْسُ
بِقُرْبِهِ هُوَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهِ تَدُورُ هُمُومُهُ
وَإِرَادَتُهُ وَقُصُودُهُ بِكُلِّ خَطَرَاتِ قَلْبِهِ ، فَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ
بِاللَّهِ ، وَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ ، وَإِنْ سَمِعَ فَبِهِ يَسْمَعُ ،
وَإِنْ أَبْصَرَ فَبِهِ يُبْصِرُ ، وَبِهِ يَبْطِشُ ، وَبِهِ يَمْشِي ، وَبِهِ
يَسْكُنُ ، وَبِهِ يَحْيَا ، وَبِهِ يَمُوتُ ، وَبِهِ يُبْعَثُ ، كَمَا فِي
صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا يَرْوِي
عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، أَنَّهُ قَالَ : " مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ
عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ
إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ
الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ الَّتِي
يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا ، فَبِي يَسْمَعُ ، وَبِي
يُبْصِرُ ، وَبِي يَمْشِي ، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ
اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ ، وَمَا تَرَدَّدْتُ فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ ، كَتَرَدُّدِي
عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ ، وَأَكْرَهُ
مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ
" .
فَتَضَمَّنَ هَذَا الْحَدِيثُ الشَّرِيفُ الْإِلَهِيُّ -
الَّذِي حَرَامٌ عَلَى غَلِيظِ الطَّبْعِ كَسِيفِ الْقَلْبِ فَهْمُ مَعْنَاهُ
وَالْمُرَادُ بِهِ - حَصْرَ أَسْبَابِ مَحَبَّتِهِ فِي أَمْرَيْنِ : أَدَاءِ
فَرَائِضِهِ ، وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِالنَّوَافِلِ .
وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَدَاءَ فَرَائِضِهِ
أَحَبُّ مَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إِلَيْهِ الْمُتَقَرِّبُونَ ، ثُمَّ بَعْدَهَا
النَّوَافِلُ ، وَأَنَّ الْمُحِبَّ لَا يَزَالُ يُكْثِرُ مِنَ النَّوَافِلِ حَتَّى
يَصِيرَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ ، فَإِذَا صَارَ مَحْبُوبًا لِلَّهِ أَوْجَبَتْ
مَحَبَّتُهُ لِلَّهِ لَهُ مَحَبَّةً أُخْرَى مِنْهُ فَوْقَ الْمَحَبَّةِ الْأُولَى
، فَشَغَلَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ قَلْبَهُ عَنِ الْفِكْرَةِ وَالِاهْتِمَامِ
بِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ ، وَمَلَكَتْ عَلَيْهِ رُوحَهُ ، وَلَمْ يَبْقَ فِيهِ سِعَةٌ
لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ أَلْبَتَّةَ ، فَصَارَ ذِكْرُ مَحْبُوبِهِ وَحُبُّهُ وَمَثَلُهُ
الْأَعْلَى ، وَمَالِكًا لِزِمَامِ قَلْبِهِ مُسْتَوْلِيًا عَلَى رُوحِهِ
اسْتِيلَاءَ الْمَحْبُوبِ عَلَى مَحَبَّةِ الصَّادِقِ فِي مَحَبَّتِهِ ، الَّتِي
قَدِ اجْتَمَعَتْ قُوَى مَحَبَّةِ حُبِّهِ كُلُّهَا لَهُ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْمُحِبَّ إِنْ سَمِعَ سَمِعَ
بِمَحْبُوبِهِ ، وَإِنْ أَبْصَرَ أَبْصَرَ بِهِ ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بِهِ ،
وَإِنْ مَشَى مَشَى بِهِ ، فَهُوَفِي قَلْبِهِ وَمَعَهُ وَأَنِيسُهُ وَصَاحِبُهُ ،
فَالْبَاءُ هَاهُنَا لِلْمُصَاحَبَةِ ، وَهِيَ مُصَاحَبَةٌ لَا نَظِيرَ لَهَا ،
وَلَا تُدْرَكُ بِمُجَرَّدِ الْإِخْبَارِ عَنْهَا وَالْعِلْمِ بِهَا ،
فَالْمَسْأَلَةُ حَالِيَّةٌ لَا عِلْمِيَّةٌ مَحْضَةٌ .
[ ص: 185 ] وَإِذَا كَانَ الْمَخْلُوقُ يَجِدُ هَذَا فِي
مَحَبَّةِ الْمَخْلُوقِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ لَهَا وَلَمْ يُفْطَرْ عَلَيْهَا ، كَمَا
قَالَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ :
خَيَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي ***
وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ
وَقَالَ الْآخَرُ :
وَمِنْ عَجَبٍ أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْهِمُ *** فَأَسْأَلُ
عَنْهُمْ مَنْ لَقِيتُ وَهُمْ مَعِي
وَتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا ***
وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي
وَهَذَا أَلْطَفُ مِنْ قَوْلِ الْآخَرِ :
إِنْ قُلْتُ غِبْتِ فَقَلْبِي لَا يُصَدِّقُنِي *** إِذْ
أَنْتَ فِيهِ مَكَانَ السِّرِّ لَمْ تَغِبِ
أَوْ قُلْتُ مَا غِبْتِ قَالَ الطَّرْفُ ذَا كَذِبٌ ***
فَقَدْ تَحَيَّرْتُ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ
فَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْنَى إِلَى الْمُحِبِّ مِنْ
مَحْبُوبِهِ ، وَرُبَّمَا تَمَكَّنَتْ مِنْهُ الْمَحَبَّةُ ، حَتَّى يَصِيرَ
أَدْنَى إِلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ، بِحَيْثُيَنْسَى نَفْسَهُ وَلَا يَنْسَاهُ ،
كَمَا قَالَ :
أُرِيدُ لِأَنْسَى ذِكْرَهَا فَكَأَنَّمَا *** تُمَثَّلُ
لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبِيلِ
وَقَالَ الْآخَرُ :
يُرَادُ مِنَ الْقَلْبِ نِسْيَانُكُمْ *** وَتَأْبَى
الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ
وَخَصَّ فِي الْحَدِيثِ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْيَدَ
وَالرِّجْلَ بِالذِّكْرِ ، فَإِنَّ هَذِهِ الْآلَاتِ آلَاتُ الْإِدْرَاكِ وَآلَاتُ
الْفِعْلِ ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ يُورِدَانِ عَلَى الْقَلْبِ الْإِرَادَةَ وَالْكَرَاهَةَ
، وَيَجْلِبَانِ إِلَيْهِ الْحُبَّ وَالْبُغْضَ ، فَيَسْتَعْمِلُ الْيَدَ
وَالرِّجْلَ ، فَإِذَا كَانَ سَمْعُ الْعَبْدِ بِاللَّهِ ، وَبَصَرُهُ بِاللَّهِ
كَانَ مَحْفُوظًا فِي آلَاتِ إِدْرَاكِهِ ، وَكَانَ مَحْفُوظًا فِي حُبِّهِ
وَبُغْضِهِ ، فَحُفِظَ فِي بَطْشِهِ وَمَشْيِهِ .
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ اكْتَفَى بِذِكْرِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ
وَالْيَدِ وَالرِّجْلِ عَنِ اللِّسَانِ ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ إِدْرَاكُ
السَّمْعِ الَّذِي يَحْصُلُ بِاخْتِيَارِهِ تَارَةً ، وَبِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ
تَارَةً ، وَكَذَلِكَ الْبَصَرُ قَدْ يَقَعُ بِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ فَجْأَةً ،
وَكَذَلِكَ حَرَكَةُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُمَا
، فَكَيْفَ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ الَّتِي لَا تَقَعُ إِلَّا بِقَصْدٍ
وَاخْتِيَارٍ ؟ وَقَدْ يَسْتَغْنِي الْعَبْدُ عَنْهَا إِلَّا حَيْثُ أُمِرَ بِهَا .
وَأَيْضًا فَانْفِعَالُ اللِّسَانِ عَنِ الْقَلْبِ
أَتَمُّ مِنَ انْفِعَالِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ ، فَإِنَّهُ تُرْجُمَانُهُ
وَرَسُولُهُ .
وَتَأَمَّلْ كَيْفَ حَقَّقَ تَعَالَى كَوْنَ الْعَبْدِ
بِهِ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَبَطْشُهُ وَمَشْيُهُ بِقَوْلِهِ : " كُنْتُ
سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ ، وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا ، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا " تَحْقِيقًا
لِكَوْنِهِ مَعَ عَبْدِهِ ، وَكَوْنِ عَبْدِهِ فِي إِدْرَاكَاتِهِ ، بِسَمْعِهِ
وَبَصَرِهِ وَحَرَكَاتِهِ بِيَدَيْهِ وَرِجْلِهِ .
[ ص: 186 ] وَتَأَمَّلْ كَيْفَ قَالَ : " فَبِي
يَسْمَعُ ، وَبِي يُبْصِرُ " وَلَمْ يَقُلْ : فَلِي يَسْمَعُ ، وَلِي
يُبْصِرُ ، وَرُبَّمَا يَظُنُّ الظَّنَّانُ أَنَّ اللَّامَ أَوْلَى بِهَذَا
الْمَوْضِعِ ، إِذْ هِيَ أَدَلُّ عَلَى الْغَايَةِ ، وَوُقُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ
لِلَّهِ ، وَذَلِكَ أَخَصُّ مِنْ وُقُوعِهَا بِهِ ، وَهَذَا مِنَ الْوَهْمِ
وَالْغَلَطِ ، إِذْ لَيْسَتِ الْبَاءُ هَاهُنَا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِعَانَةِ ،
فَإِنَّ حَرَكَاتِ الْأَبْرَارِ وَالْفُجَّارِ وَإِدْرَاكَاتِهِمْ إِنَّمَا هِيَ
بِمَعُونَةِ اللَّهِ لَهُمْ ، وَإِنَّ الْبَاءَ هَاهُنَا لِلْمُصَاحَبَةِ ، أَيْ : إِنَّمَا
يَسْمَعُ وَيُبْصِرُ وَيَبْطِشُ وَيَمْشِي وَأَنَا صَاحِبُهُ مَعَهُ ، كَقَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ : " أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ
بِي شَفَتَاهُ " وَهَذِهِ هِيَ الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [ سُورَةُ التَّوْبَةِ :
40 ] .
وَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِنَّ
اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [ سُورَةُ الْعَنْكَبُوتِ : 69 ] .
وَقَوْلِهِ : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا
وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [ سُورَةُ النَّحْلِ : 128 ] .
وَقَوْلِهِ : وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ [ سُورَةُ الْأَنْفَالِ : 46 ] .
وَقَوْلِهِ : كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 62 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى لِمُوسَى وَهَارُونَ : إِنَّنِي
مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [ سُورَةُ طه : 46 ] .
فَهَذِهِ الْبَاءُ مُفِيدَةٌ لِمَعْنَى هَذِهِ
الْمَعِيَّةِ دُونَ اللَّامِ ، وَلَا يَتَأَتَّى لِلْعَبْدِ الْإِخْلَاصُ
وَالصَّبْرُ وَالتَّوَكُّلُ ، وَنُزُولُهُ فِي مَنَازِلِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَّا
بِهَذِهِ الْبَاءِ وَهَذِهِ الْمَعِيَّةِ .
فَمَتَى كَانَ الْعَبْدُ بِاللَّهِ هَانَتْ عَلَيْهِ
الْمَشَاقُّ ، وَانْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي حَقِّهِ ، فَبِاللَّهِ يَهُونُ
كُلُّ صَعْبٍ ، وَيَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ ، وَيَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ ،
وَبِاللَّهِ تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ ، فَلَا هَمَّ مَعَ
اللَّهِ ، وَلَا غَمَّ وَلَا حَزَنَ إِلَّا حَيْثُ يُفَوِّتُهُ الْعَبْدُ مَعْنَى
هَذِهِ الْبَاءِ ، فَيَصِيرُ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ كَالْحُوتِ ، إِذَا فَارَقَ
الْمَاءَ يَثِبُ وَيَنْقَلِبُ حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ .
وَلَمَّا حَصَلَتْ هَذِهِ الْمُوَافَقَةُ مِنَ الْعَبْدِ
لِرَبِّهِ فِي مَحَابِّهِ ؛ حَصَلَتْ مُوَافَقَةُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ فِي
حَوَائِجِهِ وَمَطَالِبِهِ ، فَقَالَ
: " وَلَئِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ ، وَلَئِنِ
اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ " . أَيْ : كَمَا وَافَقَنِي فِي مُرَادِي
بِامْتِثَالِ أَوَامِرِي وَالتَّقَرُّبِ بِمَحَابِّي ، فَأَنَا أُوَافِقُهُ فِي رَغْبَتِهِ
وَرَهْبَتِهِ فِيمَا يَسْأَلُنِي أَنْأَفْعَلَهُ بِهِ ، وَيَسْتَعِيذُنِي أَنْ
يَنَالَهُ ، وَقَوِيَ أَمْرُ هَذِهِ الْمُوَافَقَةِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ حَتَّى
اقْتَضَى تَرَدُّدَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ [ ص: 187 ] فِي إِمَاتَةِ عَبْدِهِ ؛
لِأَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ
عَبْدُهُ ، وَيَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ ، فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ يَقْتَضِي أَنْ لَا
يُمِيتَهُ وَلَكِنَّ مَصْلَحَتَهُ فِي إِمَاتَتِهِ ، فَإِنَّهُ مَا أَمَاتَهُ
إِلَّا لِيُحْيِيَهُ ، وَلَا أَمْرَضَهُ إِلَّا لِيُصِحَّهُ ، وَلَا أَفْقَرَهُ إِلَّا
لِيُغْنِيَهُ ، وَلَا مَنَعَهُ إِلَّا لِيُعْطِيَهُ ، وَلَمْ يُخْرَجْ مِنَ
الْجَنَّةِ فِي صُلْبِ أَبِيهِ إِلَّا لِيُعِيدَهُ إِلَيْهَا عَلَى أَحْسَنِ
أَحْوَالِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ لِأَبِيهِ اخْرُجْ مِنْهَا إِلَّا وَهُوَ يُرِيدُ
أَنْ يُعِيدَهُ إِلَيْهَا ، فَهَذَا هُوَ الْحَبِيبُ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا سِوَاهُ
، بَلْ لَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَنْبَتِ شَعْرَةٍ مِنَ الْعَبْدِ مَحَبَّةٌ تَامَّةٌ
لِلَّهِ ، لَكَانَ بَعْضُ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَبْدِهِ .
نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْهَوَى *** مَا
الْحُبُّ إِلَّا لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ
كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى ***
وَحَنِينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ
فَصْلٌ:
آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّثُمَّ التَّتَيُّمُ ، وَهُوَ
آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّ ، وَهُوَ تَعَبُّدُ الْمُحِبِّ لِمَحْبُوبِهِ ، يُقَالُ
تَيَّمَهُ الْحُبُّ ، إِذَا عَبَّدَهُ ، وَمِنْهُ : تَيْمُ اللَّهِ ، أَيْ عَبْدُ اللَّهِ
، وَحَقِيقَةُ التَّعَبُّدِ : الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ لِلْمَحْبُوبِ ، وَمِنْهُ
قَوْلُهُمْ : طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ أَيْ مُذَلَّلٌ ، قَدْ ذَلَّلَتْهُ الْأَقْدَامُ ،
فَالْعَبْدُ هُوَ الَّذِي ذَلَّلَهُالْحُبُّ وَالْخُضُوعُ لِمَحْبُوبِهِ ،
وَلِهَذَا كَانْتَ أَشْرَفُ أَحْوَالِ الْعَبْدِ وَمَقَامَاتِهِ فِي
الْعُبُودِيَّةِ ، فَلَا مَنْزِلَ لَهُ أَشْرَفُ مِنْهَا .
وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْرَمَ الْخَلْقِ
عَلَيْهِ وَأَحَبَّهُمْ إِلَيْهِ ، وَهُوَ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعُبُودِيَّةِ فِي أَشْرَفِ مَقَامَاتِهِ ، وَهِيَ
مَقَامُ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ ، وَمَقَامُ التَّحَدِّي بِالنُّبُوَّةِ ، وَمَقَامُ
الْإِسْرَاءِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ
يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [ سُورَةُ الْجِنِّ : 19 ] .
وَقَالَ
: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى
عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 23 ] .
وَقَالَ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى [ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
: 1 ] .
حَدِيثُ الشَّفَاعَةِ : اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ ،
عَبْدٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ،
فَنَالَ مَقَامَ الشَّفَاعَةِ بِكَمَالِ عُبُودِيَّتِهِ ، وَكَمَالِ مَغْفِرَةِ
اللَّهِ لَهُ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ
لَا شَرِيكَ لَهُ ، الَّتِي هِيَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْمَحَبَّةِ مَعَ أَكْمَلِ
أَنْوَاعِ الْخُضُوعِ ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ الْإِسْلَامِ وَمِلَّةُ
إِبْرَاهِيمَ الَّتِي مَنْ رَغِبَ عَنْهَا فَقَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ ، قَالَ
تَعَالَى : [ ص: 188 ] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ
سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ
لَمِنَ الصَّالِحِينَ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ
الْعَالَمِينَ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [ سُورَةُ
الْبَقَرَةِ : 130 - 133 ] .
وَلِهَذَا كَانَ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ
الشِّرْكُ .
فَصْلٌ:
الشِّرْكُ فِي الْمَحَبَّةِوَأَصْلُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ
، وَالْإِشْرَاكِ فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 165 ] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ
يُشْرِكُ بِهِ نِدًّا يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ مِنْ أَصْحَابِ الْأَنْدَادِ
لِأَنْدَادِهِمْ .
وَقِيلَ
: بَلِ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ ،
فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَحَبُّوا اللَّهَ ، لَكِنْ لَمَّا شَرِكُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
أَنْدَادِهِمْ فِي الْمَحَبَّةِ ضَعُفَتْ مَحَبَّتُهُمْ لِلَّهِ ، وَالْمُوَحِّدُونَ
لِلَّهِ لَمَّا خَلُصَتْ مَحَبَّتُهُمْ لَهُ كَانَتْ أَشَدَّ مِنْ مَحَبَّةِ
أُولَئِكَ ، وَالْعَدْلُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ هُوَ فِي هَذِهِ الْمَحَبَّةِ ، كَمَا تَقَدَّمَ .
وَلَمَّا كَانَ مُرَادُ اللَّهِ مِنْ خَلْقِهِ خُلُوصَ
هَذِهِ الْمَحَبَّةِ لَهُ ، أَنْكَرَ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَلِيًّا
أَوْ شَفِيعًا غَايَةَ الْإِنْكَارِ ، وَجَمْعُ ذَلِكَ تَارَةً ، وَإِفْرَادُ
أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ ، فَقَالَ تَعَالَى : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ
اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ [ سُورَةُ يُونُسَ : 3 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى
الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا
تَتَذَكَّرُونَ [ سُورَةُ السَّجْدَةِ : 4 ] .
وَقَالَ فِي الْإِفْرَادِ : أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ
اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا
يَعْقِلُونَ قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا [ سُورَةُ الزُّمَرِ : 43 - 44 ] .
[ ص: 189
] وَقَالَ تَعَالَى : وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ
يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ
وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 51 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا
يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [ سُورَةُ الْجَاثِيَةِ : 10 ] .
فَإِذَا وَالَى الْعَبْدُ رَبَّهُ وَحْدَهُ أَقَامَ لَهُ
الشُّفَعَاءَ ، وَعَقَدَ الْمُوَالَاةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ
الْمُؤْمِنِينَ فَصَارُوا أَوْلِيَاءَهُفِي اللَّهِ ، بِخِلَافِ مَنِ اتَّخَذَ
مَخْلُوقًا وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ .
فَهَذَا لَوْنٌ وَذَاكَ لَوْنٌ ، كَمَا أَنَّ الشَّفَاعَةَ
الشَّرِكِيَّةَ الْبَاطِلَةَ لَوْنٌ ، وَالشَّفَاعَةَ الْحَقَّ الثَّابِتَةَ
الَّتِي إِنَّمَا تُنَالُ بِالتَّوْحِيدِ لَوْنٌ ، وَهَذَا مَوْضِعُ فُرْقَانٍ
بَيْنَ أَهْلِ التَّوْحِيدِ وَأَهْلِ الْإِشْرَاكِ ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
.
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ لَا
تَحْصُلُ مَعَ الْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ فِي الْمَحَبَّةِ ، بِخِلَافِ الْمَحَبَّةِ
لِلَّهِ ، فَإِنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْعُبُودِيَّةِ وَمُوجِبَاتِهَا ، فَإِنَّ
مَحَبَّةَ الرَّسُولِ - بَلْ تَقْدِيمُهُ فِي الْحُبِّ عَلَى الْأَنْفُسِ
وَالْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ - لَا يَتِمُّ الْإِيمَانُ إِلَّا بِهَا ، إِذْ مَحَبَّتُهُ
مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ، وَكَذَلِكَ كَلُّ حُبٍّ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ ، كَمَا
فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ :
ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ .
وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ : لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ
الْإِيمَانِ إِلَّا مَنْ كَانَ فِيهِ ثَلَاثُ خِصَالٍ : أَنْ يَكُونَ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا
يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ
إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ : مَنْ أَحَبَّ
لِلَّهِ ، وَأَبْغَضَ لِلَّهِ ، وَأَعْطَى لِلَّهِ ، وَمَنَعَ لِلَّهِ ، فَقَدِ
اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : مَا تَحَابَّ رَجُلَانِ فِي
اللَّهِ إِلَّا كَانَ أَفْضَلُهُمَا أَشَدَّهُمَا حُبًّا لِصَاحِبِهِ .
فَإِنَّ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّةِ
اللَّهِ تَعَالَى وَمُوجِبَاتِهَا ، وَكُلَّمَا كَانَتْ أَقْوَى كَانَ أَصْلُهَا
كَذَلِكَ .
فَصْلٌ:
أَنْوَاعُ الْمَحَبَّةِوَهَاهُنَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ
مِنَ الْمَحَبَّةِ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهَا ، وَإِنَّمَا ضَلَّ مَنْ ضَلَّ
بِعَدَمِ التَّمْيِيزِ بَيْنَهَا
.
[ ص: 190 ] أَحَدُهَا : مَحَبَّةُ اللَّهِ ، وَلَا
تَكْفِي وَحْدَهَا فِي النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالْفَوْزِ بِثَوَابِهِ ،
فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَعُبَّادَ الصَّلِيبِ وَالْيَهُودَ وَغَيْرَهُمْ
يُحِبُّونَ اللَّهَ .
الثَّانِي : مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّ اللَّهُ ، وَهَذِهِ
هِيَ الَّتِي تُدْخِلُهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَتُخْرِجُهُ مِنَ الْكُفْرِ ،
وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَقْوَمُهُمْ بِهَذِهِ الْمَحَبَّةِ
وَأَشَدُّهُمْ فِيهَا .
الثَّالِثُ
: الْحُبُّ لِلَّهِ وَفِيهِ ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ
مَحَبَّةِ مَا يُحِبُّ ، وَلَا تَسْتَقِيمُ مَحَبَّةُ مَا يُحِبُّ إِلَّا فِيهِ
وَلَهُ .
الرَّابِعُ :
الْمَحَبَّةُ مَعَ اللَّهِ ، وَهِيَ الْمَحَبَّةُ
الشِّرِكِيَّةُ ، وَكُلُّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا مَعَ اللَّهِ لَا لِلَّهِ ، وَلَا
مِنْ أَجْلِهِ ، وَلَا فِيهِ ، فَقَدِ اتَّخَذَهُ نِدًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ ، وَهَذِهِ
مَحَبَّةُ الْمُشْرِكِينَ .
وَبَقِيَ قِسْمٌ خَامِسٌ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ :
وَهِيَ الْمَحَبَّةُ الطَّبِيعِيَّةُ ، وَهِيَ مَيْلُ الْإِنْسَانِ إِلَى مَا
يُلَائِمُ طَبْعَهُ ، كَمَحَبَّةِ الْعَطْشَانِ لِلْمَاءِ ، وَالْجَائِعِ
لِلطَّعَامِ ، وَمَحَبَّةِ النَّوْمِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ ، فَتِلْكَ لَا
تُذَمُّ إِلَّا إِذَا أَلْهَتْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَشَغَلَتْ عَنْ مَحَبَّتِهِ
، كَمَا قَالَ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [ سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ
: 9 ] .
وَقَالَ تَعَالَى رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ [ سُورَةُ النُّورِ : 37 ] .
