ج3. كتاب الْجَوَابُ الْكَافِي لِمَنْ سَأَلَ عَنْ
الدَّوَاءِ الشَّاِفي أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية
فَصْلٌ: الْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ[ ص: 228 ]
اعْلَمْ أَنَّ أَنْفَعَ الْمَحَبَّةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ
وَأَوْجَبَهَا وَأَعْلَاهَا وَأَجَلَّهَا مَحَبَّةُ مَنْ جُبِلَتِ الْقُلُوبُ
عَلَى مَحَبَّتِهِ ، وَفُطِرَتِ الْخَلِيقَةُ عَلَى تَأْلِيهِهِ ، وَبِهَا قَامَتِ
الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ ، وَعَلَيْهَا فُطِرَتِ الْمَخْلُوقَاتُ ، وَهِيَ سِرُّ
شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الَّذِي
تَأَلَّهَ الْقُلُوبَ بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ ، وَالتَّعْظِيمِ وَالذُّلِّ
لَهُ وَالْخُضُوعِ وَالتَّعَبُّدِ ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهُ
وَحْدَهُ ، وَالْعِبَادَةُ هِيَ : كَمَالُ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الْخُضُوعِ وَالذُّلِّ
، وَالشِّرْكُ فِي هَذِهِ الْعُبُودِيَّةِ مِنْ أَظْلَمِ الظُّلْمِ الَّذِي لَا
يَغْفِرُهُ اللَّهُ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يُحَبُّ لِذَاتِهِ مِنْ جَمِيعِ
الْوُجُوهِ ، وَمَا سِوَاهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِ مَحَبَّتِهِ سُبْحَانَهُ
جَمِيعُ كُتُبِهِ الْمُنَزَّلَةِ ، وَدَعْوَةُ جَمِيعِ رُسُلِهِ ، وَفِطْرَتُهُ
الَّتِي فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَيْهَا ، وَمَا رَكَّبَ فِيهِمْ مِنَ الْعُقُوقِ ،
وَمَا أَسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَفْطُورَةٌ
مَجْبُولَةٌ عَلَى مَحَبَّةِ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إِلَيْهَا ،
فَكَيْفَ بِمَنْ كَانَ الْإِحْسَانُ مِنْهُ ؟ وَمَا بِخَلْقِهِ جَمِيعِهِمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنْهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : وَمَا
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ
[ سُورَةُ النَّحْلِ : 53 ] .
وَمَا تَعَرَّفَ بِهِ إِلَى عِبَادِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ
الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا ، وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ مَصْنُوعَاتِهِ
مِنْ كَمَالِهِ وَنِهَايَةِ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ .
وَالْمَحَبَّةُ لَهَا دَاعِيَانِ : الْجَمَالُ ،
وَالْجَلَالُ وَالرَّبُّ تَعَالَى لَهُ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ ذَلِكَ ،
فَإِنَّهُ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ ، بَلِ الْجَمَالُ كُلُّهُ لَهُ ،
وَالْإِجْلَالُ كُلُّهُ مِنْهُ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يُحَبَّ لِذَاتِهِ مِنْ
كُلِّ وَجْهٍ سِوَاهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ
اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [ سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ : 31 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ
يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ
فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [ سُورَةُ
الْمَائِدَةِ : 54 - 56 ] .
[ ص: 229
] فَالْوِلَايَةُ أَصْلُهَا الْحُبُّ ، فَلَا مُوَالَاةَ
إِلَّا بِحُبٍّ ، كَمَا أَنَّ الْعَدَاوَةَ أَصْلُهَا الْبُغْضُ ، وَاللَّهُ
وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ ، فَهُمْ يُوَالُونَهُ بِمَحَبَّتِهِمْ
لَهُ ، وَهُوَ يُوَالِيهِمْ بِمَحَبَّتِهِ لَهُمْ ، فَاللَّهُ يُوَالِي عَبْدَهُ
الْمُؤْمِنَ بِحَسَبِ مَحَبَّتِهِ لَهُ
.