فَصْلٌ:
كَمَالُ الْمَحَبَّةِثُمَّ الْخُلَّةُ وَهِيَ
تَتَضَمَّنُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَنِهَايَتَهَا ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى فِي
الْقَلْبِ سَعَةٌ لِغَيْرِ مَحْبُوبِهِ ، وَهِيَ مَنْصِبٌ لَا يَقْبَلُ
الْمُشَارَكَةَ بِوَجْهٍ مَا ، وَهَذَا الْمَنْصِبُ خَاصٌّ لِلْخَلِيلَيْنِ -
صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمَا - : إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ ، كَمَا قَالَ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا
كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا
.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ
خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا ، وَلَكِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ
اللَّهِ .
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ
خَلِيلٍ مِنْ خُلَّتِهِ وَلَمَّا سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
الْوَلَدَ فَأُعْطِيَهُ ، وَتَعَلَّقَ حُبُّهُ بِقَلْبِهِ ، فَأَخَذَ مِنْهُ
شُعْبَةً ، غَارَ الْحَبِيبُ عَلَى خَلِيلِهِ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ مَوْضِعٌ
لِغَيْرِهِ ، فَأَمَرَهُ بِذَبْحِهِ ، وَكَانَ الْأَمْرُ فِي الْمَنَامِ لِيَكُونَ [ ص: 191 ]
تَنْفِيذُ الْمَأْمُورِ بِهِ أَعْظَمَ ابْتِلَاءً وَامْتِحَانًا ، وَلَمْ يَكُنِ
الْمَقْصُودُ ذَبْحَ الْوَلَدِ ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ ذَبْحُهُ مِنْ قَلْبِهِ ؛
لِيَخْلُصَ الْقَلْبُ لِلرَّبِّ ، فَلَمَّا بَادَرَ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى الِامْتِثَالِ ، وَقَدَّمَ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى
مَحَبَّةِ وَلَدِهِ ، حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَرُفِعَ الذَّبْحُ ، وَفُدِيَ بِذِبْحٍ
عَظِيمٍ ، فَإِنَّ الرَّبَّ تَعَالَى مَا أَمَرَ بِشَيْءٍ ، ثُمَّ أَبْطَلَهُ
رَأْسًا ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يُبْقِيَ بَعْضَهُ أَوْ بَدَلَهُ ، كَمَا أَبْقَى
شَرِيعَةَ الْفِدَاءِ ، وَكَمَا أَبْقَى اسْتِحْبَابَ الصَّدَقَةِ بَيْنَ يَدَيِ الْمُنَاجَاةِ
، وَكَمَا أَبْقَى الْخَمْسَ الصَّلَوَاتِ بَعْدَ رَفْعِ الْخَمْسِينَ وَأَبْقَى
ثَوَابَهَا ، وَقَالَ : " وَلَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ، هِيَ خَمْسٌ
فِي الْفِعْلِ ، وَهِيَ خَمْسُونَ فِي الْأَجْرِ " .
فَصْلٌ: الْمَحَبَّةُ وَالْخُلَّةُوَأَمَّا مَا يَظُنُّهُ
بَعْضُ الْغَالِطِينَ - أَنَّ الْمَحَبَّةَ أَكْمَلُ مِنَ الْخُلَّةِ ، وَأَنَّ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللَّهِ ، وَمُحَمَّدًا حَبِيبُ اللَّهِ - فَمِنْ جَهْلِهِ ،
فَإِنَّ الْمَحَبَّةَ عَامَّةٌ ، وَالْخُلَّةَ خَاصَّةٌ ، وَالْخُلَّةَ نِهَايَةُ
الْمَحَبَّةِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّ اللَّهَ اتَّخَذَهُ خَلِيلًا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَنَفَى
أَنْ يَكُونَ لَهُ خَلِيلٌ غَيْرُ رَبِّهِ مَعَ إِخْبَارِهِ بِحُبِّهِ لِعَائِشَةَ
وَلِأَبِيهَا وَلِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَغَيْرِهِمْ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ : يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 222 ] .
وَ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 146 ] .
وَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ :
148 ] .
وَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 42 ] .
وَالشَّابُّ التَّائِبُ حَبِيبُ اللَّهِ ، وَخُلَّتُهُ
خَاصَّةٌ بِالْخَلِيلَيْنِ ، وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ
عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
فَصْلٌ:
إِيثَارُ الْأَعْلَىوَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْعَبْدَ
لَا يَتْرُكُ مَا يُحِبُّهُ وَيَهْوَاهُ ، وَلَكِنْ يَتْرُكُ أَضْعَفَهُمَا
مَحَبَّةً لِأَقْوَاهُمَا مَحَبَّةً ، [ ص: 192 ] كَمَا أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَكْرَهُهُ
؛ لِحُصُولِ مَا مَحَبَّتُهُ أَقْوَى عِنْدَهُ مِنْ كَرَاهَةِ مَا يَفْعَلُهُ ،
أَوْ لِخَلَاصِهِ مِنْ مَكْرُوهٍ
.
وَتَقَدَّمَ أَنَّ خَاصِّيَّةَ الْعَقْلِ إِيثَارُ
أَعْلَى الْمَحْبُوبَيْنِ عَلَى أَدْنَاهُمَا ، وَأَيْسَرِ الْمَكْرُوهَيْنِ عَلَى
أَقْوَاهُمَا ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا مِنْ كَمَالِ قُوَّةِ الْحُبِّ
وَالْبُغْضِ .
وَلَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا إِلَّا بِأَمْرَيْنِ : قُوَّةِ
الْإِدْرَاكِ ، وَشَجَاعَةِ الْقَلْبِ ، فَإِنَّ التَّخَلُّفَ عَنْ ذَلِكَ
وَالْعَمَلَ بِخِلَافِهِ يَكُونُ إِمَّا لِضَعْفِ الْإِدْرَاكِ بِحَيْثُ إِنَّهُ
لَمْ يُدْرِكْ مَرَاتِبَ الْمَحْبُوبِ وَالْمَكْرُوهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، إِمَّا
لِضَعْفٍ فِي النَّفْسِ ، وَعَجْزٍ فِي الْقَلْبِ ، بِحَيْثُ لَا يُطَاوِعُهُ
عَلَى إِيثَارِ الْأَصْلَحِ ؛ لِرَفْعِ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ الْأَصْلَحُ ، فَإِذَا
صَحَّ إِدْرَاكُهُ ، وَقَوِيَتْ نَفْسُهُ ، وَتَشَجَّعَ قَلْبُهُ عَلَى إِيثَارِ
الْمَحْبُوبِ الْأَعْلَى وَالْمَكْرُوهِ الْأَدْنَى فَقَدْ وُفِّقَ لِأَسْبَابِ
السَّعَادَةِ .
فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ شَهْوَتِهِ
أَقْوَى مِنْ سُلْطَانِ عَقْلِهِ وَإِيمَانِهِ ، فَيَقْهَرُ الْغَالِبُ الضَّعِيفَ
، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ سُلْطَانُ إِيمَانِهِ وَعَقْلِهِ أَقْوَى مِنْ
سُلْطَانِ شَهْوَتِهِ ، وَإِذَا كَانَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَرْضَى يَحْمِيهِ
الطَّبِيبُ عَمَّا يَضُرُّهُ ، فَتَأْبَى عَلَيْهِنَفْسُهُ وَشَهْوَتُهُ إِلَّا تَنَاوُلَهُ
، وَيُقَدِّمُ شَهْوَتَهُ عَلَى عَقْلِهِ ، وَتُسَمِّيهِ الْأَطِبَّاءُ : عَدِيمَ
الْمُرُوءَةِ ، فَهَكَذَا أَكْثَرُ مَرْضَى الْقُلُوبِ يُؤْثِرُونَ مَا يَزِيدُ
مَرَضَهُمْ ، لِقُوَّةِ شَهْوَتِهِمْ لَهُ .
فَأَصْلُ الشَّرِّ مِنْ ضَعْفِ الْإِدْرَاكِ وَضَعْفِ
النَّفْسِ وَدَنَاءَتِهَا ، وَأَصْلُ الْخَيْرِ مِنْ كَمَالِ الْإِدْرَاكِ
وَقُوَّةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا وَشَجَاعَتِهَا .
فَالْحُبُّ وَالْإِرَادَةُ أَصْلُ كُلِّ فِعْلٍ
وَمَبْدَؤُهُ ، وَالْبُغْضُ وَالْكَرَاهَةُ أَصْلُ كُلِّ تَرْكٍ وَمَبْدَؤُهُ ،
وَهَاتَانِ الْقُوَّتَانِ فِي الْقَلْبِ ، أَصْلُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ
وَشَقَاوَتِهِ .
وَوُجُودُ الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ لَا يَكُونُ
إِلَّا بِوُجُودِ سَبَبِهِ مِنَ الْحُبِّ وَالْإِرَادَةِ .
وَأَمَّا عَدَمُ الْفِعْلِ : فَتَارَةً يَكُونُ لِعَدَمِ
مُقْتَضِيهِ وَسَبَبِهِ ، وَتَارَةً يَكُونُ لِوُجُودِ الْبُغْضِ وَالْكَرَاهَةِ
الْمَانِعَةِ مِنْهُ ، وَهَذَا مُتَعَلِّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَهُوَ الَّذِي
يُسَمَّى الْكَفَّ ، وَهُوَ مُتَعَلِّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، وَبِهَذَا يَزُولُ
الِاشْتِبَاهُ فِي مَسْأَلَةِ التَّرْكِ وَهَلْ هُوَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ أَوْ
عَدَمِيٌّ ؟ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ قِسْمَانِ : فَالتَّرْكُ الْمُضَافُ إِلَى عَدَمِ
السَّبَبِ الْمُقْتَضِي عَدَمِيٌّ ، وَالْمُضَافُ إِلَى السَّبَبِ الْمَانِعِ مِنَ
الْفِعْلِ وُجُودِيٌّ .
فَصْلٌ:
إِيثَارُ الْأَنْفَعِوَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفِعْلِ
وَالتَّرْكِ الِاخْتِيَارِيَّيْنِ إِنَّمَا يُؤْثِرُهُ الْحَيُّ لِمَا فِيهِ مِنْ حُصُولِ
الْمَنْفَعَةِ [ ص: 193 ] الَّتِي يَلْتَذُّ بِحُصُولِهَا ، أَوْ زَوَالِ
الْأَلَمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الشِّفَاءُ بِزَوَالِهِ ، وَلِهَذَا يُقَالُ :
شَفَى صَدْرَهُ ، وَشَفَى قَلْبَهُ ، وَقَالَ :
هِيَ الشِّفَاءُ لِدَائِي لَوْ ظَفِرْتُ بِهَا وَلَيْسَ
مِنْهَا شِفَاءُ الدَّاءِ مَبْذُولُ
وَهَذَا مَطْلُوبٌ يُؤْثِرُهُ الْعَاقِلُ بَلِ
الْحَيَوَانُ الْبَهِيمُ ، وَلَكِنْ يَغْلَطُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ غَلَطًا
قَبِيحًا ، فَيَقْصِدُ حُصُولَ اللَّذَّةِ بِمَا يُعَقِّبُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ
الْأَلَمِ ، فَيُؤْلِمُ نَفْسَهُ مِنْ حَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهُ يُحَصِّلُ
لَذَّتَهَا ، وَيَشْفِي قَلْبَهُ بِمَا يُعَقِّبُ عَلَيْهِ غَايَةَ الْمَرَضِ ،
وَهَذَا شَأْنُ مَنْ قَصَرَ نَظَرَهُ عَلَى الْعَاجِلِ وَلَمْ يُلَاحِظِ
الْعَوَاقِبَ ، وَخَاصَّةً الْعَقْلُ النَّاظِرُ فِي الْعَوَاقِبِ ، فَأَعْقَلُ
النَّاسِ مَنْ آثَرَ لَذَّتَهُ وَرَاحَتَهُ فِي الْآجِلَةِ الدَّائِمَةِ عَلَى الْعَاجِلَةِ
الْمُنْقَضِيَةِ الزَّائِلَةِ ، وَأَسْفَهُ الْخَلْقِ مَنْ بَاعَ نَعِيمَ
الْأَبَدِ وَطَيِّبَ الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَاللَّذَّةَ الْعُظْمَى الَّتِي لَا
تَنْغِيصَ فِيهَا وَلَا نَقْصَ بِوَجْهٍ مَا ، بِلَذَّةٍ مُنْقَضِيَةٍ مَشُوبَةٍ
بِالْآلَامِ وَالْمَخَاوِفِ ، وَهِيَ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ وَشِيكَةُ الِانْقِضَاءِ .
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : " فَكَّرْتُ فِيمَا
يَسْعَى فِيهِ الْعُقَلَاءُ ، فَرَأَيْتُ سَعْيَهُمْ كُلِّهِمْ فِي مَطْلُوبٍ
وَاحِدٍ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ طُرُقُهُمْ فِي تَحْصِيلِهِ ، رَأَيْتَهُمْ
جَمِيعَهُمْ إِنَّمَا يَسْعَوْنَ فِي دَفْعِ الْهَمِّ وَالْغَمِّ عَنْ نُفُوسِهِمْ
، فَهَذَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَهَذَا بِالتِّجَارَةِ وَالْكَسْبِ ،
وَهَذَا بِالنِّكَاحِ ، وَهَذَا بِسَمَاعِ الْغِنَاءِ وَالْأَصْوَاتِ
الْمُطْرِبَةِ ، وَهَذَا بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ ، فَقُلْتُ : هَذَا الْمَطْلُوبُ
مَطْلُوبُ الْعُقَلَاءِ ، وَلَكِنَّ الطُّرُقَ كُلَّهَا غَيْرُ مُوَصِّلَةٍ إِلَيْهِ
، بَلْ لَعَلَّ أَكْثَرَهَا إِنَّمَا يُوَصِّلُ إِلَى ضِدِّهِ ، وَلَمْ أَرَ فِي
جَمِيعِ هَذِهِ الطُّرُقِ طَرِيقًا مُوَصِّلَةً إِلَيْهِ إِلَّا الْإِقْبَالَ
عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ ، وَمُعَامَلَتَهُ وَحْدَهُ ، وَإِيثَارَ مَرْضَاتِهِ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ " .
فَإِنَّ سَالِكَ هَذَا الطَّرِيقِ إِنْ فَاتَهُ حَظُّهُ
مِنَ الدُّنْيَا فَقَدْ ظَفِرَ بِالْحَظِّ الْعَالِي الَّذِي لَا فَوْتَ مَعَهُ ،
وَإِنْ حَصَلَ لِلْعَبْدِ حَصَلَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ ، وَإِنْ فَاتَهُ فَاتَهُ
كُلُّ شَيْءٍ ، وَإِنْ ظَفِرَ بِحَظِّهِ مِنَ الدُّنْيَا نَالَهُ عَلَى أَهْنَأِ
الْوُجُوهِ ، فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْفَعُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ ، وَلَا
أَوْصَلُ مِنْهَا إِلَى لَذَّتِهِ وَبَهْجَتِهِ وَسَعَادَتِهِ ، وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيقُ .
فَصْلٌ:
أَقْسَامُ الْمَحْبُوبِوَالْمَحْبُوبُ قِسْمَانِ :
مَحْبُوبٌ لِنَفْسِهِ ، وَمَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ ، وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ ، لَا
بُدَّ أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى الْمَحْبُوبِ لِنَفْسِهِ ، دَفْعًا لِلتَّسَلْسُلِ الْمُحَالِ
، وَكُلُّ مَا سِوَى الْمَحْبُوبِ الْحَقِّ فَهُوَ مَحْبُوبٌ لِغَيْرِهِ ،
وَلَيْسَ شَيْءٌ يُحَبُّ لِذَاتِهِ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ
مِمَّا يُحَبُّ فَإِنَّمَا مَحَبَّتُهُ تَبَعٌ لِمَحَبَّةِ الرَّبِّ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى ، كَمَحَبَّةِ مَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ ،
فَإِنَّهَا تَبَعٌ لِمَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ ، وَهِيَ مِنْ لَوَازِمِ مَحَبَّتِهِ
، [ ص: 194 ] فَإِنَّ مَحَبَّةَ الْمَحْبُوبِ تُوجِبُ مَحَبَّةَ مَا يُحِبُّهُ ،
وَهَذَا مَوْضِعٌ يَجِبُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ ، فَإِنَّهُ مَحَلُّ فُرْقَانٍ بَيْنَ
الْمَحَبَّةِ النَّافِعَةِ لِغَيْرِهِ ، وَالَّتِي لَا تَنْفَعُ بَلْ قَدْ تَضُرُّ .
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُحَبُّ لِذَاتِهِ إِلَّا مَنْ
كَانَ كَمَالُهُ مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ، وَإِلَهِيَّتُهُ وَرُبُوبِيَّتُهُ وَغِنَاهُ
مِنْ لَوَازِمِ ذَاتِهِ ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُبْغَضُ وَيُكْرَهُ
لِمُنَافَاتِهِ مَحَابِّهُ وَمُضَادَّتِهِ لَهَا ، وَبُغْضُهُ وَكَرَاهَتُهُ
بِحَسَبِ قُوَّةِ هَذِهِ الْمُنَافَاةِ وَضَعْفِهَا ، فَمَا كَانَ أَشَدَّ
مُنَافَاةً لِمَحَابِّهِ ، كَانَ أَشَدَّ كَرَاهَةً مِنَ الْأَعْيَانِ
وَالْأَوْصَافِ وَالْأَفْعَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَغَيْرِهَا ، فَهَذَا مِيزَانٌ
عَادِلٌ تُوزَنُ بِهِ مُوَافَقَةُ الرَّبِّ وَمُخَالَفَتُهُ وَمُوَالَاتُهُ
وَمُعَادَاتُهُ ، فَإِذَا رَأَيْنَا شَخْصًا يُحِبُّ مَا يَكْرَهُهُ الرَّبُّ
تَعَالَى وَيَكْرَهُ مَا يُحِبُّهُ ، عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ مِنْ مُعَادَاتِهِ
بِحَسَبِ ذَلِكَ ، وَإِذَا رَأَيْنَا الشَّخْصَ يُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ
الرَّبُّوَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُهُ ، وَكُلَّمَا كَانَ الشَّيْءُ أَحَبَّ إِلَى
الرَّبِّ كَانَ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَآثَرَهُ عِنْدَهُ ، وَكُلَّمَا كَانَ أَبْغَضَ
إِلَيْهِ كَانَ أَبْغَضَ إِلَيْهِ وَأَبْعَدَ مِنْهُ ، عَلِمْنَا أَنَّ فِيهِ مِنْ
مُوَالَاةِ الرَّبِّ بِحَسَبِ ذَلِكَ
.
فَتَمَسَّكْ بِهَذَا الْأَصْلِ فِي نَفْسِكَ وَفِي
غَيْرِكَ ، فَالْوِلَايَةُ عِبَارَةٌ عَنْ مُوَافَقَةِ الْوَلِيِّ الْحَمِيدِ فِي
مَحَابِّهِ وَمَسَاخِطِهِ ، وَلَيْسَتْ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ وَلَا
تَمَزُّقٍ وَلَا رِيَاضَةٍ .
وَالْمَحْبُوبُ لِغَيْرِهِ قِسْمَانِ أَيْضًا :
أَحَدُهُمَا : مَا يَلْتَذُّ الْمُحِبُّ بِإِدْرَاكِهِ
وَحُصُولِهِ .
وَالثَّانِي :
مَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ
لِإِفْضَائِهِ إِلَى الْمَحْبُوبِ ، كَشُرْبِ الدَّوَاءِ الْكَرِيهِ ، قَالَ
تَعَالَى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ
تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ
شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ
: 216 ] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْقِتَالَ مَكْرُوهٌ
لَهُمْ مَعَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَهُمْ لِإِفْضَائِهِ إِلَى أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ
وَأَنْفَعِهِ ، وَالنُّفُوسُ تَحْتَ الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ وَالرَّفَاهِيَةِ ،
ذَلِكَ شَرٌّ لَهَا لِإِفْضَائِهِ إِلَى فَوَاتِ الْمَحْبُوبِ ، فَالْعَاقِلُ لَا
يَنْظُرُ إِلَى لَذَّةِ الْمَحْبُوبِ الْعَاجِلِ فَيُؤْثِرُهَا ، وَأَلَمِ
الْمَكْرُوهِ الْعَاجِلِ فَيَرْغَبُ عَنْهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ شَرًّا
لَهُ ، بَلْ قَدْ يَجْلِبُ عَلَيْهِ غَايَةَ الْأَلَمِ وَيُفَوِّتُهُ أَعْظَمَ
اللَّذَّةِ ، بَلْ عُقَلَاءُ الدُّنْيَا يَتَحَمَّلُونَ الْمَشَاقَّ
الْمَكْرُوهَةَ لِمَا يُعْقِبُهُمْ مِنَ اللَّذَّةِ بَعْدَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ
مُنْقَطِعَةً .
فَالْأُمُورُ أَرْبَعَةٌ : مَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إِلَى
مَكْرُوهٍ ، وَمَكْرُوهٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَحْبُوبٍ ، وَمَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إِلَى
مَحْبُوبٍ ، وَمَحْبُوبٌ يُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ ، فَالْمَحْبُوبُ الْمُوَصِّلُ
إِلَى الْمَحْبُوبِ قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ دَاعِيَ الْفِعْلِ مِنْ وَجْهَيْنِ ،
وَالْمَكْرُوهُ الْمُوَصِّلُ إِلَى مَكْرُوهٍ ، قَدِ اجْتَمَعَ فِيهِ دَاعِي
التَّرْكِ مِنْ وَجْهَيْنِ .
بَقِيَ الْقِسْمَانِ الْآخَرَانِ يَتَجَاذَبُهُمَا
الدَّاعِيَانِ - وَهُمَا مُعْتَرَكُ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ - فَالنَّفْسُ
تُؤْثِرُ أَقْرَبَهُمَا جِوَارًا مِنْهَا ، وَهُوَ الْعَاجِلُ ، وَالْعَقْلُ وَالْإِيمَانُ
يُؤْثِرُ أَنْفَعَهُمَا وَأَبْقَاهُمَا ، وَالْقَلْبُ بَيْنَ الدَّاعِيَيْنِ ،
وَهُوَ إِلَى هَذَا مَرَّةً ، وَإِلَى هَذَا مَرَّةً ، وَهَاهُنَا مَحَلُّ
الِابْتِلَاءِ شَرْعًا وَقَدَرًا ، فَدَاعِي الْعَقْلِ [ ص: 195 ] وَالْإِيمَانِ يُنَادِي
كُلَّ وَقْتٍ : حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ ، عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ
السُّرَى ، وَفِي الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْعَبْدُ التُّقَى ، فَإِنِ اشْتَدَّ
ظَلَامُ لَيْلِ الْمَحَبَّةِ ، وَتَحَكَّمَ سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ
، يَقُولُ : يَا نَفْسُ اصْبِرِي فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي وَيَذْهَبُ
هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ .
فَصْلٌ: الْحُبُّ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍوَإِذَا كَانَ الْحُبُّ
أَصْلَ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ ، فَأَصْلُ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ
حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، كَمَا أَصْلُ الْأَقْوَالِ الدِّينِيَّةِ تَصْدِيقُ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَكُلُّ إِرَادَةٍ تَمْنَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتُزَاحِمُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ أَوْ شُبْهَةٍ تَمْنَعُ كَمَالَ التَّصْدِيقِ ،
فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ أَوْ مُضْعِفَةٌ لَهُ ، فَإِنْ قَوِيَتْ
حَتَّى عَارَضَتْ أَصْلَ الْحُبِّ وَالتَّصْدِيقِ كَانَتْ كُفْرًا أَوْ شِرْكًا
أَكْبَرَ ، وَإِنْ لَمْ تُعَارِضْهُ قَدَحَتْ فِي كَمَالِهِ ، وَأَثَّرَتْ فِيهِ
ضَعْفًا وَفُتُورًا فِي الْعَزِيمَةِ وَالطَّلَبِ ، وَهِيَ تَحْجُبُ الْوَاصِلَ ، وَتَقْطَعُ
الطَّالِبَ ، وَتُنَكِّسُ الرَّاغِبَ ، فَلَا تَصِحُّ الْمُوَالَاةُ إِلَّا
بِالْمُعَادَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ الْمُحِبِّينَ
أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ : أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ
وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ
[ سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 75 - 77
] .
فَلَمْ يَصِحَّ لِخَلِيلِ اللَّهِ هَذِهِ الْمُوَالَاةُ
وَالْخُلَّةُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمُعَادَاةِ ، فَإِنَّهُ لَا وَلَاءَ
إِلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ ، قَالَ تَعَالَى : قَدْ كَانَتْ
لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ
أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [ سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ : 4 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ
وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ
يَرْجِعُونَ [ سُورَةُ الزُّخْرُفِ
: 26 - 28 ] .
أَيْ جَعَلَ هَذِهِ الْمُوَالَاةَ لِلَّهِ ،
وَالْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَتَوَارَثُهَا
الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهِيَ كَلِمَةُ : لَا
إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَهِيَ الَّتِي وَرَّثَهَا إِمَامُ الْحُنَفَاءِ لِأَتْبَاعِهِ
إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ
[ ص: 196
]
وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ
وَالسَّمَاوَاتُ ، وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ ،
وَعَلَيْهَا أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ وَنُصِبَتِ الْقِبْلَةُ ، وَجُرِّدَتْ سُيُوفُ
الْجِهَادِ ، وَهِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ
الْعَاصِمَةُ لِلدَّمِ وَالْمَالِوَالذُّرِّيَّةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ،
وَالْمُنْجِيَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ ، وَهِيَ الْمَنْشُورُ
الَّذِي لَا يُدْخَلُ الْجَنَّةُ إِلَّا بِهِ ، وَالْحَبْلُ الَّذِي لَا يَصِلُ
إِلَى اللَّهِ مَنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِسَبَبِهِ ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ ،
وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ ، وَبِهَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى شَقِيٍّ
وَسَعِيدٍ ، وَمَقْبُولٍ وَطَرِيدٍ ، وَبِهَا انْفَصَلَتْ دَارُ الْكُفْرِ مِنْ
دَارِ الْإِيمَانِ ، وَتَمَيَّزَتْ دَارُ النَّعِيمِ مِنْ دَارِ الشَّقَاءِ
وَالْهَوَانِ ، وَهِيَ الْعَمُودُ الْحَامِلُ لِلْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ ، وَ مَنْ
كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ .
رُوحُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ
وَرُوحُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَسِرُّهَا : إِفْرَادُ
الرَّبِّ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ ، وَتَبَارَكَ اسْمُهُ ،
وَتَعَالَى جَدُّهُ ، وَلَا إِلَهَغَيْرُهُ - بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ
وَالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ : مِنَ التَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ
وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ ، فَلَا يُحَبُّ سِوَاهُ ، وَكُلُّ مَا كَانَ يُحَبُّ
غَيْرَهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ ، وَكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى
زِيَادَةِ مَحَبَّتِهِ ، وَلَا يُخَافُ سِوَاهُ ، وَلَا يُرْجَى سِوَاهُ ، وَلَا
يُتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ ، وَلَا يُرْغَبُ إِلَّا إِلَيْهِ ، وَلَا يُرْهَبُ
إِلَّا مِنْهُ ، وَلَا يُحْلَفُ إِلَّا بِاسْمِهِ ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَّا لَهُ ،
وَلَا يُتَابُ إِلَّا إِلَيْهِ ، وَلَا يُطَاعُ إِلَّا أَمْرُهُ ، وَلَا يُتَحَسَّبُ
إِلَّا بِهِ ، وَلَا يُسْتَغَاثُ فِي الشَّدَائِدِ إِلَّا بِهِ ، وَلَا يُلْتَجَأُ
إِلَّا إِلَيْهِ ، وَلَا يُسْجَدُ إِلَّا لَهُ ، وَلَا يُذْبَحُ إِلَّا لَهُ
وَبِاسْمِهِ ، وَيَجْتَمِعُ ذَلِكَ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ : أَنْ لَا
يُعْبَدَ إِلَّا إِيَّاهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ ، فَهَذَا هُوَ
تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَى النَّارِ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَقِيقَةَ
الشَّهَادَةِ ، وَمُحَالٌ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مَنْ تَحَقَّقَ بِحَقِيقَةِ
هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَقَامَ بِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَالَّذِينَ هُمْ
بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ [ سُورَةُ الْمَعَارِجِ : 33 ] .
فَيَكُونُ قَائِمًا بِشَهَادَتِهِ فِي ظَاهِرِهِ
وَبَاطِنِهِ ، فِي قَلْبِهِ وَقَالَبِهِ ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ
شَهَادَتُهُ مَيِّتَةً ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ نَائِمَةً ، إِذَا نُبِّهَتِ
انْتَبَهَتْ ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ مُضْطَجِعَةً ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ
إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ ، وَهِيَ فِي الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ فِي
الْبَدَنِ ، فَرُوحٌ مَيِّتَةٌ ، وَرُوحٌ مَرِيضَةٌ إِلَى الْمَوْتِ أَقْرَبُ ،
وَرُوحٌ إِلَى الْحَيَاةِ أَقْرَبُ ، وَرُوحٌ صَحِيحَةٌ قَائِمَةٌ بِمَصَالِحِ
الْبَدَنِ .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ
الْمَوْتِ إِلَّا وَجَدَتْ رُوحُهُ لَهَا رَوْحًا فَحَيَاةُ هَذِهِ الرُّوحِ
بِحَيَاةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِيهَا ، فَكَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِوُجُودِ
الرُّوحِ فِيهِ ، [ ص: 197 ] وَكَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ
فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ يَتَقَلَّبُ فِيهَا ، فَمَنْ عَاشَ عَلَى تَحْقِيقِهَا
وَالْقِيَامِ بِهَا فَرُوحُهُ تَتَقَلَّبُ فِي جَنَّةِ الْمَأْوَى وَعَيْشُهُ
وَأَطْيَبُ عَيْشٍ قَالَ : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ
عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ سُورَةُ النَّازِعَاتِ : 40 -
41 ] .
فَالْجَنَّةُ مَأْوَاهُ يَوْمَ اللِّقَاءِ .
وَجَنَّةُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأُنْسِ
بِاللَّهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ وَالْفَرَحِ بِهِ وَالرِّضَا بِهِ ،
وَعَنْهُ مَأْوَى رُوحِهِ فِي هَذِهِالدَّارِ ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّةُ
مَأْوَاهُ هَاهُنَا ، كَانَتْ جَنَّةُ الْخُلْدِ مَأْوَاهُ يَوْمَ الْمِيعَادِ ،
وَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ الْجَنَّةَ فَهُوَلِتِلْكَ الْجَنَّةِ أَشَدُّ حِرْمَانًا ، وَالْأَبْرَارُ
فِي النَّعِيمِ وَإِنِ اشْتَدَّ بِهِمُ الْعَيْشَ ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ
الدُّنْيَا ، وَالْفُجَّارُ فِي جَحِيمٍ وَإِنِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا
، قَالَ تَعَالَى : مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [ سُورَةُ النَّحْلِ : 97 ] وَطِيبُ
الْحَيَاةِ جَنَّةُ الدُّنْيَا ، قَالَ تَعَالَى : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 125 ] .
فَأَيُّ نَعِيمٍ أَطْيَبُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ ؟
وَأَيُّ عَذَابٍ أَمَرُّ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ ؟
وَقَالَ تَعَالَى : أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ
اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [ سُورَةُ يُونُسَ : 62 - 64 ] فَالْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ
لِلَّهِ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا ، وَأَنْعَمِهِمْ بَالًا ، وَأَشْرَحِهِمْ
صَدْرًا ، وَأَسَرِّهِمْ قَلْبًا ، وَهَذِهِ جَنَّةٌ عَاجِلَةٌ قَبْلَ الْجَنَّةِ
الْآجِلَةِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- : إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا ، قَالُوا : وَمَا رِيَاضُ
الْجَنَّةِ ؟ قَالَ : حِلَقُ الذِّكْرِ
.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ .
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ وَقَدْ سَأَلُوهُ عَنْ وِصَالِهِ
فِي الصَّوْمِ : إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي
يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي .
فَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ
مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْغِذَاءِ عِنْدَ رَبِّهِ يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ [
ص: 198 ] وَالشَّرَابِ الْحُسْنَى ، وَأَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ
يَخْتَصُّ بِهِ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ ، فَإِذَا أَمْسَكَ عَنِ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَهُ عَنْهُ عِوَضٌ يَقُومُ مَقَامَهُ وَيَنُوبُ
مَنَابَهُ ، وَيُغْنِي عَنْهُ ، كَمَا قِيلَ :
لَهَا أَحَادِيثُ مِنْ ذِكْرَاكَ تَشْغَلُهَا *** عَنِ
الشَّرَابِ وَتُلْهِيهَا عَنِ الزَّادِ
لَهَا بِوَجْهِكَ نُورٌ تَسْتَضِيءُ بِهِ *** وَمِنْ
حَدِيثِكَ فِي أَعْقَابِهَا حَادِي
إِذَا اشْتَكَتْ مِنْ كَلَالِ السَّيْرِ أُوعِدُهَا ***
رَوْحَ اللِّقَاءِ فَتَحْيَا عِنْدَ مِيعَادِ
وَكُلَّمَا كَانَ وُجُودُ الشَّيْءِ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ
وَهُوَ إِلَيْهِ أَحْوَجُ ، كَانَ تَأَلُّمُهُ بِفَقْدِهِ أَشَدَّ ، وَكُلَّمَا
كَانَ عَدَمُهُ أَنْفَعَ لَهُكَانَ تَأَلُّمُهُ بِوُجُودِهِ أَشَدَّ ، وَلَا
شَيْءَ عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنْفَعُ لِلْعَبْدِ مِنْ إِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ ، وَاشْتِغَالِهِ
بِذِكْرِهِ ، وَتَنَعُّمِهِ بِحُبِّهِ ، وَإِيثَارِهِ لِمَرْضَاتِهِ ، بَلْ لَا
حَيَاةَ لَهُ وَلَا نَعِيمَ وَلَا سُرُورَ وَلَا بَهْجَةَ إِلَّا بِذَلِكَ ،
فَعَدَمُهُ آلَمُ شَيْءٍ لَهُ ، وَأَشَدُّهُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا تَغِيبُ
الرُّوحُ عَنْ شُهُودِ هَذَا الْعَذَابِ وَالْأَلَمِ لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِهِ ،
وَاسْتِغْرَاقِهَا فِي ذَلِكَ الْغَيْرِ ، تَتَغَيَّبُ بِهِ عَنْ شُهُودِ مَا هِيَ
فِيهِ مِنْ أَلَمِ الْفَوَاتِ بِفِرَاقِ أَحَبِّ شَيْءٍ إِلَيْهَا ، وَأَنْفَعِهِ
لَهَا ، وَهَذِهِ مَنْزِلَةُ السَّكْرَانِ الْمُسْتَغْرِقِ فِي سُكْرِهِ ، الَّذِي
احْتَرَقَتْ دَارُهُ وَأَمْوَالُهُ وَأَهْلُهُ وَأَوْلَادُهُ ، وَهُوَ لِاسْتِغْرَاقِهِ
فِي السُّكْرِ لَا يَشْعُرُ بِأَلَمِ ذَلِكَ الْفَوَاتِ وَحَسْرَتِهِ ، حَتَّى
إِذَا صَحَا ، وَكُشِفَ عَنْهُ غِطَاءُ السُّكْرِ ، وَانْتَبَهَ مِنْ رَقْدَةِ
الْخَمْرِ ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ حِينَئِذٍ .
وَهَكَذَا الْحَالُ سَوَاءً عِنْدَ كَشْفِ الْغِطَاءِ ، وَمُعَايَنَةِ
طَلَائِعِ الْآخِرَةِ ، وَالْإِشْرَافِ عَلَى مُفَارَقَةِ الدُّنْيَا
وَالِانْتِقَالِ مِنْهَا إِلَى اللَّهِ ، بَلِ الْأَلَمُ وَالْحَسْرَةُ
وَالْعَذَابُ هُنَا أَشَدُّ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ ، فَإِنَّ الْمُصَابَ فِي
الدُّنْيَا يَرْجُو جَبْرَ مُصِيبَتِهِ بِالْعِوَضِ ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ
أُصِيبَ بِشَيْءٍ زَائِلٍ لَا بَقَاءَ لَهُ ، فَكَيْفَ بِمَنْ مُصِيبَتُهُ بِمَا
لَا عِوَضَ عَنْهُ ، وَلَا بَدَلَ مِنْهُ ، وَلَا نِسْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الدُّنْيَا جَمِيعِهَا ؟ فَلَوْ قَضَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ
مِنْ هَذِهِ الْحَسْرَةِ وَالْأَلَمِ لَكَانَ الْعَبْدُجَدِيرًا بِهِ ، فَإِنَّ
الْمَوْتَ لَيَعُودُ أَعْظَمَ أُمْنِيَتِهِ وَأَكْبَرَ حَسَرَاتِهِ ، هَذَا لَوْ
كَانَ الْأَلَمُ عَلَى مُجَرَّدِ الْفَوَاتِ ، فَكَيْفَ وَهُنَاكَ مِنَ الْعَذَابِ
عَلَى الرُّوحِ وَالْبَدَنِ بِأُمُورٍ أُخْرَى وُجُودِيَّةٍ مَا لَا يُقَدِّرُهُ
قَدْرَهُ ؟ فَتَبَارَكَ مَنْ حَمَّلَ هَذَا الْخَلْقَ الضَّعِيفَ هَذَيْنِ
الْأَلَمَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا تَحْمِلُهُمَا الْجِبَالُ
الرَّوَاسِي .
فَاعْرِضْ عَلَى نَفْسِكَ الْآنَ أَعْظَمَ مَحْبُوبٍ
لَكَ فِي الدُّنْيَا ، بِحَيْثُ لَا تَطِيبُ لَكَ الْحَيَاةُ إِلَّا مَعَهُ ،
فَأَصْبَحْتَ وَقَدْ أُخِذَ مِنْكَ ، وَحِيلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ أَحْوَجَ مَا
كُنْتَ إِلَيْهِ ، كَيْفَ يَكُونُ حَالُكَ ؟ هَذَا وَمِنْهُ كُلُّ عِوَضٍ ،
فَكَيْفَ بِمَنْ لَا عِوَضَ عَنْهُ ؟ كَمَا قِيلَ :
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِذَا ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ *** وَمَا
مِنَ اللَّهِ إِنْ ضَيَّعْتَهُ عِوَضُ
وَفِي أَثَرٍ إِلَهِيٍّ : " ابْنَ آدَمَ ،
خَلَقْتُكَ لِعِبَادَتِي فَلَا تَلْعَبْ ، وَتَكَفَّلْتُ بِرِزْقِكَ فَلَا
تَتْعَبْ ، ابْنَ آدَمَ ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي ، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ
كُلَّ شَيْءٍ ، وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلُّ شَيْءٍ ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ
مِنْ كُلِّ شَيْءٍ " .
فَصْلٌ: الْمَحَبَّةُ الْمَحْمُودَةُ وَالْمَحَبَّةُ الْمَذْمُومَةُ[
ص: 199 ] وَلَمَّا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ جِنْسًا تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ
فِي الْقَدْرِ وَالْوَصْفِ ، كَانَ أَغْلَبَ مَا يُذْكَرُ فِيهَا فِي حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى مَا يُخْتَصُّ بِهِ وَيَلِيقُ بِهِ مِنْ أَنْوَاعِهَا ، وَمَا
لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ ، مِثْلَ الْعِبَادَةِ وَالْإِنَابَةِ
وَنَحْوِهَا ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ ، وَكَذَا
الْإِنَابَةُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمَحَبَّةَ بِاسْمِهَا الْمُطْلَقِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [
سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 54 ] .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ
مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ
آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 165 ] .
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْمَحَبَّةِ الْمَذْمُومَةِ :
الْمَحَبَّةُ مَعَ اللَّهِ الَّتِي يُسَوِّي الْمُحِبُّ فِيهَا بَيْنَ مَحَبَّتِهِ
لِلَّهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلنِّدِّ الَّذِي اتَّخَذَهُ مِنْ دُونِهِ .
وَأَعْظَمُ أَنْوَاعِهَا الْمَحْمُودَةِ : مَحَبَّةُ
اللَّهِ وَحْدَهُ ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ أَصْلُ السَّعَادَةِ وَرَأْسُهَا
الَّتِي لَا يَنْجُو أَحَدٌ مِنَ الْعَذَابِ إِلَّا بِهَا ، وَالْمَحَبَّةُ
الْمَذْمُومَةُ الشِّرْكِيَّةُ هِيَ أَصْلُ الشَّقَاوَةِ وَرَأْسُهَا الَّتِي لَا
يَبْقَى فِي الْعَذَابِ إِلَّا أَهْلُهَا ، فَأَهْلُ الْمَحَبَّةِ الَّذِينَ أَحَبُّوا
اللَّهَ وَعَبَدُوهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَا يَدْخُلُونَ النَّارَ ، وَمَنْ
دَخَلَهَا مِنْهُمْ بِذُنُوبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى فِيهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ .
وَمَدَارُ الْقُرْآنِ عَلَى الْأَمْرِ بِتِلْكَ
الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمَحَبَّةِ الْأُخْرَى
وَلَوَازِمِهَا ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ وَالْمَقَايِيسَ لِلنَّوْعَيْنِ ،
وَذَكَرَ قَصَصَ النَّوْعَيْنِ ، وَتَفْصِيلَ أَعْمَالِ النَّوْعَيْنِ
وَأَوْلِيَائِهِمْ وَمَعْبُودَ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَإِخْبَارِهِ عَنْ فِعْلِهِ
بِالنَّوْعَيْنِ ، وَعَنْ حَالِ النَّوْعَيْنِ فِي الدُّورِ الثَّلَاثَةِ : دَارِ
الدُّنْيَا ، وَدَارِ الْبَرْزَخِ ، وَدَارِ الْقَرَارِ ، وَالْقُرْآنُ جَاءَ فِي
شَأْنِ النَّوْعَيْنِ .
وَأَصْلُ دَعْوَةِ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ
إِلَى آخِرِهِمْ ، إِنَّمَا هِيَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ،
الْمُتَضَمِّنَةُ لِكَمَالِ حُبِّهِ ، وَكَمَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ لَهُ ، وَالْإِجْلَالِ
وَالتَّعْظِيمِ ، وَلَوَازِمِ ذَلِكَ مِنَ الطَّاعَةِ وَالتَّقْوَى .
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ عَنِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ : وَالَّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ
وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ [
ص: 200 ] لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي ،
فَقَالَ : لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ ، قَالَ : وَالَّذِي
بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ، قَالَ : الْآنَ يَا
عُمَرُ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ مَحَبَّةِ عَبْدِهِ
وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوُجُوبِ تَقْدِيمِهَا عَلَى
مَحَبَّةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ،
فَمَا الظَّنُّ بِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَوُجُوبِ
تَقْدِيمِهَا عَلَى مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ ؟ .
وَمَحَبَّةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ تَخْتَصُّ عَنْ
مَحَبَّةِ غَيْرِهِ فِي قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا وَإِفْرَادِهِ سُبْحَانَهُ بِهَا : فَإِنَّ
الْوَاجِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ
وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ ، بَلْ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَنَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ
جَنْبَيْهِ ، فَيَكُونُ إِلَهُهُ الْحَقُّ وَمَعْبُودُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ
ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالشَّيْءُ قَدْ يُحَبُّ مِنْوَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَقَدْ
يُحَبُّ بِغَيْرِهِ ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُحَبُّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا
اللَّهَ وَحْدَهُ ، وَلَا تَصْلُحُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا لَهُ ، وَ لَوْ كَانَ
فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 22 ] .
وَالتَّأَلُّهُ : هُوَ الْمَحَبَّةُ وَالطَّاعَةُ
وَالْخُضُوعُ .
فَصْلٌ:
الْحُبُّ أَصْلُ الْحَرَكَةِوَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي
الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ فَأَصْلُهَا الْمَحَبَّةُ ، فَهِيَ
عَلَيْهَا الْفَاعِلِيَّةُ وَالْغَائِيَّةُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرَكَاتِ ثَلَاثَةُ
أَنْوَاعٍ : حَرَكَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ إِرَادِيَّةٌ ، وَحَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ ،
وَحَرَكَةٌ قَسْرِيَّةٌ .
وَالْحَرَكَةُ الطَّبِيعِيَّةُ أَصْلُهَا السُّكُونُ ،
وَإِنَّمَا يَتَحَرَّكُ الْجِسْمُ إِذَا خَرَجَ عَنْ مُسْتَقَرِّهِ وَمَرْكَزِهِ
الطَّبِيعِيِّ ، فَهُوَ يَتَحَرَّكُ لِلْعَوْدِ إِلَيْهِ ، وَخُرُوجُهُ عَنْ
مَرْكَزِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ إِنَّمَا هُوَ بِتَحْرِيكِ الْقَاصِرِ الْمُحَرِّكِ
لَهُ ، فَلَهُ حَرَكَةٌ قَسْرِيَّةٌ تَتَحَرَّكُ بِتَحْرِيكِ مُحَرِّكِهِ وَقَاسِرِهِ
، وَحَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ بِذَاتِهَا يَطْلُبُ بِهَا الْعَوْدَ إِلَى مَرْكَزِهِ
، وَكِلَا حَرَكَتَيْهِ تَابِعَةٌلِلْقَاسِرِ الْمُحَرِّكِ ، فَهُوَ أَصْلُ
الْحَرَكَتَيْنِ .
وَالْحَرَكَةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ الْإِرَادِيَّةُ هِيَ
أَصْلُ الْحَرَكَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ ، وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْإِرَادَةِ
وَالْمَحَبَّةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى انْحِصَارِ الْحَرَكَاتِ فِي هَذِهِ
الثَّلَاثِ : أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ إِنْ كَانَ لَهُ شُعُورٌ بِالْحَرَكَةِ فَهِيَ الْإِرَادِيَّةُ
، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُعُورٌ بِهَا ، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ
طَبْعِهِ أَوْ لَا ، فَالْأُولَى هِيَ الطَّبِيعِيَّةُ ، وَالثَّانِيَةُ
الْقَسْرِيَّةُ ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ
وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَحَرَكَاتِ الْأَجِنَّةِ فِي
[ ص: 201 ] بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا ، فَإِنَّمَا هِيَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا وَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي نُصُوصٍ مِنَ
الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ ، وَالْإِيمَانُ بِذَلِكَ مِنْ
تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ
مَلَائِكَةً ، وَبِالْقَطْرِ مَلَائِكَةً ، وَبِالنَّبَاتِ مَلَائِكَةً ،
وَبِالرِّيَاحِ مَلَائِكَةً ، وَبِالْأَفْلَاكِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ
وَالنُّجُومِ ، وَوَكَّلَبِكُلِّ عَبْدٍ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ ،
كَاتِبَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ، وَحَافِظَيْنِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَمِنْ خَلْفِهِ ، وَوَكَّلَ مَلَائِكَةً بِقَبْضِ رُوحِهِ وَتَجْهِيزِهَا إِلَى مُسْتَقَرِّهَا
فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ، وَمَلَائِكَةً بِمُسَاءَلَتِهِ وَامْتِحَانِهِ فِي
قَبْرِهِ ، وَمَلَائِكَةً بِتَعْذِيبِهِ فِي النَّارِ أَوْ نَعِيمِهِ فِي
الْجَنَّةِ ، وَوَكَّلَ بِالْجِبَالِ مَلَائِكَةً ، وَبِالسَّحَابِ مَلَائِكَةً
تَسُوقُهُ حَيْثُ أُمِرَتْ بِهِ ، وَبِالْقَطْرِ مَلَائِكَةً تَنْزِلُ بِأَمْرِ
اللَّهِ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ كَمَا شَاءَ اللَّهُ ، وَوَكَّلَ مَلَائِكَةً بِغَرْسِ
الْجَنَّةِ وَعَمَلِ آلَتِهَا وَفُرُشِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا ، وَمَلَائِكَةً
بِالنَّارِ كَذَلِكَ .
فَأَعْظَمُ جُنْدِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةُ ، وَلَفْظُ الْمَلَكِ
يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مُنَفِّذُ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ
شَيْءٌ ، بَلِ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ ، وَهُمْ يُدَبِّرُونَ الْأَمْرَ
وَيُقَسِّمُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ ، قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا
عَنْهُمْ : وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا
وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [ سُورَةُ
مَرْيَمَ : 64 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي
السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ
يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [ سُورَةُ النَّجْمِ : 26 ] .
وَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِطَوَائِفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ
الْمُنَفِّذِينَ لِأَمْرِهِ فِي الْخَلِيفَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا [ سُورَةُ
الصَّافَّاتِ : 1 - 3 ] .
وَقَالَ : وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ
عَصْفًا وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا
عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [ سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ : 1 - 6 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا
فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [ سُورَةُ النَّازِعَاتِ : 1 - 5 ] .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى ذَلِكَ وَسِرَّ الْإِقْسَامِ
بِهِ فِي كِتَابِ ( التِّبْيَانِ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ ) .