وَلِهَذَا أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ عَلَى مَنِ اتَّخَذَ
مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ، بِخِلَافِ مَنْ وَالَى أَوْلِيَاءَهُ ، فَإِنَّهُ لَمْ
يَتَّخِذْهُمْ مِنْ دُونِهِ ، بَلْ مُوَالَاتُهُ لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مُوَالَاتِهِ .
وَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى مَنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ
غَيْرِهِ فِي الْمَحَبَّةِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّخَذَ
مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يُحِبُّهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، قَالَ تَعَالَى : وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [ سُورَةُ الْبَقَرَةِ : 165 ] .
وَأَخْبَرَ عَمَّنْ سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَنْدَادِ
فِي الْحُبِّ ، أَنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي النَّارِ لِمَعْبُودِيهِمْ : تَاللَّهِ
إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ : 97 - 98
] .
وَبِهَذَا التَّوْحِيدِ فِي الْحُبِّ أَرْسَلَ اللَّهُ
سُبْحَانَهُ جَمِيعَ رُسُلِهِ ، وَأَنْزَلَ جَمِيعَ كُتُبِهِ ، وَأَطْبَقَتْ
عَلَيْهِ دَعْوَةُ جَمِيعِ الرُّسُلِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ ،
وَلِأَجْلِهِ خُلِقَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ ،
فَجَعَلَ الْجَنَّةَ لِأَهْلِهِ ، وَالنَّارَ لِلْمُشْرِكِينَ بِهِ فِيهِ .
وَقَدْ أَقْسَمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ : لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يَكُونَ هُوَ أَحَبَّ إِلَيْهِ
مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ، فَكَيْفَ بِمَحَبَّةِ
الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ؟
وَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - : لَا ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ أَيْ لَا
تُؤْمِنُ حَتَّى تَصِلَ مَحَبَّتُكَ إِلَى هَذِهِ الْغَايَةِ .
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا فِي الْمَحَبَّةِ وَلَوَازِمِهَا أَفَلَيْسَ
الرَّبُّ جَلَّ جَلَالُهُوَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ أَوْلَى بِمَحَبَّتِهِ
وَعِبَادَتِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَكُلُّ مَا مِنْهُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ
يَدْعُو إِلَى مَحَبَّتِهِ ، مِمَّا يُحِبُّ الْعَبْدُ وَيَكْرَهُ - فَعَطَاؤُهُ
وَمَنْعُهُ ، وَمُعَافَاتُهُ وَابْتِلَاؤُهُ ، وَقَبْضُهُ وَبَسْطُهُ ، وَعَدْلُهُ
وَفَضْلُهُ ، وَإِمَاتَتُهُ وَإِحْيَاؤُهُ ، وَلُطْفُهُ وَبِرُّهُ ، وَرَحْمَتُهُ
وَإِحْسَانُهُ ، وَسَتْرُهُ وَعَفْوُهُ ، وَحِلْمُهُ وَصَبْرُهُ عَلَى عَبْدِهِ ،
وَإِجَابَتُهُ لِدُعَائِهِ ، وَكَشْفُ كَرْبِهِ ، وَإِغَاثَةُ لَهْفَتِهِ ،
وَتَفْرِيجُ كُرْبَتِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ ، بَلْ مَعَ غِنَاهُ التَّامِّ
عَنْهُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ ، كُلُّ ذَلِكَ دَاعٍ لِلْقُلُوبِ إِلَى
تَأْلِيهِهِ وَمَحَبَّتِهِ ، بَلْ تَمْكِينُهُ عَبْدَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ
وَإِعَانَتُهُ عَلَيْهَا ، وَسَتْرُهُ حَتَّى يَقْضِيَوَطَرَهُ مِنْهَا ،
وَكَلَاءَتُهُ وَحِرَاسَتُهُ لَهُ ، وَيَقْضِي وَطَرَهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ ،
يُعِينُهُ وَيَسْتَعِينُ عَلَيْهَا بِنِعَمِهِ - مِنْ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَى
مَحَبَّتِهِ ، فَلَوْ أَنَّ مَخْلُوقًا فَعَلَ بِمَخْلُوقٍ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ
ذَلِكَ لَمْ تَمْلِكْ قَلْبَهُ عَنْ مَحَبَّتِهِ ، فَكَيْفَ لَا يُحِبُّ الْعَبْدُ
بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ [ ص: 230 ] مَنْ يُحْسِنُ إِلَيْهِ عَلَى الدَّوَامِ
بِعَدَدِ الْأَنْفَاسِ ، مَعَ إِسَاءَتِهِ ؟ فَخَيْرُهُ إِلَيْهِ نَازِلٌ ،
وَشَرُّهُ إِلَيْهِ صَاعِدٌ ، يَتَحَبَّبُ إِلَيْهِ بِنِعَمِهِ وَهُوَ غَنِيٌّ
عَنْهُ ، وَالْعَبْدُ يَتَبَغَّضُ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَيْهِ
، فَلَا إِحْسَانُهُ وَبِرُّهُ وَإِنْعَامُهُ إِلَيْهِ يَصُدُّهُ عَنْ
مَعْصِيَتِهِ ، وَلَا مَعْصِيَةُ الْعَبْدِ وَلُؤْمُهُ يَقْطَعُ إِحْسَانَ رَبِّهِ
عَنْهُ .