[ ص: 202
]
وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَجَمِيعُ تِلْكَ الْمُحَبَّاتِ
وَالْمُحَرِّكَاتِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْأَفْعَالِ : هِيَ عِبَادَةٌ مِنْهُمْ
لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ ، وَجَمِيعُ الْحَرَكَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْقَسْرِيَّةِ
تَابِعَةٌ لَهَا ، فَلَوْلَا الْحُبُّ مَا دَارَتِ الْأَفْلَاكُ ، وَلَا
تَحَرَّكَتِ الْكَوَاكِبُ النَّيِّرَاتُ ، وَلَا هَبَّتِ الرِّيَاحُ
الْمُسَخَّرَاتُ ، وَلَا مَرَّتِ السُّحُبُ الْحَامِلَاتُ ، وَلَا تَحَرَّكَتِ
الْأَجِنَّةُ فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ ، وَلَا انْصَدَعَ عَنِ الْحَبِّ
أَنْوَاعُ النَّبَاتِ ، وَلَا اضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُ الزَّاخِرَاتِ ، وَلَا
تَحَرَّكَتِ الْمُدَبِّرَاتُ وَالْمُقْسِّمَاتُ ، وَلَا سَبَّحَتْ بِحَمْدِ
فَاطِرِهَا الْأَرَضُونَ وَالسَّمَاوَاتُ ، وَمَا فِيهَا مِنْ أَنْوَاعِ
الْمَخْلُوقَاتِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ : تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ
وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ
وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُكَانَ حَلِيمًا غَفُورًا [ سُورَةُ
الْإِسْرَاءِ : 44 ] .
فَصْلٌ: الْحُبُّ لِلَّهِ وَحْدَهُفَإِذَا عُرِفَ ذَلِكَ
فَكُلُّ حَيٍّ لَهُ إِرَادَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَعَمَلٌ بِحَسَبِهِ ، وَكُلُّ
مُتَحَرِّكٍ فَأَصْلُ حَرَكَتِهِ الْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ ، وَلَا صَلَاحَ
لِلْمَوْجُودَاتِ إِلَّا بِأَنْ تَكُونَ حَرَكَاتُهَا وَمَحَبَّتُهَا لِفَاطِرِهَا
وَبَارِئِهَا وَحْدَهُ ، كَمَا لَا وُجُودَ لَهَا إِلَّا بِإِبْدَاعِهِ وَحْدَهُ .
وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ
إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 22 ] .
وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ : لَمَا وُجِدَتَا
وَلَكَانَتَا مَعْدُومَتَيْنِ ، وَلَا قَالَ : لَعُدِمَتَا ، إِذْ هُوَ
سُبْحَانَهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُبْقِيَهُمَا عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ ، لَكِنْ
لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَا عَلَى وَجْهِ الصَّلَاحِ وَالِاسْتِقَامَةِ إِلَّا بِأَنْ
يَكُونَ اللَّهُ وَحْدَهُ هُوَ مَعْبُودَهُمَا ، وَمَعْبُودَ مَا حَوَتَاهُ وَسَكَنَ
فِيهِمَا ، فَلَوْ كَانَ فِي الْعَالَمِ إِلَهَانِ لَفَسَدَ نِظَامُهُ غَايَةَ
الْفَسَادِ ، فَإِنَّ كُلَّ إِلَهٍ كَانَ يَطْلُبُ مُغَالَبَةَ الْآخَرِ ،
وَالْعُلُوَّ عَلَيْهِ ، وَتَفَرُّدَهُ دُونَهُ بِإِلَهِيَّتِهِ ، إِذِ
الشَّرِكَةُ نَقْصٌ فِي كَمَالِ الْإِلَهِيَّةِ ، وَالْإِلَهُ لَا يَرْضَى
لِنَفْسِهِ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا نَاقِصًا ، فَإِنْ قَهَرَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ
كَانَ هُوَ الْإِلَهَ وَحْدَهُ ، وَالْمَقْهُورُ لَيْسَ بِإِلَهٍ ، وَإِنْ لَمْ
يَقْهَرْ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ لَزِمَ عَجْزُ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَلَمْ يَكُنْ
تَامَّ الْإِلَهِيَّةِ ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ فَوْقَهُمَا إِلَهٌ قَاهِرٌ لَهُمَا
حَاكِمٌ عَلَيْهِمَا ، وَإِلَّا ذَهَبَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِمَا خَلَقَ ، وَطَلَبَ
كُلٌّ مِنْهُمَا الْعُلُوَّ عَلَى الْآخَرِ ، وَفِي ذَلِكَ فَسَادُ أَمْرِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ فَسَادِ
الْبَلَدِ إِذَا كَانَ فِيهَا مَلِكَانِ مُتَكَافِئَانِ ، وَفَسَادِ الزَّوْجَةِ
إِذَا كَانَ لَهَا بَعْلَانِ ، وَالشَّوْلِ : إِذَا كَانَ فِيهِ فَحْلَانِ .
وَأَصْلُ فَسَادِ الْعَالَمِ إِنَّمَا هُوَ مِنَ
اخْتِلَافِ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَطْمَعْ أَعْدَاءُ
الْإِسْلَامِ [ ص: 203 ] فِيهِ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمِنَةِ إِلَّا فِي زَمَنِ
تَعَدُّدِ الْمُلُوكِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَاخْتِلَافِهِمْ ، وَانْفِرَادِ كُلٍّ
مِنْهُمْ بِبِلَادٍ ، وَطَلَبِ بَعْضِهُمُ الْعُلُوَّ عَلَى بَعْضٍ .
فَصَلَاحُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاسْتِقَامَتُهَا
، وَانْتِظَامُ أَمْرِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى أَتَمِّ نِظَامٍ مِنْ أَظْهَرِ
الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
، وَأَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ مِنْ لَدُنْ عَرْشِهِ إِلَى قَرَارِ أَرْضِهِ بَاطِلٌ
إِلَّا وَجْهَهُ الْأَعْلَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ
وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [ سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ
: 91 - 93 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ
الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ
لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لَا يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ : 21 - 23 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا
يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
: 42 ] .
فَقِيلَ
: لَابْتَغَوُا السَّبِيلَ إِلَيْهِ بِالْمُغَالَبَةِ
وَالْقَهْرِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ ، وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى : وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ .
قَالَ شَيْخُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - :
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَعْنَى
: لَابْتَغَوْا إِلَيْهِ سَبِيلًا بِالتَّقَرُّبِ
إِلَيْهِ وَطَاعَتِهِ ، فَكَيْفَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِهِ ؟ وَهُمْ لَوْ
كَانُوا آلِهَةً كَمَا يَقُولُونَ لَكَانُوا عَبِيدًا لَهُ ، قَالَ : وَيَدُلُّ
عَلَى هَذَا وُجُوهٌ :
مِنْهَا : قَوْلُهُ تَعَالَى : أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ [ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ : 57 ] .
أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِي
هُمْ عِبَادِي كَمَا أَنْتُمْ عِبَادِي ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتِي وَيَخَافُونَ عَذَابِي
، فَلِمَاذَا تَعْبُدُونَهُمْ مِنْ دُونِي ؟
الثَّانِي
: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُلْ لَابْتَغَوْا
عَلَيْهِ سَبِيلًا ، بَلْ قَالَ : لَابْتَغَوْا إِلَيْهِ سَبِيلًا ، وَهَذَا
اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُفِي التَّقَرُّبِ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى :
اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [ سُورَةُ الْمَائِدَةِ : 35 ] .
[ ص: 204 ] وَأَمَّا فِي الْمُغَالَبَةِ فَإِنَّمَا
يُسْتَعْمَلُ بِعَلَى كَقَوْلِهِ : فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 34 ] .
وَالثَّالِثُ : أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا إِنَّ
آلِهَتَهُمْ تُغَالِبُهُ وَتَطْلُبُ الْعُلُوَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ
قَدْ قَالَ : قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ وَهُمْ إِنَّمَا
كَانُوا يَقُولُونَ : إِنَّ آلِهَتَهُمْ تَبْتَغِي التَّقَرُّبَ إِلَيْهِ
وَتُقَرِّبُهُمْ زُلْفَى إِلَيْهِ ، فَقَالُوا : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا
تَقُولُونَ لَكَانَتْ تِلْكَ الْآلِهَةُ عَبِيدًا لَهُ ، فَلِمَاذَا تَعْبُدُونَ
عَبِيدَهُ مِنْ دُونِهِ ؟
فَصْلٌ:
آثَارُ الْمَحَبَّةِوَالْمَحَبَّةُ لَهَا آثَارٌ
وَتَوَابِعُ وَلَوَازِمُ وَأَحْكَامٌ ، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْمُودَةً أَوْ
مَذْمُومَةً ، نَافِعَةً أَوْ ضَارَّةً ، مِنَ الْوَجْدِ وَالذَّوْقِ
وَالْحَلَاوَةِ ، وَالشَّوْقِ وَالْأُنْسِ ، وَالِاتِّصَالِ بِالْمَحْبُوبِ
وَالْقُرْبِ مِنْهُ ، وَالِانْفِصَالِ عَنْهُ وَالْبُعْدِ عَنْهُ ، وَالصَّدِّ
وَالْهُجْرَانِ ، وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ ، وَالْبُكَاءِ وَالْحُزْنِ ، وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهَا وَلَوَازِمِهَا .
وَالْمَحَبَّةُ الْمَحْمُودَةُ : هِيَ الْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ
الَّتِي تَجْلِبُ لِصَاحِبِهَا مَا يَنْفَعُهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ ،
وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ عُنْوَانُ السَّعَادَةِ ، وَالضَّارَّةُ : هِيَ
الَّتِي تَجْلِبُ لِصَاحِبِهَا مَا يَضُرُّهُ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ ، وَهِيَ
عُنْوَانُ الشَّقَاوَةِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَيَّ الْعَاقِلَ لَا يَخْتَارُ مَحَبَّةَ
مَا يَضُرُّهُ وَيُشْقِيهِ ، وَإِنَّمَا يَصْدُرُ ذَلِكَ عَنْ جَهْلٍ وَظُلْمٍ ،
فَإِنَّ النَّفْسَ قَدْ تَهْوَى مَا يَضُرُّهَا وَلَا يَنْفَعُهَا ، وَذَلِكَ مِنْ
ظُلْمِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ ، إِمَّا بِأَنْ تَكُونَ جَاهِلَةً بِحَالِ
مَحْبُوبِهَا بِأَنْ تَهْوَى الشَّيْءَ وَتُحِبَّهُ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِمَا فِي
مَحَبَّتِهِ مِنَ الْمَضَرَّةِ ، وَهَذَا حَالُ مَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ
عِلْمٍ ، وَإِمَّا عَالِمَةً بِمَا فِي مَحَبَّتِهِ مِنَ الضَّرَرِ لَكِنْ
تُؤْثِرُ هَوَاهَا عَلَى عِلْمِهَا ، وَقَدْ تَتَرَكَّبُ مَحَبَّتُهَا عَلَى
أَمْرَيْنِ : اعْتِقَادٍ فَاسِدٍ ، وَهُوَ مَذْمُومٌ ، وَهَذَا حَالُ مَنِ اتَّبَعَ الظَّنَّ
وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ ، فَلَا تَقَعُ الْمَحَبَّةُ الْفَاسِدَةُ إِلَّا مِنْ
جَهْلٍ أَوِ اعْتِقَادٍ فَاسِدٍ أَوْ هَوًى غَالِبٍ ، أَوْ مَا تَرَكَّبَ مِنْ
ذَلِكَ فَأَعَانَ بَعْضُهُ بَعْضًا فَتَنْفُقُ شُبْهَةً وَشَهْوَةً ، شُبْهَةً
يَشْتَبِهُ بِهَا الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ وَتُزَيِّنُ لَهُ أَمْرَ الْمَحْبُوبِ ،
وَشَهْوَةً تَدْعُوهُ إِلَى حُصُولِهِ ، فَيَتَسَاعَدُ جَيْشُ الشُّبْهَةِ
وَالشَّهْوَةِ عَلَى جَيْشِ الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ ، وَالْغَلَبَةُ
لِأَقْوَاهُمَا .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَتَوَابِعُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ
أَنْوَاعِ الْمَحَبَّةِ لَهُ حُكْمُ مَتْبُوعِهِ ، فَالْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ
الْمَحْمُودَةُ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ سَعَادَةِ الْعَبْدِ وَتَوَابِعُهَا
كُلُّهَا نَافِعَةٌ لَهُ ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَتْبُوعِهَا ، فَإِنْ [ ص: 205 ]
بَكَى نَفَعَهُ ، وَإِنْ حَزِنَ نَفَعَهُ ، وَإِنْ فَرِحَ نَفَعَهُ ، وَإِنِ انْقَبَضَ
نَفَعَهُ ، وَإِنِ انْبَسَطَ نَفَعَهُ ، فَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِي مَنَازِلِ
الْمَحَبَّةِ وَأَحْكَامِهَا فِي مَزِيدٍ وَرِبْحٍ وَقُوَّةٍ .
وَالْمَحَبَّةُ الضَّارَّةُ الْمَذْمُومَةُ ،
تَوَابِعُهَا وَآثَارُهَا كُلُّهَا ضَارَّةٌ لِصَاحِبِهَا ، مُبْعِدَةٌ لَهُ مِنْ
رَبِّهِ ، كَيْفَمَا تَقَلَّبَ فِي آثَارِهَا وَنَزَلَ فِي مَنَازِلِهَا فِي
خَسَارَةٍ وَبُعْدٍ .
وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ فِعْلٍ تَوَلَّدَ عَنْ طَاعَةٍ
وَمَعْصِيَةٍ ، فَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ مِنَ الطَّاعَةِ فَهُوَ زِيَادَةٌ
لِصَاحِبِهَا وَقُرْبَةٌ ، وَكُلُّ مَا تَوَلَّدَ عَنِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ
خُسْرَانٌ لِصَاحِبِهِ وَبُعْدٌ ، قَالَ تَعَالَى : ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا
يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا
كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا
يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ [ سُورَةُ التَّوْبَةِ : 120 - 121 ] .
فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى
: أَنَّ الْمُتَوَلِّدَ عَنْ طَاعَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ يُكْتَبُ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ
، وَأَخْبَرَ فِي الثَّانِيَةِ : أَنَّ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ الَّتِي
بَاشَرُوهَا تُكْتَبُ لَهُمْ أَنْفُسُهَا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ
الْأَوَّلَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِمْ ، وَإِنَّمَا تَوَلَّدَ عَنْهُ فَكُتِبَ لَهُمْ
بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ، وَالثَّانِي نَفْسُ أَعْمَالِهِمْ فَكُتِبَ لَهُمْ .
فَلْيَتَأَمَّلْ قَتِيلُ الْمَحَبَّةِ هَذَا الْفَصْلَ
حَقَّ التَّأَمُّلِ ؛ لِيَعْلَمَ مَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ .
سَيَعْلَمُ يَوْمَ الْعَرْضِ أَيَّ بِضَاعَةٍ أَضَاعَ
وَعِنْدَ الْوَزْنِ مَا كَانَ حَصَّلَا
فَصْلٌ:
الْمَحَبَّةُ أَصْلُ كُلِّ دِينٍوَكَمَا أَنَّ
الْمَحَبَّةَ وَالْإِرَادَةَ أَصْلُ كُلِّ فِعْلٍ كَمَا تَقَدَّمَ ، فَهِيَ أَصْلُ
كُلِّ دِينٍ سَوَاءٌ أَكَانَ حَقًّا أَوْ بَاطِلًا ، فَإِنَّ الدِّينَهُوَ مِنَ الْأَعْمَالِ
الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ ، وَالْمَحَبَّةُ وَالْإِرَادَةُ أَصْلُ ذَلِكَ
كُلِّهِ ، وَالدِّينُ هُوَ الطَّاعَةُ وَالْعِبَادَةُ وَالْخُلُقُ ، فَهُوَ
الطَّاعَةُ اللَّازِمَةُ الدَّائِمَةُ الَّتِي صَارَتْ خُلُقًا وَعَادَةً ،
وَلِهَذَا فُسِّرَ الْخُلُقُ بِالدِّينِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ [ سُورَةُ الْقَلَمِ
: 4 ] .
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَعَلَى دِينٍ عَظِيمٍ .
وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ : " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ " .
[ ص: 206
] وَالدِّينُ فِيهِ مَعْنَى الْإِذْلَالِ وَالْقَهْرِ ،
وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ مِنَ
الْأَعْلَى إِلَى الْأَسْفَلِ ، كَمَا يُقَالُ : دِنْتُهُ فَدَانَ ، أَيْ
قَهَرَتْهُ فَذَلَّ .
قَالَ الشَّاعِرُ :
هُوَ دَانَ الرَّبَابَ إِذْ كَرِهُوا الدِّ ينَ
فَأَضْحَوْا بِعِزَّةٍ وَصِيَالِ
وَيَكُونُ مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى ، كَمَا
يُقَالُ : دِنْتُ اللَّهَ ، وَدِنْتُ لِلَّهِ ، وَفُلَانٌ لَا يَدِينُ اللَّهَ
دِينًا ، وَلَا يَدِينُ اللَّهَ بِدِينٍ ، فَدَانَ اللَّهَ : أَيْ أَطَاعَ اللَّهَ
وَأَحَبَّهُ وَخَافَهُ ، وَدَانَ اللَّهَ : تَخَشَّعَ لَهُ وَخَضَعَ وَذَلَّ
وَانْقَادَ .
وَالدِّينُ الْبَاطِنُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْحُبِّ
وَالْخُضُوعِ كَالْعِبَادَةِ سَوَاءً ، بِخِلَافِ الدِّينِ الظَّاهِرِ ، فَإِنَّهُ
لَا يَسْتَلْزِمُ الْحُبَّ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ انْقِيَادٌ وَذُلٌّ فِي الظَّاهِرِ .
وَسَمَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [ يَوْمَ الدِّينِ
] فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يَدِينُ فِيهِ النَّاسُ فِيهِ بِأَعْمَالِهِمْ ،
إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ
جَزَاءَهُمْ وَحِسَابَهُمْ ، فَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِيَوْمِ الْجَزَاءِ ،
وَيَوْمِ الْحِسَابِ .
وَقَالَ تَعَالَى : فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ
مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ سُورَةُ الْوَاقِعَةِ : 86
- 87 ] .
أَيْ هَلَّا تَرُدُّونَ الرُّوحَ إِلَى مَكَانِهَا إِنْ
كُنْتُمْ غَيْرَ مَرْبُوبِينَ مَقْهُورِينَ وَلَا مَجْزِيِّينَ ، وَهَذِهِ
الْآيَةُ تَحْتَاجُ إِلَى تَفْسِيرٍ، فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِلِاحْتِجَاجِ
عَلَيْهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْحِسَابَ ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ
مُسْتَلْزِمًا لِمَدْلُولِهِ ، بِحَيْثُ يَنْتَقِلُ الذِّهْنُ مِنْهُ إِلَى
الْمَدْلُولِ ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّلَازُمِ ، فَيَكُونُ الْمَلْزُومُ
دَلِيلًا عَلَى لَازِمِهِ ، وَلَا يَجِبُ الْعَكْسُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ : أَنَّهُمْ إِذَا أَنْكَرُوا
الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ فَقَدْ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ، وَأَنْكَرُوا قُدْرَتَهُ وَرُبُوبِيَّتَهُ
وَحِكْمَتَهُ ، فَإِمَّا أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ لَهُمْ رَبًّا قَاهِرًا
مُتَصَرِّفًا فِيهِمْ ، كَمَا سَيُمِيتُهُمْ إِذَا شَاءَ وَيُحْيِيهِمْ إِذَا
شَاءَ ، وَيَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ ، وَيُثِيبُ مُحْسِنَهُمْ وَيُعَاقِبُ
مُسِيئَهُمْ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يُقِرُّوا بِرَبٍّ هَذَا شَأْنُهُ ، فَإِنْ
أَقَرُّوا بِهِ آمَنُوا بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ، وَالدِّينِ الْأَمْرِيِّ
وَالْجَزَائِيِّ ، وَإِنْ أَنْكَرُوهُ كَفَرُوا بِهِ ، فَقَدْ زَعَمُوا أَنَّهُمْ
غَيْرُ مَرْبُوبِينَ وَلَا مَحْكُومٍ عَلَيْهِمْ ، وَلَا لَهُمْ رَبٌّ يَتَصَرَّفُ
فِيهِمْ كَمَا أَرَادَ ، فَهَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ الْمَوْتِ عَنْهُمْ
إِذَا جَاءَهُمْ ، وَعَلَى رَدِّ الرُّوحِ إِلَى مُسْتَقَرِّهَا إِذَا بَلَغَتِ
الْحُلْقُومَ ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْحَاضِرِينَ وَهُمْ عِنْدَ الْمُحْتَضِرِ ،
وَهُمْ يُعَايِنُونَ مَوْتَهُ ، أَيْ : فَهَلَّا تَرُدُّونَالرُّوحَ إِلَى
مَكَانِهَا إِنْ كَانَ لَكُمْ قُدْرَةٌ وَتَصَرُّفٌ ، وَلَسْتُمْ بِمَرْبُوبِينَ
وَلَا بِمَقْهُورِينَ لِقَاهِرٍ قَادِرٍ ، تَمْضِي عَلَيْكُمْ أَحْكَامُهُ ،
وَتَنْفُذُ أَوَامِرُهُ ، وَهَذِهِ غَايَةُ التَّعْجِيزِ لَهُمْ ، إِذْ بَيَّنَ
عَجْزَهُمْ عَنْ رَدِّ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى [ ص: 207 ] مَكَانِهَا ، وَلَوِ
اجْتَمَعَ عَلَى ذَلِكَ الثَّقَلَانِ ، فَيَا لَهَا مِنْ آيَةٍ دَالَّةٍ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ
وَرُبُوبِيَّتِهِ سُبْحَانَهُ ، وَتَصَرُّفِهِ فِي عِبَادِهِ ، وَنُفُوذِ
أَحْكَامِهِ فِيهِمْ ، وَجَرَيَانِهَا عَلَيْهِمْ .
الدِّينُ دِينَانِ
وَالدِّينُ دِينَانِ : دِينٌ شَرْعِيٌّ أَمْرِيٌّ ،
وَدِينٌ حِسَابِيٌّ جَزَائِيٌّ ، وَكَلَاهُمَا لِلَّهِ وَحْدَهُ ، فَالدِّينُ
كُلُّهُ لِلَّهِ أَمْرًا أَوْ جَزَاءً، وَالْمَحَبَّةُ أَصْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ
الدِّينَيْنِ ، فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَأَمَرَ بِهِ
يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، وَمَا نَهَى عَنْهُ فَإِنَّهُ يَكْرَهُهُ وَيُبْغِضُهُ ؛
لِمُنَافَاتِهِ لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ ، فَهُوَ يُحِبُّ ضِدَّهُ ، فَعَادَ
دِينُهُ الْأَمْرِيُّ كُلُّهُ إِلَى مَحَبَّتِهِوَرِضَاهُ .
وَدِينُ الْعَبْدِ لِلَّهِ بِهِ إِنَّمَا يُقْبَلُ إِذَا
كَانَ عَنْ مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا ،
وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا ، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
رَسُولًا ، فَهَذَا مَدِينٌ قَائِمٌ بِالْمَحَبَّةِ وَبِسَبَبِهَا شُرِعَ ، وَلِأَجْلِهَا
شُرِعَ ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَ ، وَكَذَلِكَ دِينُهُ الْجَزَائِيُّ ، فَإِنَّهُ
يَتَضَمَّنُ مُجَازَاةَ الْمُحْسِنِ بِإِحْسَانِهِ ، وَالْمُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ ،
وَكُلٌّ مِنَ الْأَمْرَيْنِ مَحْبُوبٌ لِلرَّبِّ ، فَإِنَّهُمَا عَدْلُهُ
وَفَضْلُهُ ، وَكِلَاهُمَا مِنْ صِفَاتِ كَمَالِهِ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يُحِبُّ
صِفَاتِهِ وَأَسْمَاءَهُ ، وَيُحِبُّ مَنْ يُحِبُّهَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدِّينَيْنِ
فَهُوَ صِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ فَهُوَ عَلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ ، كَمَا
قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ : إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ
عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ
بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [ سُورَةُ هُودٍ : 54 - 56 ] .
وَلَمَّا عَلِمَ نَبِيُّ اللَّهِ هُودٌ عَلَيْهِ
السَّلَامُ أَنَّ رَبَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ
وَنَهْيِهِ ، وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ ، وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ ، وَمَنْعِهِ
وَعَطَائِهِ ، وَعَافِيَتِهِ وَبَلَائِهِ ، وَتَوْفِيقِهِ وَخِذْلَانِهِ ، لَا
يَخْرُجُ فِي ذَلِكَ عَنْ مُوجِبِ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ ، الَّذِي يَقْتَضِيهِ
أَسْمَاؤُهُ وَصِفَاتُهُ ، مِنَ الْعَدْلِ وَالْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ
وَالْإِحْسَانِ وَالْفَضْلِ ، وَوَضْعِ الثَّوَابِ مَوَاضِعَهُ ، وَالْعُقُوبَةِ
فِي مَوْضِعِهَا اللَّائِقِ بِهَا ، وَوَضْعِ التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ
وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ ، كُلُّ ذَلِكَ فِي
أَمَاكِنِهِ وَمِحَالِّهِ اللَّائِقَةِ بِهِ ، بِحَيْثُ يَسْتَحِقُّ عَلَى ذَلِكَ كَمَالَ
الْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ ، أَوْجَبَ لَهُ ذَلِكَ الْعِلْمَ وَالْعِرْفَانَ ، إِذْ
نَادَى عَلَى رُؤُوسِ الْمَلَأِ مِنْ قَوْمِهِ بِجَنَانٍ ثَابِتٍ وَقَلْبٍ غَيْرِ
خَائِفٍ بَلْ مُتَجَرِّدٍ لِلَّهِ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي
بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا
تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ
دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ .
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عُمُومِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ
لِكُلِّ مَا سِوَاهُ ، وَذُلِّ كُلِّ شَيْءٍ لِعَظَمَتِهِ ، فَقَالَ : [ ص: 208 ]
مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ
، فَكَيْفَ أَخَافُ مَنْ نَاصِيَتُهُ بِيَدِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ فِي قَهْرِهِ
وَقَبْضَتِهِ وَتَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ دُونَهُ ، وَهَلْ هَذَا إِلَّا مِنْ
أَجْهَلِالْجَهْلِ ، وَأَقْبَحِ الظُّلْمِ ؟
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ ، فَكُلُّ مَا يَقْضِيهِ وَيُقَدِّرُهُ فَلَا يَخَافُ الْعَبْدُ
جَوْرَهُ وَلَا ظُلْمَهُ ، فَلَا أَخَافُ مَا دُونَهُ ، فَإِنَّ نَاصِيَتَهُ
بِيَدِهِ ، وَلَا أَخَافُ جَوْرَهُ وَظُلْمَهُ ، فَإِنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَاضٍ فِي عَبْدِهِ حُكْمُهُ ، عَدْلٌ فِيهِ
قَضَاؤُهُ ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ ، وَلَا يَخْرُجُ فِي تَصَرُّفِهِ
فِي عِبَادِهِ عَنِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ ، إِنْ أَعْطَى وَأَكْرَمَ وَهَدَى وَوَفَّقَ
فَبِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ ، وَإِنْ مَنَعَ وَأَهَانَ وَأَضَلَّ وَخَذَلَ
وَأَشْقَى فَبِعَدْلِهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فِي
هَذَا وَهَذَا .
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : مَا أَصَابَ عَبْدًا
قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ ، فَقَالَ : اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ
عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ ، عَدْلٌ
فِيَّ قَضَاؤُكَ ، أَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ ، سَمَّيْتَ
بِهِ نَفْسَكَ ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ
خَلْقِكَ ، أَوِ اسْتَأْثَرَتْ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ : أَنْ
تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي ، وَنُورَ صَدْرِي ، وَجِلَاءَ
حُزْنِي ، وَذَهَابَ هَمِّي وَغَمِّي ، إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَغَمَّهُ
، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهُنَّ
؟ قَالَ : بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهُنَّ أَنْ يَتَعَلَّمَهُنَّ .
وَهَذَا يَتَنَاوَلُ حُكْمَ الرَّبِّ الْكَوْنِيَّ وَالْأَمْرِيَّ
وَقَضَاءَهُ الَّذِي يَكُونُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ وَغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ،
وَكِلَا الْحُكْمَيْنِ مَاضٍ فِي عَبْدِهِ ، وَكِلَا الْقَضَائَيْنِ عَدْلٌ فِيهِ
، فَهَذَا الْحَدِيثُ مُشْتَقٌّ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، بَيْنَهُمَا أَقْرَبُ
نَسَبٍ .
فَصْلٌ:
عِشْقُ الصُّوَرِوَنَخْتِمُ الْجَوَابَ بِفَصْلٍ
مُتَعَلِّقٍ بِعِشْقِ الصُّوَرِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ
وَالْآجِلَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَضْعَافَ مَا ذَكَرَهُ ذَاكِرٌ ، فَإِنَّهُ
يُفْسِدُ الْقَلْبَ بِالذَّاتِ ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ ؛ فَسَدَتِ
الْإِرَادَاتُ وَالْأَقْوَالُ وَالْأَعْمَالُ ، وَفَسَدَ ثَغْرُ التَّوْحِيدِ
كَمَا تَقَدَّمَ ، وَكَمَا سَنُقَرِّرُهُ أَيْضًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إِنَّمَا حَكَى هَذَا
الْمَرَضَ عَنْ طَائِفَتَيْنِ مِنَ النَّاسِ ، وَهُمُ اللُّوطِيَّةُ وَالنِّسَاءُ
، فَأَخْبَرَ عَنْ عِشْقِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ لِيُوسُفَ ، وَمَا رَاوَدَتْهُ
وَكَادَتْهُ بِهِ ، وَأَخْبَرَ عَنِ الْحَالِ الَّتِي صَارَ إِلَيْهَا يُوسُفُ
بِصَبْرِهِ وَعِفَّتِهِ وَتَقْوَاهُ ، مَعَ أَنَّ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ أَمْرٌ
لَا يَصْبِرُ عَلَيْهِ إِلَّا مَنْ صَبَّرَهُ [ ص: 209 ] اللَّهُ ، فَإِنَّ
مُوَاقَعَةَ الْفِعْلِ بِحَسَبِ قُوَّةِ الدَّاعِي وَزَوَالِ الْمَانِعِ ، وَكَانَ
الدَّاعِي هَاهُنَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ :
أَحَدُهَا : مَا رَكَّبَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي
طَبْعِ الرَّجُلِ مِنْ مَيْلِهِ إِلَى الْمَرْأَةِ ، كَمَا يَمِيلُ الْعَطْشَانُ
إِلَى الْمَاءِ ، وَالْجَائِعُ إِلَى الطَّعَامِ ، حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ
النَّاسِ يَصْبِرُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا يَصْبِرُ عَنِ النِّسَاءِ ،
وَهَذَا لَا يُذَمُّ إِذَا صَادَفَ حَلَالًا ، بَلْ يُحْمَدُ كَمَا فِي كِتَابِ الزُّهْدِ
لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ يُوسُفَ بْنِ عَطِيَّةَ الصِّفَارِ عَنْ
ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، أَصْبِرُ عَنِ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ .
الثَّانِي : أَنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ
شَابًّا ، وَشَهْوَةُ الشَّبَابِ وَحِدَّتُهُ أَقْوَى .
الثَّالِثُ : أَنَّهُ كَانَ عَزَبَا ، لَيْسَ لَهُ
زَوْجَةٌ وَلَا سُرِّيَّةٌ تَكْسِرُ شِدَّةَ الشَّهْوَةِ .
الرَّابِعُ :
أَنَّهُ كَانَ فِي بِلَادِ غُرْبَةٍ ، يَتَأَتَّى
لِلْغَرِيبِ فِيهَا مِنْ قَضَاءِ الْوَطَرِ مَا لَا يَتَأَتَّى لَهُ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ
أَهْلِهِ وَمَعَارِفِهِ .
الْخَامِسُ : أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ ذَاتَ مَنْصِبٍ
وَجِمَالٍ ، بِحَيْثُ إِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ يَدْعُو
إِلَى مُوَاقَعَتِهَا .
السَّادِسُ : أَنَّهَا غَيْرُ مُمْتَنِعَةٍ وَلَا
آبِيَةٍ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُزِيلُ رَغْبَتَهُ فِي الْمَرْأَةِ
إِبَاؤُهَا وَامْتِنَاعُهَا ، لِمَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذُلِّ الْخُضُوعِ
وَالسُّؤَالِ لَهَا ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَزِيدُهُ الْإِبَاءُ
وَالِامْتِنَاعُ إِرَادَةً وَحُبًّا ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
وَزَادَنِي كَلَفًا فِي الْحُبِّ أَنْ مَنَعَتْ أَحَبُّ
شَيْءٍ إِلَى الْإِنْسَانِ مَا مَنَعَا
فَطِبَاعُ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ
يَتَضَاعَفُ حُبُّهُ عِنْدَ بَذْلِ الْمَرْأَةِ وَرَغْبَتِهَا ، وَيَضْمَحِلُّ
عِنْدَ إِبَائِهَا وَامْتِنَاعِهَا ، وَأَخْبَرَنِي بَعْضُ الْقُضَاةِ أَنَّ
إِرَادَتَهُ وَشَهْوَتَهُ تَضْمَحِلُّ عِنْدَ امْتِنَاعِ امْرَأَتِهِ أَوْ
سُرِّيَّتِهِ وَإِبَائِهَا ، بِحَيْثُ لَا يُعَاوِدُهَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ
يَتَضَاعَفُ حُبُّهُ وَإِرَادَتُهُ بِالْمَنْعِ فَيَشْتَدُّ شَوْقُهُ كُلَّمَا
مُنِعَ ، وَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللَّذَّةِ بِالظَّفَرِ بِالضِّدِّ بَعْدَ امْتِنَاعِهِ
وَنِفَارِهِ ، وَاللَّذَّةُ بِإِدْرَاكِ الْمَسْأَلَةِ بَعْدَ اسْتِصْعَابِهَا ،
وَشِدَّةِ الْحِرْصِ عَلَى إِدْرَاكِهَا .
السَّابِعُ :
أَنَّهَا طَلَبَتْ وَأَرَادَتْ وَبَذَلَتِ الْجُهْدَ ،
فَكَفَتْهُ مُؤْنَةَ الطَّلَبِ وَذُلَّ الرَّغْبَةِ إِلَيْهَا ، بَلْ كَانَتْ هِيَ
الرَّاغِبَةَ الذَّلِيلَةَ ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْمَرْغُوبُ إِلَيْهِ .
الثَّامِنُ :
أَنَّهُ فِي دَارِهَا ، وَتَحْتَ سُلْطَانِهَا
وَقَهْرِهَا ، بِحَيْثُ يَخْشَى إِنْ لَمْ يُطَاوِعْهَا مِنْ أَذَاهَا لَهُ ،
فَاجْتَمَعَ دَاعِي الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ .
[ ص: 210
]
التَّاسِعُ : أَنَّهُ لَا يَخْشَى أَنْ تَنِمَّ عَلَيْهِ
هِيَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ جِهَتِهَا ، فَإِنَّهَا هِيَ الطَّالِبَةُ الرَّاغِبَةُ ،
وَقَدْ غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَغَيَّبَتِ الرُّقَبَاءَ .
الْعَاشِرُ : أَنَّهُ كَانَ فِي الظَّاهِرِ مَمْلُوكًا
لَهَا فِي الدَّارِ ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَحْضُرُ مَعَهَا وَلَا
يُنْكَرُ عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْأُنْسُ سَابِقًا عَلَى الطَّلَبِ وَهُوَ مِنْ
أَقْوَى الدَّوَاعِي ، كَمَا قِيلَ لِامْرَأَةٍ شَرِيفَةٍ مِنْ أَشْرَافِ
الْعَرَبِ : مَا حَمَلَكِ عَلَى الزِّنَى ؟ قَالَتْ : قُرْبُ الْوِسَادِ ، وَطُولُ
السَّوَادِ ، تَعْنِي قُرْبَ وِسَادِ الرَّجُلِ مِنْ وِسَادَتِي ، وَطُولَ السَّوَادِ
بَيْنَنَا .
الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّهَا اسْتَعَانَتْ عَلَيْهِ
بِأَئِمَّةِ الْمَكْرِ وَالِاحْتِيَالِ ، فَأَرَتْهُ إِيَّاهُنَّ ، وَشَكَتْ
حَالَهَا إِلَيْهِنَّ ؛ لِتَسْتَعِينَ بِهِنَّ عَلَيْهِ ، وَاسْتَعَانَ هُوَ
بِاللَّهِ عَلَيْهِنَّ ، فَقَالَ : وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [ سُورَةُ يُوسُفَ : 33 ] .
الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّهَا تَوَعَّدَتْهُ بِالسِّجْنِ
وَالصَّغَارِ ، وَهَذَا نَوْعُ إِكْرَاهٍ ، إِذْ هُوَ تَهْدِيدُ مَنْ يَغْلِبُ
عَلَى الظَّنِّ وُقُوعُ مَا هَدَّدَ بِهِ ، فَيَجْتَمِعُ دَاعِي الشَّهْوَةِ ،
وَدَاعِي السَّلَامَةِ مِنْ ضِيقِ السِّجْنِ وَالصَّغَارِ .
الثَّالِثَ عَشَرَ : أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَظْهَرْ
مِنْهُ الْغَيْرَةُ وَالنَّخْوَةُ مَا يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَهُمَا ، وَيُبْعِدُ
كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ، بَلْ كَانَ غَايَةَ مَا قَابَلَهَا بِهِ أَنْ
قَالَ لِيُوسُفَ : أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَلِلْمَرْأَةِ : وَاسْتَغْفِرِي
لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ وَشِدَّةُ الْغَيْرَةِ لِلرَّجُلِ
مِنْ أَقْوَى الْمَوَانِعِ ، وَهُنَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ غَيْرَةٌ .
وَمَعَ هَذِهِ الدَّوَاعِي كُلِّهَا فَآثَرَ مَرْضَاةَ
اللَّهِ وَخَوْفَهُ ، وَحَمَلَهُ حُبُّهُ لِلَّهِ عَلَى أَنِ اخْتَارَ السَّجْنَ
عَلَى الزِّنَى : قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي
إِلَيْهِ [ سُورَةُ يُوسُفَ :
33 ] .
وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطِيقُ صَرْفَ ذَلِكَ عَنْ
نَفْسِهِ ، وَأَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى إِنْ لَمْ يَعْصِمْهُ وَيَصْرِفْ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ
؛ صَبَا إِلَيْهِنَّ بِطَبْعِهِ ، وَكَانَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، وَهَذَا مِنْ
كَمَالِ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ وَبِنَفْسِهِ .
وَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنَ الْعِبَرِ وَالْفَوَائِدِ
وَالْحِكَمِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ فَائِدَةٍ ، لَعَلَّنَا إِنْ وَفَّقَ
اللَّهُ أَنْ نُفْرِدَهَا فِي مُصَنَّفٍ مُسْتَقِلٍّ .
فَصْلٌ: عِشْقُ اللُّوطِيَّةِ[ ص: 211 ]
وَالطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ ، الَّذِينَ حَكَى اللَّهُ
عَنْهُمُ الْعِشْقَ : هُمُ اللُّوطِيَّةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَجَاءَ أَهْلُ
الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ قَالَ
هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي
سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [ سُورَةُ الْحِجْرِ : 67 - 72 ] .
فَهَذِهِ الْأُمَّةُ عَشِقَتْ فَحَكَاهُ سُبْحَانَهُ
عَنْ طَائِفَتَيْنِ ، عَشِقَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ مِنَ الصُّوَرِ
، وَلَمْ يُبَالِ بِمَا فِي عِشْقِهِ مِنَ الضَّرَرِ .
وَهَذَا دَاءٌ أَعْيَا الْأَطِبَّاءَ دَوَاؤُهُ ،
وَعَزَّ عَلَيْهِمْ شِفَاؤُهُ ، وَهُوَ وَاللَّهِ الدَّاءُ الْعُضَالُ ،
وَالسُّمُّ الْقَتَّالُ ، الَّذِي مَا عَلِقَبِقَلْبٍ إِلَّا وَعَزَّ عَلَى
الْوَرَى خَلَاصُهُ مِنْ إِسَارِهِ ، وَلَا اشْتَعَلَتْ نَارُهُ فِي مُهْجَةٍ
إِلَّا وَصَعُبَ عَلَى الْخَلْقِ تَخْلِيصُهَا مِنْ نَارِهِ .
وَهُوَ أَقْسَامٌ :
تَارَةً يَكُونُ كُفْرًا : لِمَنِ اتَّخَذَ مَعْشُوقَهُ
نِدًّا يُحِبُّهُ كَمَا يُحِبُّ اللَّهَ ، فَكَيْفَ إِذَا كَانَتْ مَحَبَّتُهُ
أَعْظَمَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِفِي قَلْبِهِ ؟ فَهَذَا عِشْقٌ لَا يُغْفَرُ
لِصَاحِبِهِ ، فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الشِّرْكِ ، وَاللَّهُ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ ، وَإِنَّمَا يَغْفِرُ بِالتَّوْبَةِ الْمَاحِيَةِ مَا دُونُ ذَلِكَ .
وَعَلَامَةُ الْعِشْقِ الشَّرِكِيِّ الْكُفْرِيِّ : أَنْ
يُقَدِّمَ الْعَاشِقُ رِضَاءَ مَعْشُوقِهِ عَلَى رَبِّهِ ، وَإِذَا تَعَارَضَ
عِنْدَهُ حَقُّ مَعْشُوقِهِ وَحَظُّهُ ، وَحَقُّ رَبِّهِ وَطَاعَتُهُ ، قَدَّمَ
حَقَّمَعْشُوقِهِ عَلَى حَقِّ رَبِّهِ ، وَآثَرَ رِضَاهُ عَلَى رِضَاهُ ، وَبَذَلَ
لَهُ أَنْفَسَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَبَذَلَ لِرَبِّهِ - إِنْ بَذَلَ -
أَرْدَأَ مَا عِنْدَهُ ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ فِي مَرْضَاةِ مَعْشُوقِهِ
وَطَاعَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ ، وَجَعَلَ لِرَبِّهِ - إِنْ أَطَاعَهُ -
الْفَضْلَةَ الَّتِي تَفَضَّلَ مَعْشُوقُهُ مِنْ سَاعَاتِهِ .
فَتَأَمَّلْ حَالَ أَكْثَرِ عُشَّاقِ الصُّوَرِ
تَجِدْهَا مُطَابِقَةً لِذَلِكَ ، ثُمَّ ضَعْ حَالَهُمْ فِي كِفَّةٍ ،
وَتَوْحِيدَهُمْ وَإِيمَانَهُمْ فِي كِفَّةٍ ، ثُمَّ زِنْ وَزْنًا يَرْضَى اللَّهُ
بِهِ وَرَسُولُهُ وَيُطَابِقُ الْعَدْلَ ، وَرُبَّمَا صَرَّحَ الْعَاشِقُ مِنْهُمْ
بِأَنَّ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِ رَبِّهِ ، كَمَا
قَالَ الْعَاشِقُ الْخَبِيثُ :
يَتَرَشَّفْنَ مِنْ فَمِي رَشَفَاتٍ هُنَّ أَحْلَى فِيهِ
مِنَ التَّوْحِيدِ
وَكَمَا صَرَّحَ الْخَبِيثُ الْآخَرُ أَنَّ وَصْلَ
مَعْشُوقِهِ أَشْهَى إِلَيْهِ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ ، وَقَدْ مَرَّ .
[ ص: 212 ] بِلَا رَيْبٍ إِنَّ هَذَا الْعِشْقَ مِنْ
أَعْظَمِ الشِّرْكِ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُصَرِّحُ بِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي
قَلْبِهِ مَوْضِعٌ لِغَيْرِ مَعْشُوقِهِ أَلْبَتَّةَ ، بَلْ قَدْ مَلَكَ عَلَيْهِ
قَلْبَهُ كُلَّهُ فَصَارَ عَبْدًا مَحْضًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِمَعْشُوقِهِ ،
فَقَدْ رَضِيَ هَذَا مِنْ عُبُودِيَّةِ الْخَالِقِ جَلَّ جَلَالُهُ بِعُبُودِيَّةِ
مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ : فَإِنَّ الْعُبُودِيَّةَ هِيَ كَمَالُ الْحُبِّ وَالْخُضُوعِ
، وَهَذَا قَدِ اسْتَفْرَغَ قُوَّةَ حُبِّهِ وَخُضُوعِهِ وَذُلِّهِ لِمَعْشُوقِهِ
فَقَدْ أَعْطَاهُ حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ .
وَلَا نِسْبَةَ بَيْنَ مَفْسَدَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ
وَمَفْسَدَةِ الْفَاحِشَةِ ، فَإِنَّ تِلْكَ ذَنْبٌ كَبِيرٌ لِفَاعِلِهِ حُكْمُ
أَمْثَالِهِ ، وَمَفْسَدَةُ هَذَا الْعِشْقِ مَفْسَدَةُ الشِّرْكِ ، وَكَانَ
بَعْضُ الشُّيُوخِ مِنَ الْعَارِفِينَ يَقُولُ : لَأَنْ أُبْتَلَى بِالْفَاحِشَةِ مَعَ
تِلْكَ الصُّورَةِ أَحَبُّإِلَيَّ مِنْ أَنْ أُبْتَلَى فِيهَا بِعِشْقٍ
يَتَعَبَّدُ لَهَا قَلْبِي وَيَشْغَلُهُ عَنِ اللَّهِ .
فَصْلٌ: دَوَاءُ الْعِشْقِوَدَوَاءُ هَذَا الدَّاءُ
الْقَتَّالُ : أَنْ يَعْرِفَ أَنْ مَا ابْتُلِيَ بِهِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ
الْمُضَادِّ لِلتَّوْحِيدِ ، إِنَّمَا هُوَ مِنْ جَهْلِهِ وَغَفْلَةِ قَلْبِهِ
عَنِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَ تَوْحِيدَ رَبِّهِ وَسُنَّتَهُ
أَوَّلًا ، ثُمَّ يَأْتِي مِنَ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ بِمَا
يَشْغَلُ قَلْبَهُ عَنْ دَوَامِ الْفِكْرَةِ فِيهِ ، وَيُكْثِرُ اللَّجَأَ وَالتَّضَرُّعَ
إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي صَرْفِ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَأَنْ يُرَاجِعَ
بِقَلْبِهِ إِلَيْهِ ، وَلَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ أَنْفَعُ مِنَ الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ
، وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ :
كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ [ سُورَةُ يُوسُفَ
: 24 ] .
وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ صَرَفَ عَنْهُ السُّوءَ
مِنَ الْعِشْقِ وَالْفَحْشَاءَ مِنَ الْفِعْلِ بِإِخْلَاصِهِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ
إِذَا أَخْلَصَ وَأَخْلَصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ عِشْقُ
الصُّوَرِ فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَلْبٍ فَارِغٍ ، كَمَا قَالَ :
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى
فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَمَكَّنَا
وَلْيَعْلَمِ الْعَاقِلُ أَنَّ الْعَقْلَ وَالشَّرْعَ
يُوجِبَانِ تَحْصِيلَ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلَهَا ، وَإِعْدَامَ الْمَفَاسِدِ
وَتَقْلِيلَهَا ، فَإِذَا عَرَضَ لِلْعَاقِلِ أَمْرٌ يَرَى فِيهِ مَصْلَحَةً
وَمَفْسَدَةً ، وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْرَانِ : أَمْرٌ عِلْمِيٌّ ، وَأَمْرٌ
عَمَلِيٌّ ، فَالْعِلْمِيُّ : مَعْرِفَةُ الرَّاجِحِ مِنْ طَرَفَيِ الْمَصْلَحَةِ وَالْمَفْسَدَةِ
، فَإِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الرُّجْحَانُ وَجَبَ عَلَيْهِ إِيثَارُ الْأَصْلَحِ لَهُ .
[ ص: 213
]
أَضْرَارُ الْعِشْقِ
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عِشْقِ
الصُّوَرِ مَصْلَحَةٌ دِينِيَّةٌ وَلَا دُنْيَوِيَّةٌ ، بَلْ مَفْسَدَتُهُ
الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يُقَدَّرُ فِيهِ مِنَ
الْمَصْلَحَةِ ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ
:
أَحَدُهَا : الِاشْتِغَالُ بِحُبِّ الْمَخْلُوقِ وَذِكْرِهِ
عَنْ حُبِّ الرَّبِّ تَعَالَى وَذِكْرِهِ ، فَلَا يَجْتَمِعُ فِي الْقَلْبِ هَذَا
وَهَذَا إِلَّا وَيَقْهَرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ ، وَيَكُونُ السُّلْطَانُ
وَالْغَلَبَةُ لَهُ .