فَأَلْأَمُ اللُّؤْمِ تَخَلُّفُ الْقُلُوبِ عَنْ
مَحَبَّةِ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ ، وَتَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ سِوَاهُ .
وَأَيْضًا فَكُلُّ مَنْ تُحِبُّهُ مِنَ الْخَلْقِ أَوْ
يُحِبُّكَ إِنَّمَا يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ وَغَرَضِهِ مِنْكَ ، وَاللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُكَ لَكَ، كَمَا فِي الْأَثَرِ الْإِلَهِيِّ : [
عَبْدِي كُلٌّ يُرِيدُكَ لِنَفْسِهِ ، وَأَنَا أُرِيدُكَ لَكَ ] ، فَكَيْفَ لَا
يَسْتَحِي الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ رَبُّهُ لَهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ ، وَهُوَ مُعْرِضٌ
عَنْهُ ، مَشْغُولٌ بِحُبِّ غَيْرِهِ ، قَدِ اسْتَغْرَقَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ
سِوَاهُ ؟
وَأَيْضًا ، فَكُلُّ مَنْ تُعَامِلُهُ مِنَ الْخَلْقِ
إِنْ لَمْ يَرْبَحْ عَلَيْكَ لَمْ يُعَامِلْكَ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نَوْعٍ
مِنْ أَنْوَاعِ الرِّبْحِ ، وَالرَّبُّ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَامِلُكَ لِتَرْبَحَ
أَنْتَ عَلَيْهِ أَعْظَمَ الرِّبْحِ وَأَعْلَاهُ ، فَالدِّرْهَمُ بِعَشَرَةِ
أَمْثَالِهِ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ ،
وَالسَّيِّئَةُ بِوَاحِدَةٍ وَهِيَ أَسْرَعُ شَيْءٍ مَحْوًا .
وَأَيْضًا هُوَ سُبْحَانَهُ خَلَقَكَ لِنَفْسِهِ ،
وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لَكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَمَنْ أَوْلَى مِنْهُ بِاسْتِفْرَاغِ
الْوُسْعِ فِي مَحَبَّتِهِ ، وَبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَرْضَاتِهِ ؟
وَأَيْضًا فَمَطَالِبُكَ - بَلْ مَطَالِبُ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ
جَمِيعًا - لَدَيْهِ ، وَهُوَ أَجْوَدُ الْأَجْوَدِينَ ، وَأَكْرَمُ
الْأَكْرَمِينَ ، أَعْطَى عَبْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ فَوْقَ مَا يُؤَمِّلُهُ
، يَشْكُرُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَمَلِ وَيُنَمِّيهِ ، وَيَغْفِرُ الْكَثِيرَ مِنَ
الزَّلَلِ وَيَمْحُوهُ ، يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ
يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ، لَا يَشْغَلُهُ سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ ، وَلَا تُغَلِّطُهُ
كَثْرَةُ الْمَسَائِلِ ، وَلَا يَتَبَرَّمُ بِإِلْحَاحِ الْمُلِحِّينَ ، بَلْ
يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ ، وَيُحِبُّ أَنْ يُسْأَلَ ، وَيَغْضَبُ إِذَا
لَمْ يُسْأَلْ