الثَّانِي : عَذَابُ قَلْبِهِ بِهِ ، فَإِنَّ مَنْ
أَحَبَّ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ عُذِّبَ بِهِ وَلَا بُدَّ ، كَمَا قِيلَ :
فَمَا فِي الْأَرْضِ أَشْقَى مِنْ مُحِبٍّ *** وَإِنْ
وَجَدَ الْهَوَى حُلْوَ الْمَذَاقِ
تَرَاهُ بَاكِيًا فِي كُلٍّ حِينٍ *** مَخَافَةَ
فُرْقَةٍ أَوْ لِاشْتِيَاقِ
فَيَبْكِي إِنْ نَأَوْا شَوْقًا إِلَيْهِمْ ***
وَيَبْكِي إِنْ دَنَوْا خَوْفَ الْفِرَاقِ
فَتَسْخَنُ عَيْنُهُ عِنْدَ الْفِرَاقِ *** وَتَسْخَنُ
عَيْنُهُ عِنْدَ التَّلَاقِي
وَالْعِشْقُ وَإِنِ اسْتَلَذَّ بِهِ صَاحِبُهُ ، فَهُوَ
أَعْظَمُ مِنْ عَذَابِ الْقَلْبِ
.
الثَّالِثُ :
أَنَّ قَلْبَهُ أَسِيرُ قَبْضَةِ غَيْرِهِ يَسُومُهُ
الْهَوَانَ ، وَلَكِنْ لِسَكْرَتِهِ لَا يَشْعُرُ بِمُصَابِهِ ، فَقَلْبُهُ كَعُصْفُورَةٍ
فِي كَفِّ طِفْلٍ يَسُومُهَا حِيَاضَ الرَّدَى ، وَالطِّفْلُ يَلْهُو وَيَلْعَبُ ،
كَمَا قَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ :
مَلَكْتَ فُؤَادِي بِالْقَطِيعَةِ وَالْجَفَا ***
وَأَنْتَ خَلِيُّ الْبَالِ تَلْهُو وَتَلْعَبُ
فَعَيْشُ الْعَاشِقِ عَيْشُ الْأَسِيرِ الْمُوثَقِ ،
وَعَيْشُ الْخَلِيِّ عَيْشُ الْمُسَيَّبِ الْمُطْلَقِ .
طَلِيقٌ بِرَأْيِ الْعَيْنِ وَهْوَ أَسِيرُ *** عَلِيلٌ
عَلَى قُطْبِ الْهَلَاكِ يَدُورُ
وَمَيِّتٌ يُرَى فِي صُورَةِ الْحَيِّ غَادِيَا ***
وَلَيْسَ لَهُ حَتَّى النُّشُورِ نُشُورُ
أَخُو غَمَرَاتٍ ضَاعَ فِيهِنَّ قَلْبُهُ *** فَلَيْسَ
لَهُ حَتَّى الْمَمَاتِ حُضُورُ
الرَّابِعُ :
أَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِهِ عَنْ مَصَالِحِ دِينِهِ
وَدُنْيَاهُ ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَضَيْعُ لِمَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِنْ
عِشْقِ الصُّوَرِ ، أَمَّا مَصَالِحُ الدِّينِ فَإِنَّهَا مَنُوطَةٌ بِلَمِّ
شَعَثِ الْقَلْبِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ ، وَعِشْقُ الصُّوَرِ أَعْظَمُ شَيْءٍ
تَشْعِيثًا وَتَشْتِيتًا لَهُ .
وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا فَهِيَ تَابِعَةٌ فِي
الْحَقِيقَةِ لِمَصَالِحِ الدِّينِ ، فَمَنِ انْفَرَطَتْ عَلَيْهِ مَصَالِحُ
دِينِهِ وَضَاعَتْ عَلَيْهِ ، فَمَصَالِحُ دُنْيَاهُ أَضْيَعُ وَأَضْيَعُ .
الْخَامِسُ : أَنَّ آفَاتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
أَسْرَعُ إِلَى عُشَّاقِ الصُّوَرِ مِنَ النَّارِ فِي يَابِسِ الْحَطَبِ ،
وَسَبَبُ ذَلِكَ : أَنَّ الْقَلْبَ كُلَّمَا قَرُبَ مِنَ الْعِشْقِ وَقَوِيَ
اتِّصَالُهُ بِهِ بَعُدَ مِنَ اللَّهِ ، فَأَبْعَدُ [ ص: 214 ] الْقُلُوبِ مِنَ اللَّهِ
قُلُوبُ عُشَّاقِ الصُّوَرِ ، وَإِذَا بَعُدَ الْقَلْبُ مِنَ اللَّهِ طَرَقَتْهُ
الْآفَاتُ ، وَتَوَلَّاهُ الشَّيْطَانُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ، وَاسْتَوْلَى
عَلَيْهِ لَمْ يَدَعْ أَذًى يُمْكِنُهُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ إِلَّا أَوْصَلَهُ ،
فَمَا الظَّنُّ بِقَلْبٍ تَمَكَّنَ مِنْهُ عَدُّوهُ وَأَحْرَصُ الْخَلْقِ عَلَى
غَيِّهِ وَفَسَادِهِ ، وَبَعُدَ مِنْهُ وَلِيُّهُ ، وَمَنْ لَا سَعَادَةَ لَهُ وَلَا
فَرَحَ وَلَا سُرُورَ إِلَّا بِقُرْبِهِ وَوِلَايَتِهِ ؟
السَّادِسُ :
أَنَّهُ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْقَلْبِ وَاسْتَحْكَمَ
وَقَوِيَ سُلْطَانُهُ ، أَفْسَدَ الذِّهْنَ ، وَأَحْدَثَ الْوَسْوَاسَ ،
وَرُبَّمَا أَلْحَقَ صَاحِبَهُ بِالْمَجَانِينِ الَّذِينَ فَسَدَتْ عُقُولُهُمْ
فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا .
وَأَخْبَارُ الْعُشَّاقِ فِي ذَلِكَ مَوْجُودَةٌ فِي
مَوَاضِعِهَا ، بَلْ بَعْضُهَا مَشَاهَدٌ بِالْعِيَانِ ، وَأَشْرَفُ مَا فِي
الْإِنْسَانِ عَقْلُهُ ، وَبِهِ يَتَمَيَّزُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ،
فَإِذَا عُدِمَ عَقْلَهُ الْتَحَقَ بِالْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ ، بَلْ رُبَّمَا
كَانَ حَالُ الْحَيَوَانِ أَصْلَحَ مِنْ حَالِهِ، وَهَلْ أَذْهَبَ عَقْلَ
مَجْنُونِ لَيْلَى وَأَضْرَابِهِ إِلَّا ذَلِكَ ؟ وَرُبَّمَا زَادَ جُنُونُهُ
عَلَى جُنُونِ غَيْرِهِ كَمَا قِيلَ
:
قَالُوا جُنِنْتَ بِمَنْ تَهْوَى فَقُلْتُ لَهُمْ ***
الْعِشْقُ أَعْظَمُ مِمَّا بِالْمَجَانِينِ
الْعِشْقُ لَا يَسْتَفِيقُ الدَّهْرَ صَاحِبُهُ ***
وَإِنَّمَا يُصْرَعُ الْمَجْنُونُ فِي الْحِينِ
السَّابِعُ :
أَنَّهُ رُبَّمَا أَفْسَدَ الْحَوَاسَّ أَوْ بَعْضَهَا ،
إِمَّا إِفْسَادًا مَعْنَوِيًّا أَوْ صُورِيًّا ، أَمَّا الْفَسَادُ الْمَعْنَوِيُّ
فَهُوَ تَابِعٌ لِفَسَادِ الْقَلْبِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا فَسَدَ فَسَدَتِ
الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ وَاللِّسَانُ ، فَيَرَى الْقَبِيحَ حَسَنًا مِنْهُ وَمِنْ
مَعْشُوقِهِ كَمَا فِي الْمُسْنَدِ مَرْفُوعًا : حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي
وَيُصِمُّ فَهُوَ يُعْمِي عَيْنَ الْقَلْبِ عَنْ رُؤْيَةِ مَسَاوِئِ الْمَحْبُوبِ
وَعُيُوبِهِ ، فَلَا تَرَى الْعَيْنُ ذَلِكَ ، وَيُصِمُّ أُذُنَهُ عَنِ
الْإِصْغَاءِ إِلَى الْعَدْلِ فِيهِ ، فَلَا تَسْمَعُ الْأُذُنُ ذَلِكَ ،
وَالرَّغَبَاتُ تَسْتُرُ الْعُيُوبَ ، فَالرَّاغِبُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى
عُيُوبَهُ ، حَتَّى إِذْ زَالَتْ رَغْبَتُهُ فِيهِ أَبْصَرَ عُيُوبَهُ ، فَشِدَّةُ
الرَّغْبَةِ غِشَاوَةٌ عَلَى الْعَيْنِ ، تَمْنَعُ مِنْ رُؤْيَةِ الشَّيْءِ عَلَى
مَا هُوَ بِهِ ، كَمَا قِيلَ :
هَوَيْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ***
فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفَسِي أَلُومُهَا
وَالدَّاخِلُ فِي الشَّيْءِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ ، وَالْخَارِجُ
مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ لَا يَرَى عُيُوبَهُ ، وَلَا يَرَى عُيُوبَهُ
إِلَّا مَنْ دَخَلَ فِيهِ ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ ، وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَةُ الَّذِينَ
دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ خَيْرًا مِنَ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي
الْإِسْلَامِ .
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِنَّمَا
تَنْتَقِضُ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً ، إِذَا وُلِدَ فِي الْإِسْلَامِ
مَنْ لَا يَعْرِفُ الْجَاهِلِيَّةَ
.
وَأَمَّا فَسَادُ الْحَوَاسِّ ظَاهِرًا ، فَإِنَّهُ يُمْرِضُ
الْبَدَنَ وَيُنْهِكُهُ ، وَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى تَلَفِهِ ، كَمَا هُوَ
الْمَعْرُوفُ فِي أَخْبَارِ مَنْقَتَلَهُمُ الْعِشْقُ .
[ ص:
215 ] وَقَدْ رُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ
بِعَرَفَةَ شَابٌّ قَدِ انْتَحَلَ حَتَّى عَادَ جِلْدًا عَلَى عَظْمٍ ، فَقَالَ :
مَا شَأْنُ هَذَا ؟ قَالُوا : بِهِ الْعِشْقُ ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ
يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعِشْقِ عَامَّةَ يَوْمِهِ .
الثَّامِنُ : أَنَّ الْعِشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ
الْإِفْرَاطُ فِي الْمَحَبَّةِ ، بِحَيْثُ يَسْتَوْلِي الْمَعْشُوقُ عَلَى قَلْبِ
الْعَاشِقِ ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ مِنْ تَخَيُّلِهِ وَذِكْرِهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ
، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْ خَاطِرِهِ وَذِهْنِهِ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَشْتَغِلُ
النَّفْسُ عَنِ اسْتِخْدَامِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ فَتَتَعَطَّلُ
تِلْكَ الْقُوَّةُ ، فَيَحْدُثُ بِتَعْطِيلِهَا مِنَ الْآفَاتِ عَلَى الْبَدَنِ
وَالرُّوحِ مَا يَعِزُّ دَوَاؤُهُ وَيَتَعَذَّرُ ، فَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ
وَصِفَاتُهُ وَمَقَاصِدُهُ ، وَيَخْتَلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ ، فَتَعْجِزُ الْبَشَرُ
عَنْ صَلَاحِهِ ، كَمَا قِيلَ :
الْحُبُّ أَوَّلُ مَا يَكُونُ لَجَاجَةٌ *** يَأْتِي
بِهَا وَتَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ
حَتَّى إِذَا خَاضَ الْفَتَى لُجَجَ الْهَوَى ***
جَاءَتْ أُمُورٌ لَا تُطَاقُ كِبَارُ
وَالْعِشْقُ مَبَادِيهِ سَهْلَةٌ حُلْوَةٌ ،
وَأَوْسَطُهُ هَمٌّ وَشُغْلُ قَلْبٍ وَسَقَمٌ ، وَآخِرُهُ عَطَبٌ وَقَتْلٌ ، إِنْ
لَمْ تَتَدَارَكْهُ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا قِيلَ :
وَعِشْ خَالِيًا فَالْحُبُّ أَوَّلُهُ عَنَا ***
وَأَوْسَطُهُ سَقَمٌ وَآخِرُهُ قَتْلُ
وَقَالَ آخَرُ :
تَوَلَّعَ بِالْعِشْقِ حَتَّى عَشِقْ *** فَلَمَّا
اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
رَأَى لُجَّةً ظَنَّهَا مَوْجَةً *** فَلَمَّا تَمَكَّنَ
مِنْهَا غَرِقْ
وَالذَّنْبُ لَهُ ، فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ ،
وَقَدْ قَعَدَ تَحْتَ الْمَثَلِ السَّائِرِ : " يَدَاكَ أَوْكَتَا ، وَفُوكَ
نَفَخَ " .
فَصْلٌ:
مَقَامَاتُ الْعَاشِقِوَالْعَاشِقُ لَهُ ثَلَاثُ
مَقَامَاتٍ : مَقَامُ ابْتِدَاءٍ ، وَمَقَامُ تَوَسُّطٍ ، وَمَقَامُ انْتِهَاءٍ .
فَأَمَّا مَقَامُ ابْتِدَائِهِ : قَالُوا : يَجِبُ
عَلَيْهِ مُدَافَعَتُهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، إِذَا كَانَ الْوُصُولُ
إِلَى مَعْشُوقِهِ مُتَعَذِّرًا قَدَرًا وَشَرْعًا ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ
وَأَبَى قَلْبُهُ إِلَّا السَّفَرَ إِلَى مَحْبُوبِهِ - وَهَذَا مَقَامُ التَّوَسُّطِ
وَالِانْتِهَاءِ - فَعَلَيْهِ كِتْمَانُهُ ذَلِكَ ، وَأَنْ لَا يُفْشِيَهُ إِلَى
الْخَلْقِ ، وَلَا يَشْمَتَ بِمَحْبُوبِهِ وَيَهْتِكُهُ بَيْنَ النَّاسِ ،
فَيَجْمَعُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي هَذَا الْبَابِ
مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ [ ص: 216
] الظُّلْمِ ، وَرُبَّمَا كَانَ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَى
الْمَعْشُوقِ وَأَهْلِهِ مِنْ ظُلْمِهِ فِي مَالِهِ ، فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ
الْمَعْشُوقَ بِهَتْكِهِ فِي عِشْقِهِ إِلَى وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ ،
وَانْقِسَامِهِمْ إِلَى مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَصَدَّقُ
فِي هَذَا الْبَابِ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ ، وَإِذَا قِيلَفُلَانٌ فَعَلَ بِفُلَانٍ
أَوْ بِفُلَانَةَ ، كَذَّبَهُ وَاحِدٌ وَصَدَّقَهُ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ .
وَخَبَرُ الْعَاشِقِ الْمُتَهَتِّكِ عِنْدَ النَّاسِ فِي
هَذَا الْبَابِ يُفِيدُ الْقَطْعَ الْيَقِينِيَّ ، بَلْ إِذَا أَخْبَرَهُمُ الْمَفْعُولُ
بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى غَيْرِهِ جَزَمُوا بِصِدْقِهِ
جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ ، بَلْ لَوْ جَمَعَهُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ
اتِّفَاقًا ؛ لَجَزَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عَنْ وَعْدٍ وَاتِّفَاقٍ بَيْنَهُمَا ،
وَجَزْمُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الظُّنُونِ وَالتَّخَيُّلِ وَالشُّبَهِ وَالْأَوْهَامِ
وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ ، كَجَزْمِهِمْ بِالْحِسِّيَّاتِ الْمُشَاهَدَةِ ،
وَبِذَلِكَ وَقَعَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي الطَّيِّبَةِ الْمُطَيَّبَةِ ، حَبِيبَةِ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، الْمُبَرَّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ
سَمَاوَاتٍ ، بِشُبْهَةِ مَجِيءِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ بِهَا وَحْدَهُ
خَلْفَ الْعَسْكَرِ حَتَّى هَلَكَ مَنْ هَلَكَ ، وَلَوْلَا أَنْ تَوَلَّى اللَّهُ
سُبْحَانَهُ بَرَاءَتَهَا ، وَالذَّبَّ عَنْهَا ، وَتَكْذِيبَ قَاذِفِهَا ،
لَكَانَ أَمْرًا آخَرَ .
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْمُبْتَلَى
عِشْقَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاتِّصَالُ بِهِ مِنْ ظُلْمِهِ وَأَذَاهُ مَا هُوَ
عُدْوَانٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ ، وَتَعَرُّضٌ لِتَصْدِيقِ كَثِيرٍ مِنَ
النَّاسِ ظُنُونَهُمْ فِيهِ ، فَإِنِ اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِمَنْ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ
، إِمَّا بِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ ، تَعَدَّى الظُّلْمُ وَانْتَشَرَ ، وَصَارَ
ذَلِكَ الْوَاسِطَةُ دَيُّوثًا ظَالِمًا ، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ لَعَنَ الرَّائِشَ - وَهُوَ الْوَاسِطَةُ
بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي إِيصَالِ الرِّشْوَةِ - فَمَا ظَنُّكَ
بِالدَّيُّوثِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ فِي الْوَصْلِ ،
فَيَتَسَاعَدُ الْعَاشِقُ وَالدَّيُّوثُ عَلَى ظُلْمِ الْمَعْشُوقِ وَظُلْمِ
غَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ غَرَضِهِ عَلَى ظُلْمِهِ فِي نَفْسٍ أَوْ
مَالٍ أَوْ عِرْضٍ ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَتَوَقَّفُ الْمَطْلُوبُ فِيهِ عَلَى قَتْلِ
نَفْسٍ يَكُونُ حَيَاتُهَا مَانِعَةً مِنْ غَرَضِهِ ، وَكَمْ قَتِيلٍ طُلَّ دَمُهُ
بِهَذَا السَّبَبِ ، مِنْ زَوْجٍ وَسَيِّدٍ وَقَرِيبٍ ، وَكَمْ خُبِّبَتِ
امْرَأَةٌ عَلَى بَعْلِهَا ، وَجَارِيَةٍ وَعَبْدٍ عَلَى سَيِّدِهِمَا ، وَقَدْ
لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ
وَتَبَرَّأَ مِنْهُ ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ .
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ ، وَأَنْ
يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْعَى فِي التَّفْرِيقِ
بَيْنَ رَجُلٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِمَا ؟
وَعُشَّاقُ الصُّوَرِ وَمُسَاعِدُوهُمْ مِنَ الدَّيَايِثَةِ
لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا ، فَإِنْ طَلَبَ الْعَاشِقُ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ
وَمُشَارَكَةَ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمِ ظُلْمِ
الْغَيْرِ مَا لَعَلَّهُ لَا يَقْصُرُ عَنْ إِثْمِ الْفَاحِشَةِ ، وَإِنْ لَمْ
يُرَبَّ عَلَيْهَا ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْغَيْرِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ
الْفَاحِشَةِ ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ أَسْقَطَتْ حَقَّ اللَّهِ فَحَقُّ
الْعَبْدِ بَاقٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَإِنَّ مِنْ
ظُلْمِ الْوَالِدِ إِفْسَادَ وَلَدِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ ، وَمَنْ هُوَ أَعَزُّ
عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ ، فَظُلْمُ الزَّوْجِ بِإِفْسَادِ حَبِيبَتِهِ
وَالْجِنَايَةِ عَلَى فِرَاشِهِ - أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِهِ بِأَخْذِ مَالِهِ
كُلِّهِ ، وَلِهَذَا يُؤْذِيهِ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أَخْذُ مَالِهِ ،
وَلَا يَعْدِلُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِلَّا سَفْكُ دَمِهِ ، فَيَا لَهُ مِنْ ظُلْمٍ
أَعْظَمَ إِثْمًا مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لِغَازٍ
[ ص: 217 ] فِي سَبِيلِ اللَّهِ وُقِفَ لَهُ الْجَانِي الْفَاعِلُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ، وَقِيلَ لَهُ : خُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ ، كَمَا أَخْبَرَ
بِذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : فَمَا ظَنُّكُمْ ؟ أَيْ : فَمَا تَظُنُّونَ يَبْقَى لَهُ مِنْ
حَسَنَاتِهِ ؟ فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَأَنْ يَكُونَ الْمَظْلُومُ جَارًا ،
أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ ، تَعَدَّدَ الظُّلْمُ فَصَارَ ظُلْمًا مُؤَكَّدًا
لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَإِيذَاءِ الْجَارِ ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ
رَحِمٍ ، وَلَا مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ .
فَإِنِ اسْتَعَانَ الْعَاشِقُ عَلَى وِصَالِ مَعْشُوقِهِ
بِشَيَاطِينِ الْجِنِّ - إِمَّا بِسِحْرٍ أَوِ اسْتِخْدَامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ -
ضُمَّ إِلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ كُفْرُ السِّحْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ
هُوَ وَرَضِيَ بِهِ ، كَانَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ غَيْرَ كَارِهٍ لِحُصُولِ
مَقْصِدِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنَ الْكُفْرِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّعَاوُنَ فِي هَذَا الْبَابِ ،
تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .
وَأَمَّا مَا يَقْتَرِنُ بِحُصُولِ غَرَضِ الْعَاشِقِ
مِنَ الظُّلْمِ الْمُنْتَشِرِ الْمُتَعَدِّي ضَرَرُهُ فَأَمْرٌ لَا يَخْفَى ،
فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ مِنَ الْمَعْشُوقِ ، فَلِلْمَعْشُوقِ
أَغْرَاضٌ أُخَرُ يُرِيدُ مِنَ الْعَاشِقِ إِعَانَتَهُ عَلَيْهَا ، فَلَا يَجِدُ
مِنْ إِعَانَتِهِ بُدًّا ، فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى الظُّلْمِ
وَالْعُدْوَانِ ، فَالْمَعْشُوقُ يُعِينُ الْعَاشِقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَتَّصِلُ
بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَسَيِّدِهِ وَزَوْجِهِ ، وَالْعَاشِقُ يُعِينُ
الْمَعْشُوقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَكُونُ غَرَضُ الْمَعْشُوقِ مُتَوَقِّفًا عَلَى
ظُلْمِهِ ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى أَغْرَاضِهِ الَّتِي فِيهَا
ظُلْمُ النَّاسِ ، فَيَحْصُلُ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِهِمَا
فِي الْقُبْحِ لِتَعَاوُنِهِمَا بِذَلِكَ عَلَى الظُّلْمِ ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ
بَيْنَ الْعُشَّاقِ وَالْمَعْشُوقِينَ ، مِنْ إِعَانَةِ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ
عَلَى مَا فِيهِ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ وَبَغْيٌ ، حَتَّى رُبَّمَا يَسْعَى لَهُ فِي
مَنْصِبٍ لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِمَثَلِهِ ، وَفِي تَحْصِيلِ مَالٍ
مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ، وَفِي اسْتِطَالَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا اخْتَصَمَ
مَعْشُوقُهُ وَغَيْرُهُ أَوْ تَشَاكَيَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي جَانِبِ
الْمَعْشُوقِ ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا ، هَذَا إِلَى مَا يَنْضَمُّ إِلَى
ذَاكَ مِنْ ظُلْمِ الْعَاشِقِ لِلنَّاسِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى أَخْذِ
أَمْوَالِهِمْ ، وَالتَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى مَعْشُوقِهِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ
أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ يَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَرُبَّمَا
أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ، لِيَأْخُذَ
مَالَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْشُوقِهِ .
فَكُلُّ هَذِهِ الْآفَاتِ وَأَضْعَافُهَا وَأَضْعَافُ
أَضْعَافِهَا تَنْشَأُ مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ ، وَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْكُفْرِ
الصَّرِيحِ ، وَقَدْ تَنَصَّرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ نَشَئُوا فِي الْإِسْلَامِ
بِسَبَبِ الْعِشْقِ ، كَمَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُؤَذِّنِينَ حِينَ أَبْصَرَ امْرَأَةً
جَمِيلَةً عَلَى سَطْحٍ ، فَفُتِنَ بِهَا ، وَنَزَلَ ، وَدَخَلَ عَلَيْهَا ،
وَسَأَلَهَا نَفْسَهَا ، فَقَالَتْ : هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ ، فَإِنْ دَخَلْتَ فِي
دِينِي تَزَوَّجْتُ بِكَ ، فَفَعَلَ ، فَرَقِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى
دَرَجَةٍ عِنْدَهُمْ فَسَقَطَ مِنْهَا فَمَاتَ ، ذَكَرَ هَذَا عَبْدُ الْحَقِّ فِي
كِتَابِ الْعَاقِبَةِ لَهُ .
وَإِذَا أَرَادَ النَّصَارَى أَنْ يُنَصِّرُوا
الْأَسِيرَ ، أَرَوْهُ امْرَأَةً جَمِيلَةً وَأَمَرُوهَا أَنْ تُطْمِعَهُ فِي
نَفْسِهَا [ ص: 218 ] حَتَّى إِذَا تَمَكَّنَ حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ ، بَذَلَتْ
لَهُ نَفْسَهَا إِنْ دَخَلَ فِي دِينِهَا ، فَهُنَالِكَ : يُثَبِّتُ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ : 27 ] .
وَفِي الْعِشْقِ مِنْ ظُلْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَاشِقِ
وَالْمَعْشُوقِ لِصَاحِبِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ ، وَظُلْمِهِ
لِنَفْسِهِ مَا فِيهِ ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَصَاحِبِهِ ،
وَظُلْمُهُمَا مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ ، وَأَعْظَمُ مِنْ
ذَلِكَ ظُلْمُهُمَا بِالشِّرْكِ ، فَقَدْ تَضَمَّنَ الْعِشْقُ أَنْوَاعَ الظُّلْمِ
كُلَّهَا .
وَالْمَعْشُوقُ إِذَا لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ
يُعَرِّضُ الْعَاشِقَ لِلتَّلَفِ ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُ ، بِأَنْ يُطْمِعَهُ
فِي نَفْسِهِ وَيَتَزَيَّنَ لَهُوَيَسْتَمِيلَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى
يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ مَالَهُ وَنَفْعَهُ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ ،
لِئَلَّا يَزُولَ غَرَضُهُ بِقَضَاءِ وَطَرِهِ مِنْهُ ، فَهُوَ يَسُومُهُ سُوءَ
الْعَذَابِ ، وَالْعَاشِقُ رُبَّمَا قَتَلَ مَعْشُوقَهُ لِيَشْفِيَ نَفْسَهُ
مِنْهُ ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَادَ بِالْوِصَالِ لِغَيْرِهِ ، فَكَمْ لِلْعِشْقِ
مِنْ قَتِيلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ ، وَكَمْ أَزَالَ مِنْ نِعْمَةٍ ، وَأَفْقَرَ
مِنْ غِنًى ، وَأَسْقَطَ مِنْ مَرْتَبَةٍ ، وَشَتَّتَ مِنْ شَمْلٍ ، وَكَمْ
أَفْسَدَ مِنْ أَهْلٍ لِلرَّجُلِ وَوَلَدِهِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ
بَعْلَهَا عَاشِقًا لِغَيْرِهَا اتَّخَذَتْ هِيَ مَعْشُوقًا لِنَفْسِهَا ،
فَيَصِيرُ الرَّجُلُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ خَرَابِ بَيْتِهِ بِالطَّلَاقِ وَبَيْنَ
الْقِيَادَةِ ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ
هَذَا .
فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُحَكِّمَ عَلَى نَفْسِهِ
عِشْقَ الصُّوَرِ ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَوْ
أَكْثَرِهَا أَوْ بَعْضِهَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ
بِنَفَسِهِ الْمُغَرِّرُ بِهَا ، فَإِذَا هَلَكَتْ فَهُوَ الَّذِي أَهْلَكَهَا ، فَلَوْلَا
تَكْرَارُهُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ مَعْشُوقِهِ وَطَمَعُهُ فِي وِصَالِهِ لَمْ
يَتَمَكَّنْ عِشْقُهُ مِنْ قَلْبِهِ ، فَإِنَّ أَوَّلَ أَسْبَابِ الْعِشْقِ
الِاسْتِحْسَانُ سَوَاءٌ تَوَلَّدَ عَنْ نَظَرٍ أَوْ سَمَاعٍ ، فَإِنْ لَمْ
يُقَارِنْهُ طَمَعٌ فِي الْوِصَالِ وَقَارَنَهُ الْإِيَاسُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ
يَحْدُثْ لَهُ الْعِشْقُ ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الطَّمَعُ فَصَرَفَهُ عَنْ
فِكْرِهِ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِهِ ؛ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ
أَطَالَ مَعَ ذَلِكَ الْفِكْرَ فِي مَحَاسِنِ الْمَعْشُوقِ وَقَارَنَهُ خَوْفُ مَا
هُوَ أَكْبَرُ عِنْدَهُ مِنْ لَذَّةِ وِصَالِهِ ، إِمَّا خَوْفٌ دِينِيٌّ
كَدُخُولِ النَّارِ ، وَغَضَبِ الْجَبَّارِ ، وَاحْتِقَابِ الْأَوْزَارِ ،
وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى ذَلِكَ الطَّمَعِ وَالْفِكْرِ ؛ لَمْ يَحْدُثْ
لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ ، فَإِنْ فَاتَهُ هَذَا الْخَوْفُ فَقَارَنَهُ خَوْفٌ دُنْيَوِيٌّ
كَخَوْفِ إِتْلَافِ نَفْسِهِ ، أَوْ مَالِهِ ، أَوْ ذَهَابِ جَاهِهِ وَسُقُوطِ
مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ ،
وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ لِدَاعِي الْعِشْقِ دَفَعَهُ ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَافَ
مِنْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَأَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ
الْمَعْشُوقِ ، وَقَدَّمَ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ ؛
انْدَفَعَ عَنْهُ الْعِشْقُ ، فَإِنِ انْتَفَى ذَلِكَ كُلُّهُ ، وَغَلَبَتْ
مَحَبَّةُ الْمَعْشُوقِ لِذَلِكَ ، انْجَذَبَ إِلَيْهِ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ
، وَمَالَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ كُلَّ الْمَيْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ ذَكَرْتُمْ آفَاتِ الْعِشْقِ
وَمَضَارَّهُ وَمَفَاسِدَهُ ، فَهَلَّا ذَكَرْتُمْ مَنَافِعَهُ وَفَوَائِدَهُ
الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا : رِقَّةُ الطَّبْعِ ، وَتَرْوِيحُ النَّفْسِ
وَخِفَّتُهَا ، وَزَوَالُ ثِقَلِهَا وَرِيَاضَتُهَا ، وَحَمْلُهَا عَلَى مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ ، مِنَ الشَّجَاعَةِ ، وَالْكَرَمِ ، وَالْمُرُوءَةِ ، وَرِقَّةِ
الْحَاشِيَةِ ، وَلُطْفِ الْجَانِبِ
.
[ ص: 219 ] وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ
: إِنَّ ابْنَكَ قَدْ عَشِقَ فُلَانَةً ، فَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
صَيَّرَهُ إِلَى طَبْعِ الْآدَمِيِّ
.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الْعِشْقُ دَوَاءُ أَفْئِدَةِ
الْكِرَامِ .
وَقَالَ غَيْرُهُ : الْعِشْقُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِذِي
مُرُوءَةٍ ظَاهِرَةٍ ، وَخَلِيقَةٍ طَاهِرَةٍ ، أَوْ لِذِي لِسَانٍ فَاضِلٍ ،
وَإِحْسَانٍ كَامِلٍ ، أَوْ لِذِي أَدَبٍ بَارِعٍ ، وَحَسَبٍ نَاصِعٍ .
وَقَالَ آخَرُ : الْعِشْقُ يُشَجِّعُ جَنَانَ
الْجَبَانِ ، وَيُصَفِّي ذِهْنَ الْغَبِيِّ ، وَيُسَخِّي كَفَّ الْبَخِيلِ ،
وَيُذِلُّ عِزَّةَ الْمُلُوكِ ، وَيُسَكِّنُ نَوَافِرَ الْأَخْلَاقِ ، وَهُوَ
أَنِيسُ مَنْ لَا أَنِيسَ لَهُ ، وَجَلِيسُ مَنْ لَا جَلِيسَ لَهُ .
وَقَالَ آخَرُ : الْعِشْقُ يُزِيلُ الْأَثْقَالَ ،
وَيُلَطِّفُ الرُّوحَ ، وَيُصَفِّي كَدَرَ الْقَلْبِ ، وَيُوجِبُ الِارْتِيَاحَ
لِأَفْعَالِ الْكِرَامِ ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
سَيَهْلِكُ فِي الدُّنْيَا شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ *** إِذَا
غَالَهُ مِنْ حَادِثِ الْحُبِّ غَائِلُهُ
كَرِيمٌ يُمِيتُ السِّرَّ حَتَّى كَأَنَّهُ *** إِذَا
اسْتَفْهَمُوهُ عَنْ حَدِيثِكَ جَاهِلُهُ
يَوَدُّ بِأَنْ يُمْسِيَ سَقِيمًا لَعَلَّهَا *** إِذَا
سَمِعَتْ عَنْهُ بِشَكْوَى تُرَاسِلُهُ
وَيَهْتَزُّ لِلْمَعْرُوفِ فِي طَلَبِ الْعُلَا ***
لِتُحْمَدَ يَوْمًا عِنْدَ لَيْلَى شَمَائِلُهُ
فَالْعِشْقُ يَحْمِلُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ : الْعِشْقُ يُرَوِّضُ
النَّفْسَ ، وَيُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ ، وَإِظْهَارُهُ طَبِيعِيٌّ ، وَإِضْمَارُهُ
تَكْلِيفِيٌّ .
وَقَالَ الْآخَرُ : مَنْ لَمْ يُهَيِّجْ نَفْسَهُ
بِالصَّوْتِ الشَّجِيِّ ، وَالْوَجْهِ الْبَهِيِّ ، فَهُوَ فَاسِدُ الْمِزَاجِ ،
يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ :
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى
*** فَمَا لَكَ فِي طِيبِ الْحَيَاةِ نَصِيبُ
وَقَالَ آخَرُ :
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى
*** فَأَنْتَ وَعِيرٌ فِي الْفَلَاةِ سَوَاءُ
وَقَالَ آخَرُ :
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى
*** فَقُمْ فَاعْتَلِفْ تِبْنًا فَأَنْتَ حِمَارُ
[ ص: 220 ] وَقَالَ بَعْضُ الْعُشَّاقِ أُولُو
الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ : عِفُّوا تَشْرُفُوا ، وَاعْشَقُوا تَظْفَرُوا .
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعُشَّاقِ : مَا كُنْتَ تَصْنَعُ
لَوْ ظَفِرْتَ بِمَنْ تَهْوَى ؟ فَقَالَ : كُنْتُ أُمَتِّعُ طَرْفِي بِوَجْهِهِ ،
وَأُرَوِّحُ قَلْبِي بِذِكْرِهِ وَحَدِيثِهِ ، وَأَسْتُرُ مِنْهُ مَا لَا يُحِبُّ
كَشْفَهُ ، وَلَا أَصِيرُ بِقَبِيحِ الْفِعْلِ إِلَى مَا يَنْقُضُ عَهْدَهُ ،
ثُمَّ أَنْشَدَ :
أَخْلُو بِهِ فَأَعِفُّ عَنْهُ تَكَرُّمًا *** خَوْفَ
الدِّيَانَةِ لَسْتُ مِنْ عُشَّاقِهِ
كَالْمَاءِ فِي يَدِ صَائِمٍ يَلْتَذُّهُ *** ظَمَأً
فَيَصْبِرُ عَنْ لَذِيذِ مَذَاقِهِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ : أَرْوَاحُ
الْعُشَّاقِ عَطِرَةٌ لَطِيفَةٌ ، وَأَبْدَانُهُمْ رَقِيقَةٌ خَفِيفَةٌ ،
نُزْهَتُهُمُ الْمُؤَانَسَةُ ، وَكَلَامُهُمْ يُحْيِي مَوَاتَ الْقُلُوبِ ،
وَيَزِيدُ فِي الْعُقُولِ ، وَلَوْلَا الْعِشْقُ وَالْهَوَى لَبَطَلَ نَعِيمُ الدُّنْيَا .
وَقَالَ آخَرُ : الْعِشْقُ لِلْأَرْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ
لِلْأَبْدَانِ ، إِنْ تَرَكْتَهُ ضَرَّكَ ، وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهُ قَتَلَكَ ،
وَفِي ذَلِكَ قِيلَ :
خَلِيلَيَّ إِنَّ الْحُبَّ فِيهِ لَذَاذَةٌ *** وَفِيهِ
شَقَاءٌ دَائِمٌ وَكُرُوبُ
عَلَى ذَاكَ مَا عَيْشٌ يَطِيبُ بِغَيْرِهِ *** وَلَا
عَيْشَ إِلَّا بِالْحَبِيبِ يَطِيبُ
وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ صَبَابَةٍ ***
وَلَا فِي نَعِيمٍ لَيْسَ فِيهِ حَبِيبُ
وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ قَالَ :
مَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِجَارِيَةٍ وَهِيَ
تَقُولُ
وَهَوَيْتُهُ مِنْ قَبْلِ قَطْعِ تَمَائِمِي ***
مُتَمَايِلًا مِثْلَ الْقَضِيبِ النَّاعِمِ
سَأَلَهَا :
أَحُرَّةٌ أَنْتِ أَمْ مَمْلُوكَةٌ ؟ قَالَتْ : بَلْ
مَمْلُوكَةٌ ، فَقَالَ : مَنْ هَوَاكِ ؟ فَتَلَكَّأَتْ ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ :
وَأَنَا الَّتِي لَعِبَ الْهَوَى بِفُؤَادِهَا ***
قُتِلَتْ بِحُبِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ
فَاشْتَرَاهَا مِنْ مَوْلَاهَا ، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى
مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ : هَؤُلَاءِ
وَاللَّهِ فَتَنَّ الرِّجَالَ ، وَكَمْ وَاللَّهِ مَاتَ بِهِنَّ كَرِيمٌ ،
وَعَطِبَ بِهِنَّ سَلِيمٌ .
وَجَاءَتْ جَارِيَةٌ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَسْتَعْدِي عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ لَهَا
عُثْمَانُ : مَا قِصَّتُكِ ؟ فَقَالَتْ : كَلِفْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ
بِابْنِ أَخِيهِ ، فَمَا أَنْفَكُّ أُرَاعِيهِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : إِمَّا أَنْ
تَهَبَهَا إِلَى ابْنِ أَخِيكَ ، أَوْ أُعْطِيَكَ ثَمَنَهَا مِنْ مَالِي ، فَقَالَ
: أُشْهِدُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا لَهُ .
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ فَسَادَ الْعِشْقِ الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ
فِعْلُ الْفَاحِشَةِ بِالْمَعْشُوقِ ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي [ ص: 221 ]
الْعِشْقِ الْعَفِيفِ مِنَ الرَّجُلِ الظَّرِيفِ ، الَّذِي يَأْبَى لَهُ دِينُهُ
وَعِفَّتُهُ وَمُرُوءَتُهُ أَنْ يُفْسِدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ، وَمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْشُوقِهِ بِالْحَرَامِ ، وَهَذَا عِشْقُ السَّلَفِ
الْكِرَامِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ ، فَهَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ ، عَشِقَ
حَتَّى اشْتُهِرَ أَمْرُهُ ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ ، وَعَدَّ ظَالِمًا مَنْ لَامَهُ
، وَمِنْ شِعْرِهِ :
كَتَمْتَ الْهَوَى حَتَّى أَضَرَّ بِكَ الْكَتْمُ ***
وَلَامَكَ أَقْوَامٌ وَلَوْمُهُمْ ظُلْمُ
فَنَمَّ عَلَيْكَ الْكَاشِحُونَ ، وَقَبْلَهُمْ ***
عَلَيْكَ الْهَوَى قَدْ نَمَّ لَوْ يَنْفَعُ الْكَتْمُ
فَأَصْبَحْتَ كَالْهِنْدِيِّ إِذْ مَاتَ حَسْرَةً ***
عَلَى إِثْرِ هِنْدٍ أَوْ كَمَنْ شَفَّهُ سُقْمُ
تَجَنَّبْتَ إِتْيَانَ الْحَبِيبِ تَأَثُّمًا *** أَلَا
إِنَّ هُجْرَانَ الْحَبِيبِ هُوَ الْإِثْمُ
فَذُقْ هَجْرَهَا قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ ***
رَشَادٌ أَلَا يَا رُبَّمَا كَذَبَ الزَّعْمُ
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِشْقُهُ
مَشْهُورٌ لِجَارِيَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ ، وَكَانَتْ جَارِيَةً
بَارِعَةَ الْجَمَالِ ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا ، وَكَانَ يَطْلُبُهَا مِنِ امْرَأَتِهِ
، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ تَهَبَهَا لَهُ ، فَتَأْبَى ، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ
فِي نَفْسِ عُمَرَ ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ ، أَمَرَتْ فَاطِمَةُ بِالْجَارِيَةِ
فَأُصْلِحَتْ ، وَكَانَتْ مَثَلًا فِي حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا ، ثُمَّ دَخَلَتْ
عَلَى عُمَرَ ، وَقَالَتْ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنَّكَ كُنْتَ
مُعْجَبًا بِجَارِيَتِي فُلَانَةَ ، وَسَأَلْتَهَا ، فَأَبَيْتُ عَلَيْكَ ، وَالْآنَ
قَدْ طَابَتْ نَفْسِي لَكَ بِهَا ، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ ؛ اسْتَبَانَ
الْفَرَحُ فِي وَجْهِهِ ، وَقَالَ عَجِّلِي عَلَيَّ بِهَا ، فَلَمَّا دَخَلَتْ
بِهَا عَلَيْهِ ، ازْدَادَ بِهَا عَجَبًا ، وَقَالَ لَهَا : أَلْقِي ثِيَابَكِ ، فَفَعَلَتْ
، ثُمَّ قَالَ لَهَا : عَلَى رِسْلِكِ ، أَخْبِرِينِي لِمَنْ كُنْتِ ؟ وَمِنْ
أَيْنَ صِرْتِ لِفَاطِمَةَ ؟ فَقَالَتْ : أَغْرَمَ الْحَجَّاجُ عَامِلًا لَهُ
بِالْكُوفَةِ مَالًا ، وَكُنْتُ فِي رَقِيقِ ذَلِكَ الْعَامِلِ ، قَالَتْ :
فَأَخَذَنِي وَبَعَثَ بِي إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ ، فَوَهَبَنِي لِفَاطِمَةَ ،
قَالَ : وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْعَامِلُ ؟ قَالَتْ : هَلَكَ ، قَالَ : وَهَلْ
تَرَكَ وَلَدًا ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، قَالَ : فَمَا حَالُهُمْ ؟ قَالَتْ : سَيِّئَةٌ ،
فَقَالَ : شُدِّي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ ، وَاذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى
عَامِلِهِ عَلَى الْعِرَاقِ : أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ عَلَى
الْبَرِيدِ ، فَلَمَّا قَدِمَ ، قَالَ لَهُ : ارْفَعْ إِلَيَّ جَمِيعَ مَا
أَغْرَمَهُ الْحَجَّاجُ لِأَبِيكَ ، فَلَمْ يَرْفَعْ إِلَيْهِ شَيْئًا إِلَّا
دَفَعَهُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْجَارِيَةِ فَدُفِعَتْ إِلَيْهِ ، ثُمَّ
قَالَ لَهُ : إِيَّاكَ وَإِيَّاهَا ، فَلَعَلَّ أَبَاكَ قَدْ أَلَمَّ بِهَا ،
فَقَالَ الْغُلَامُ : هِيَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ : لَا حَاجَةَ
لِي بِهَا ، قَالَ : فَابْتَعْهَا مِنِّي ، قَالَ : لَسْتُ إِذًا مِمَّنْ نَهَى
النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى ، فَلَمَّا عَزَمَ الْفَتَى عَلَى الِانْصِرَافِ بِهَا ،
قَالَتْ : أَيْنَ وَجْدُكَ بِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : عَلَى حَالِهِ
، وَلَقَدْ زَادَ ، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ ، حَتَّى مَاتَ
رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَهَذَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ
الظَّاهِرِيُّ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ : مِنَ الْفِقْهِ
، وَالْحَدِيثِ ، وَالتَّفْسِيرِ ، وَالْأَدَبِ ، وَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْفِقْهِ ،
وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ ، وَعَشِقُهُ مَشْهُورٌ .
قَالَ نِفْطَوَيْهِ : دَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي
مَاتَ فِيهِ ، فَقُلْتُ : كَيْفَ تَجِدُكَ ؟ فَقَالَ : حُبُّ مَنْ تَعْلَمُ
أَوْرَثَنِي مَا تَرَى ، فَقُلْتُ : وَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ
مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ : [ ص: 222 ] الِاسْتِمْتَاعُ عَلَى وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : النَّظَرُ الْمُبَاحُ ، وَالْآخَرُ : اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ ،
فَأَمَّا النَّظَرُ الْمُبَاحُ فَهُوَ الَّذِي أَوْرَثَنِي مَا تَرَى ، وَأَمَّا
اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ فَيَمْنَعُنِي مِنْهَا مَا حَدَّثَنِي أَبِي ،
حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى
الْقَتَّابِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -
يَرْفَعُهُ : " مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفَّ وَصَبَرَ ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ
وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ "
.
ثُمَّ أَنْشَدَ :
انْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي مِنْ لَوَاحِظِهِ ***
وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي
وَانْظُرْ إِلَى شَعَرَاتٍ فَوْقَ عَارِضِهِ *** كَأَنَّهُنَّ
نِمَالٌ دَبَّ فِي عَاجِ
ثُمَّ أَنْشَدَ :
مَا لَهُمْ أَنْكَرُوا سَوَادًا بِخَدَّيْهِ *** وَلَا
يُنْكِرُونَ وَرْدَ الْغُصُونِ ؟
إِنْ يَكُنْ عَيْبُ خَدِّهِ بَرْدُ الشَّعْرِ ***
فَعَيْبُ الْعُيُونِ شَعْرُ الْجُفُونِ
فَقُلْتُ لَهُ : نَفَيْتَ الْقِيَاسَ فِي الْفِقْهِ ،
وَأَثْبَتَّهُ فِي الشَّرِّ ؟ فَقَالَ : غَلَبَةُ الْوَجْدِ وَمَلَكَةُ النَّفْسِ
دَعَتْ إِلَيْهِ ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ ، وَبِسَبَبِ مَعْشُوقِهِ صَنَّفَ
كِتَابَ الزَّهْرَةِ .
وَمِنْ كَلَامِهِ فِيهِ : " مَنْ يَئِسَ مِمَّنْ يَهْوَاهُ
، وَلَمْ يَمُتْ مِنْ وَقْتِهِ سَلَاهُ ، وَذَلِكَ أَوَّلُ رَوْعَاتِ الْيَأْسِ
تَأْتِي الْقَلْبَ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لَهَا ، فَأَمَّا الثَّانِيَةُ
فَتَأْتِي الْقَلْبَ وَقَدْ وَطَّأَتْهُ لَهَا الرَّوْعَةُ الْأُولَى " .
وَالْتَقَى هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي
مَجْلِسِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ ، فَتَنَاظَرَا فِي
مَسْأَلَةٍ مِنَ الْإِيلَاءِ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ : أَنْتَ بِأَنْ
تَقُولَ : مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ ؛ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ ، أَحَذَقُ مِنْكَ
بِالْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ ، فَقَالَ : لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ :
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتَيَّ ***
وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقَلِ الْهَوَى مَا لَوْ أَنَّهُ ***
يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الْأَصَمِّ تَهَدَّمَا
وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجَمِ خَاطِرِي ***
فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا
رَأَيْتُ الْهَوَى دَعْوَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمُ ***
فَلَسْتُ أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمًا
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ : بِمَ
تَفْخَرُ عَلَيَّ ؟ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ :
وَمَطَاعِمُهُ كَالشَّهْدِ فِي نَغَمَاتِهِ *** قَدْ
بِتَّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ
بِصَبَابَةٍ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ *** وَأُنَزِّهُ
اللَّحَظَاتِ عَنْ وَجَنَاتِهِ
حَتَّى إِذَا مَا الصُّبْحُ رَاحَ عَمُودُهُ *** وَلَّى
بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَحْفَظُ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ
مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدًا عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ
وَبَرَاءَتِهِ ، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ : يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُكَ
فِي قَوْلِكَ :
[ ص: 223
]
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي ***
وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
فَضَحِكَ الْوَزِيرُ ، وَقَالَ : لَقَدْ جَمَعْتُمَا
لُطْفًا وَظُرْفًا ، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ .
وَجَاءَتْهُ يَوْمًا فُتْيَا مَضْمُونُهَا :
يَا ابْنَ دَاوُدَ يَا فَقِيهَ الْعِرَاقِ *** أَفْتِنَا
فِي قَوَاتِلِ الْأَحْدَاقِ
هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحِ *** أَمْ
حَلَالٌ لَهَا دَمُ الْعُشَّاقِ
فَكَتَبَ بِخَطِّهِ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ :
عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ الْعُشَّاقِ *** فَاسْمَعْهُ
مِنْ قَرِحِ الْحَشَا مُشْتَاقِ
لَمَّا سَأَلْتَ عَنِ الْهَوَى هَيَّجْتَنِي ***
وَأَرَقْتَ دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ
إِنْ كَانَ مَعْشُوقًا يُعَذِّبُ عَاشِقًا *** كَانَ
الْمُعَذَّبُ أَنْعَمَ الْعُشَّاقِ
قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " مَنَازِلِ الْأَحْبَابِ
" ، شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ صَاحِبُ
كِتَابِ الْإِنْشَاءِ : وَقُلْتُ فِي جَوَابِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى قَافِيَتِهِمَا
مُجِيبًا لِلسَّائِلِ :
قُلْ لِمَنْ جَاءَ سَائِلًا عَنْ لِحَاظٍ *** هُنَّ
يَلْعَبْنَ فِي دَمِ الْعُشَّاقِ
مَا عَلَى السَّيْفِ فِي الْوَرَى مِنْ جُنَاحٍ *** إِنْ
ثَنَى الْحَدَّ عَنْ دَمٍ مُهْرَاقِ
وَسُيُوفُ اللِّحَاظِ أَوْلَى بِأَنْ تَصْ *** فَحَ
عَمَّا جَنَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ
إِنَّمَا كُلُّ مَنْ قَتَلْنَ شَهِيدٌ *** وَلِهَذَا
يَفْنَى ضَنًى وَهْوَ بَاقٍ
وَنَظِيرُ ذَلِكَ فَتْوَى وَرَدَتْ عَلَى الشَّيْخِ
أَبِي الْخَطَّابِ مَحْفُوظِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَوْذَانِيِّ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ
فِي وَقْتِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ
:
قُلْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ : مَسْأَلَةٌ ***
جَاءَتْ إِلَيْكَ وَمَا خُلِقَ سِوَاكَ لَهَا
مَاذَا عَلَى رَجُلٍ رَامَ الصَّلَاةَ فَمُذْ ***
لَاحَتْ لِخَاطِرِهِ ذَاتُ الْجَمَالِ لَهَا
فَأَجَابَهُ تَحْتَ السُّؤَالِ :
قُلْ لِلْأَدِيبِ الَّذِي وَافَى بِمَسْأَلَةٍ ***
سَرَّتْ فُؤَادِي لَمَّا أَنْ أَصَخْتُ لَهَا
إِنَّ الَّتِي فَتَنَتْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ ***
خَرِيدَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ فَانْثَنَى وَلَهَا
إِنْ تَابَ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عِبَادَتَهُ ***
فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَى مَنْ عَصَى وَلَهَا
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ :
حَجَجْتُ سَنَةً ، ثُمَّ دَخَلْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ
لِزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ،
فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ ، إِذْ سَمِعْتُ
أَنِينًا فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ :
أَشْجَاكَ نَوْحُ حَمَائِمِ السِّدْرِ *** فَأَهَجْنَ
مِنْكَ بَلَابِلَ الصَّدْرِ [ ص: 224
]
أَمْ عَزَّ نَوْمَكَ ذِكْرُ غَانِيَةٍ *** أَهَدَتْ
إِلَيْكَ وَسَاوِسَ الْفِكْرِ
يَا لَيْلَةً طَالَتْ عَلَى دَنِفٍ *** يَشْكُو
السُّهَادَ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ
أَسَلَّمْتَ مَنْ تَهْوَى لِحَرِّ جَوًى *** مُتَوَقِّدٍ
كَتَوَقُّدِ الْجَمْرِ
فَالْبَدْرُ يَشْهَدُ أَنَّنِي كَلِفٌ *** مُغْرًى
بِحُبِّ شَبِيهَةِ الْبَدْرِ
مَا كُنْتُ أَحْسَبُنِي أَهِيمُ بِحُبِّهَا *** حَتَّى
بُلِيتُ وَكُنْتُ لَا أَدْرِي
ثُمَّ انْقَطَعَ الصَّوْتُ ، فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ
جَاءَ ، وَإِذَا بِهِ قَدْ عَادَ الْبُكَاءُ وَالْأَنِينُ ، ثُمَّ أَنْشَدَ :
أَشْجَاكَ مِنْ رَيَّا خَيَالٌ زَائِرٌ *** وَاللَّيْلُ
مُسْوَدُّ الذَّوَائِبِ عَاكِرُ
وَاغْتَالَ مُهْجَتَكَ الْهَوَى بِرَسِيسَةٍ ***
وَاهْتَاجَ مُقْلَتَكَ الْخَيَالُ الزَّائِرُ
نَادَيْتَ رَيًّا وَالظَّلَامُ كَأَنَّهُ *** يَمٌّ
تَلَاطَمَ فِيهِ مَوْجٌ زَاخِرُ
وَالْبَدْرُ يَسْرِي فِي السَّمَاءِ كَأَنَّهُ ***
مَلِكٌ تَرَجَّلَ وَالنُّجُومُ عَسَاكِرُ
وَتَرَى بِهِ الْجَوْزَاءَ تَرْقُصُ فِي الدُّجَى ***
رَقْصَ الْحَبِيبِ عَلَاهُ سُكْرٌ ظَاهِرُ
يَا لَيْلُ طُلْتَ عَلَى مُحِبٍّ مَا لَهُ *** إِلَّا
الصَّبَاحَ مُسَاعِدٌ وَمُؤَازِرُ
فَأَجَابَنِي مُتْ حَتْفَ أَنْفِكَ وَاعْلَمَنْ ***
أَنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ الْحَاضِرُ
قَالَ :
وَكُنْتُ ذَهَبْتُ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِالْأَبْيَاتِ
فَلَمْ يَتَنَبَّهْ إِلَّا وَأَنَا عِنْدُهُ ، فَرَأَيْتُ شَابًّا مُقْتَبِلًا شَبَابُهُ
قَدْ خَرَقَ الدَّمْعُ فِي خَدِّهِ خَرْقَيْنِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ :
اجْلِسْ ، مَنْ أَنْتَ ؟ فَقُلْتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ ،
قَالَ : أَلَكَ حَاجَةٌ ؟ قُلْتُ : نَعَمْ كُنْتُ جَالِسًا فِي الرَّوْضَةِ ،
فَمَا رَاعَنِي إِلَّا صَوْتُكَ ، فَبِنَفْسِي أَفْدِيكَ فَمَا الَّذِي تَجِدُهُ ؟
فَقَالَ أَنَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ
الْأَنْصَارِيُّ ، غَدَوْتُ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ فَصَلَّيْتُ
فِيهِ ، ثُمَّ اعْتَزَلْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ ، فَإِذَا بِنِسْوَةٍ قَدْ أَقْبَلْنَ يَتَهَادَيْنَ
مِثْلَ الْقَطَا ، وَإِذَا فِي وَسَطِهِنَّ جَارِيَةٌ بَدِيعَةُ الْجَمَالِ ،
كَامِلَةُ الْمَلَاحَةِ ، فَوَقَفَتْ عَلَيَّ ، فَقَالَتْ : يَا عُتْبَةُ ، مَا
تَقُولُ فِي وَصْلِ مَنْ يَطْلُبُ وَصْلَكَ ؟ ثُمَّ تَرَكَتْنِي وَذَهَبَتْ ،
فَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا خَبَرًا ، وَلَا قَفَوْتُ لَهَا أَثَرًا ، وَأَنَا
حَيْرَانُ أَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ ، ثُمَّ صَرَخَ وَأَكَبَّ
مَغْشِيًّا عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَفَاقَ ، كَأَنَّمَا صُبِغَتْ وَجَنَتَاهُ بِوَرْسٍ
، ثُمَّ أَنْشَدَ :
أَرَاكُمْ بِقَلْبِي مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ *** فَيَا
هَلْ تَرَوْنِي بِالْفُؤَادِ عَلَى بَعْدِي
فُؤَادِي وَطَرْفِي يَأْسَفَانِ عَلَيْكُمُ ***
وَعِنْدَكُمْ رُوحِي وَذِكْرُكُمْ عِنْدِي
وَلَسْتُ أَلَذَّ الْعَيْشَ حَتَّى أَرَاكُمُ *** وَلَوْ
كُنْتُ فِي الْفِرْدَوْسِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ
فَقُلْتُ :
يَا ابْنَ أَخِي ، تُبْ إِلَى رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ
مِنْ ذَنْبِكَ ، فَبَيْنَ يَدَيْكَ هَوْلُ الْمَطْلَعِ ، فَقَالَ : مَا أَنَا
بِسَالٍ حَتَّى يَئُوبَ الْقَارِظَانِ ، وَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ إِلَى أَنْ طَلَعَ الصُّبْحُ
، فَقُلْتُ : قُمْ بِنَا [ ص: 225 ] إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ ، فَلَعَلَّ
اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ كُرْبَتَكَ ، فَقَالَ : أَرْجُو ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
بِبَرَكَةِ طَاعَتِكَ ، فَذَهَبْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ ،
فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ :
يَا لَلرِّجَالِ لِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَمَا ***
يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبًا
مَا إِنْ يَزَالُ غَزَالٌ مِنْهُ يَقْتُلُنِي ***
يَأْتِي إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ مُنْتَقِبًا
يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّ الْأَجْرَ هِمَّتُهُ *** وَمَا
أَتَى طَالِبًا لِلْأَجْرِ مُحْتَسِبًا
لَوْ كَانَ يَبْغِي ثَوَابًا مَا أَتَى صَلَفًا ***
مُضَمِّخًا بِفَتِيتِ الْمِسْكِ مُخْتَضِبًا
ثُمَّ جَلَسْنَا حَتَّى صَلَّيْنَا الظُّهْرَ ، فَإِذَا
بِالنِّسْوَةِ قَدْ أَقْبَلْنَ وَلَيْسَتِ الْجَارِيَةُ فِيهِنَّ ، فَوَقَفْنَ
عَلَيْهِ ، وَقُلْنَ لَهُ : يَاعُتْبَةُ مَا ظَنُّكَ بِطَالِبَةِ وَصْلِكَ ، وَكَاسِفَةِ
بَالِكَ ؟ قَالَ : وَمَا بَالُهَا ، قُلْنَ : أَخَذَهَا أَبُوهَا وَارْتَحَلَ
بِهَا إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ ، فَسَأَلْتُهُنَّ عَنِ الْجَارِيَةِ ، فَقُلْنَ
: هِيَ رَيَّا بِنْتُ الْغِطْرِيفِ السُّلَمِيِّ ، فَرَفَعَ عُتْبَةُ رَأَسَهُ
إِلَيْهِنَّ وَقَالَ :
خَلِيلِيَّ رَيَّا قَدْ أُجِدَّ بِكُوْرِهَا ***
وَسَارَتْ إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ غَيْرُهَا
خَلِيلِيَّ إِنِّي قَدْ عَشِيتُ مِنَ الْبُكَا ***
فَهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقْلَةٌ أَسْتَعِيرُهَا
فَقُلْتُ لَهُ : إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ بِمَالٍ جَزِيلٍ
أُرِيدُ بِهِ أَهْلَ السَّتْرِ ، وَوَاللَّهِ لَأَبْذُلَنَّهُ أَمَامَكَ حَتَّى
تَبْلُغَ رِضَاكَ وَفَوْقَ الرِّضَا ، فَقُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ الْأَنْصَارِ ،
فَقُمْنَا وَسِرْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ ، فَسَلَّمْتُ ،
فَأَحْسَنُوا الرَّدَّ ، فَقُلْتُ : أَيُّهَا الْمَلَأُ ، مَا تَقُولُونَ فِي
عُتْبَةَ وَأَبِيهِ ؟ قَالُوا : مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ ، قُلْتُ : فَإِنَّهُ
قَدْ رُمِيَ بِدَاهِيَةٍ مِنَ الْهَوَى وَمَا أُرِيدُ مِنْكُمْ إِلَّا
الْمُسَاعَدَةَ إِلَى السَّمَاوَةِ ، فَقَالُوا : سَمْعًا وَطَاعَةً ، فَرَكِبْنَا
وَرَكِبَ الْقَوْمُ مَعَنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَنَازِلِ بَنِي سُلَيْمٍ ،
فَأُعْلِمَ الْغِطْرِيفُ بِنَا ، فَخَرَجَ مُبَادِرًا فَاسْتَقْبَلَنَا ، وَقَالَ : حُيِّيتُمْ يَا
كِرَامُ ، فَقُلْنَا : وَأَنْتَ فَحَيَّاكَ إِنَّا لَكَ أَضْيَافٌ ، فَقَالَ :
نَزَلْتُمْ أَكْرَمَ مَنْزِلٍ ، ثُمَّ نَادَى : يَا مَعْشَرَ الْعَبِيدِ ،
أَنْزِلُوا الْقَوْمَ ، فَفُرِشَتِ الْأَنْطَاعُ وَالنَّمَارِقُ ، وَذُبِحَتِ
الذَّبَائِحُ ، فَقُلْنَا : لَسْنَا بِذَائِقِي طَعَامِكَ حَتَّى تَقْضِيَ
حَاجَتَنَا ، فَقَالَ : وَمَا حَاجَتُكُمْ ؟ قُلْنَا : نَخْطُبُ عَقِيلَتَكَ
الْكَرِيمَةَ لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، فَقَالَ : إِنَّ
الَّتِي تَخْطِبُونَهَا أَمْرُهَا إِلَى نَفْسِهَا ، وَأَنَا أَدْخُلُ أُخْبِرُهَا
، ثُمَّ دَخَلَ مُغْضَبًا عَلَى ابْنَتِهِ ، فَقَالَتْ : يَا أَبَتِ مَا لِي أَرَى
الْغَضَبَ فِي وَجْهِكَ ؟ ، فَقَالَ : قَدْ وَرَدَ الْأَنْصَارُ يَخْطُبُونَكِ
مِنِّي ، فَقَالَتْ : سَادَاتٌ كِرَامٌ ، اسْتَغْفَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَلِمَنِ الْخُطْبَةُ مِنْهُمْ ؟ فَقَالَ :
لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ ، قَالَتْ : وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْ عُتْبَةَ
هَذَا : إِنَّهُ يَفِي بِمَا وَعَدَ ، وَيُدْرِكُ إِذَا قَصَدَ ، فَقَالَ :
أَقْسَمْتُ لَا أُزَوِّجَنَّكِ بِهِ أَبَدًا ، وَلَقَدْ نَمَى إِلَيَّ بَعْضُ
حَدِيثِكِ مَعَهُ، فَقَالَتْ : مَا كَانَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ إِذْ أَقْسَمْتَ ، فَإِنَّ
الْأَنْصَارَ لَا يُرَدُّونَ رَدًّا قَبِيحًا ، حَسِّنْ لَهُمُ الرَّدَّ ، فَقَالَ
: بِأَيِّ شَيْءٍ ؟ قَالَتْ : أَغْلِظْ عَلَيْهِمُ الْمَهْرَ ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ
وَلَا يُجِيبُونَ ، فَقَالَ : مَا أَحْسَنَ مَا قُلْتِ ، فَخَرَجَ مُبَادِرًا
عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ : إِنَّ فَتَاةَ الْحَيِّ قَدْ أَجَابَتْ ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ
لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ، فَمَنِ الْقَائِمُ بِهِ ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
مَعْمَرٍ : أَنَا ، [ ص: 226 ] فَقُلْ مَا شِئْتَ ، فَقَالَ : أَلْفُ مِثْقَالٍ مِنَ
الذَّهَبِ ، وَمِائَةُ ثَوْبٍ مِنَ الْأَبْرَادِ ، وَخَمْسَةُ أَكْرِشَةٍ مِنْ
عَنْبَرٍ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : لَكَ ذَلِكَ كُلُّهُ ، فَهَلْ أَجَبْتَ ، قَالَ
: نَعَمْ ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ : فَأَنْفَذْتُ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى
الْمَدِينَةِ ، فَأَتَوْا بِجَمِيعِ مَا طَلَبَ ، ثُمَّ صُنِعَتِ الْوَلِيمَةُ ،
وَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا ، ثُمَّ قَالَ : خُذُوا فَتَاتَكُمْ
وَانْصَرِفُوا مُصَاحِبِينَ ، ثُمَّ حَمَلَهَا فِي هَوْدَجٍ ، وَجَهَّزَهَا
بِثَلَاثِينَ رَاحِلَةً مِنَ الْمَتَاعِ وَالتُّحَفِ ، فَوَدَّعْنَاهُ وَسِرْنَا ،
حَتَّى إِذَا بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَرْحَلَةٌ وَاحِدَةٌ ،
خَرَجَتْ عَلَيْنَا خَيْلٌ تُرِيدُ الْغَارَةَ
أَحْسَبُهَا مِنْ سُلَيْمٍ ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا عُتْبَةُ
بْنُ الْحُبَابِ ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ رِجَالًا ، وَجَرَحَ آخَرِينَ ، ثُمَّ رَجَعَ
وَبِهِ طَعْنَةٌ تَفُورُ دَمًا ، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ ، وَانْثَنَى بِخَدِّهِ
، فَطُرِدَتْ عَنَّا الْخَيْلُ وَقَدْ قَضَى عُتْبَةُ نَحْبَهُ ، فَقُلْنَا :
وَاعُتْبَتَاهُ ، فَسَمِعَتْنَا الْجَارِيَةُ ، فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا مِنَ
الْبَعِيرِ ، وَجَعَلَتْ تَصِيحُ بِحُرْقَةٍ ، وَأَنْشَدَتْ :
تَصَبَّرْتُ لَا أَنِّي صَبِرْتُ وَإِنَّمَا ***
أُعَلِّلُ نَفْسِي أَنَّهَا بِكَ لَاحِقَهْ
فَلَوْ أَنْصَفَتْ رُوحِي لَكَانَتْ إِلَى الرَّدَى ***
أَمَامَكَ مِنْ دُونِ الْبَرِيَّةِ سَابِقَهْ
فَمَا أَحَدٌ بَعْدِي وَبَعْدَكَ مُنْصِفٌ *** خَلِيلًا
وَلَا نَفْسٌ لِنَفْسٍ مُوَافِقَهْ
ثُمَّ شَهِقَتْ وَقَضَتْ نَحْبَهَا ، فَاحْتَفَرْنَا
لَهُمَا قَبْرًا وَاحِدًا وَدَفَنَّاهُمَا فِيهِ ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى
الْمَدِينَةِ ، فَأَقَمْتُ سَبْعَ سِنِينَ ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الْحِجَازِ
وَوَرَدْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ : وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ قَبْرَ عُتْبَةَ أَزُورُهُ
، فَأَتَيْتُ الْقَبْرَ ، فَإِذَا عَلَيْهِ شَجَرَةٌ عَلَيْهَا عَصَائِبُ حُمْرُ وَصُفْرُ
، فَقُلْتُ : لِأَرْبَابِ الْمَنْزِلِ مَا يُقَالُ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ ؟ قَالُوا
: شَجَرَةُ الْعَرُوسَيْنِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِشْقِ مِنَ الرُّخْصَةِ الْمُخَالِفَةِ
لِلتَّشْدِيدِ إِلَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْحَسَنِ مِنَ الْأَسَانِيدِ ،
وَهُوَ حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي
يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ : مَنْ عَشِقَ
وَعَفَّ ، وَكَتَمَ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ وَرَوَاهُ سُوَيْدٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ
مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا ،
وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ عَنِ الْمُعَافَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ
قُطْبَةَ عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْهُ ، وَرَوَاهُ
الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَهَذَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَرَسُولُ
رَبِّ الْعَالَمِينَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ إِلَى زَيْنَبَ
بِنْتِ جَحْشٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَقَالَتْ : سُبْحَانَ مُقَلِّبِ
الْقُلُوبِ ، وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ ، فَلَمَّا هَمَّ بِطَلَاقِهَا
، قَالَ لَهُ : اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ، فَلَمَّا
طَلَّقَهَا ، زَوَّجَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ ، فَكَانَ هُوَ وَلِيَّهَا وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا
مِنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَعَقَدَ نِكَاحَهَا مِنْ
فَوْقِ عَرْشِهِ ، وَأَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : [ ص: 227 ] وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ
وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي
نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِوَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ
[ سُورَةُ الْأَحْزَابِ : 37 ]
.
وَهَذَا دَاوُدُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
لَمَّا كَانَ تَحْتَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً ، ثُمَّ أَحَبَّ تِلْكَ
الْمَرْأَةَ فَتَزَوَّجَهَا وَكَمَّلَ بِهَا الْمِائَةَ .
قَالَ الزُّهْرِيُّ : أَوَّلُ حُبٍّ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ
، حُبُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
، وَكَانَ مَسْرُوقٌ يُسَمِّيهَا حَبِيبَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَمْرٍو : أَرْسَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ ؛
أَسْأَلُهَا : أَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
يُقَبِّلُ أَهْلَهُ وَهُوَ صَائِمٌ ؟ فَقَالَتْ : لَا ، فَقَالَ : إِنَّ عَائِشَةَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - : إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا
رَأَى عَائِشَةَ لَا يَتَمَالَكُ عَنْهَا .
وَذَكَرَ سَعِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَامِرِ بْنِ
سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : كَانَ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ عَلَيْهِ
السَّلَامُ يَزُورُ هَاجَرَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ الشَّامِ عَلَى الْبُرَاقِ مِنْ
شَغَفِهِ بِهَا ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهَا .
وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - اشْتَرَى جَارِيَةً رُومِيَّةً ، فَكَانَ
يُحِبُّهَا حُبًّا شَدِيدًا ، فَوَقَعَتْ ذَاتَ يَوْمٍ عَنْ بَغْلَةٍ لَهُ ،
فَجَعَلَ يَمْسَحُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهَا وَيُقَبِّلُهَا ، وَكَانَتْ تُكْثِرُ
مِنْ أَنْ تَقُولَ : يَا بَطْرُونُ أَنْتَ قَالُونُ ، تَعْنِي : يَا مَوْلَايَ
أَنْتَ جَيِّدٌ ، ثُمَّ إِنَّهَا هَرَبَتْ مِنْهُ ، فَوَجَدَ عَلَيْهَا وَجْدًا
شَدِيدًا ، وَقَالَ :
قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُنِي قَالُونَ فَانْصَرَفَتْ ***
فَالْيَوْمَ أَعْلَمُ أَنِّي غَيْرُ قَالُونَ
قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ : وَقَدْ أَحَبَّ
مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ كَثِيرٌ ،
وَقَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : يَا
أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، رَأَيْتُ امْرَأَةً فَعَشِقْتُهَا ، فَقَالَ : ذَلِكَ
مَا لَا تَمْلِكُ .
فَالْجَوَابُ ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ : أَنَّ الْكَلَامَ
فِي هَذَا الْبَابِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْوَاقِعِ
وَالْجَائِزِ ، وَالنَّافِعِ وَالضَّارِّ ، وَلَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالذَّمِّ
وَالْإِنْكَارِ ، وَلَا بِالْمَدْحِ وَالْقَبُولِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ ،
وَإِنَّمَا يَبِينُ حُكْمُهُ ، وَيَنْكَشِفُ أَمْرُهُ بِذِكْرِ مُتَعَلِّقِهِ ،
وَإِلَّا فَالْعِشْقُ مِنْ حَيْثُ هُوَ لَا يُحْمَدُ وَلَا يُذَمُّ ، وَنَحْنُ
نَذْكُرُ النَّافِعَ مِنَ الْحُبِّ وَالضَّارِّ ، وَالْجَائِزَ وَالْحَرَامَ .
التالي ج3.ان شاء الله
السبت، 22 أكتوبر 2022
ج1.وج2. كتاب الجواب الشافي لابن القيم
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
القرآن الكريم : مكبرا للقراءة المستريحة جدا
سورة الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ...
-
حمل المصحف كتاب : الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع السيوطي بسم الله الرحمن الرحيم الآيات التي تأمر بالاتباع وتنهى عن ال...
-
كتاب : الفوائد محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله ابن القيم الجوزية بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ محي الدين السنة قامع البدعة أب...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق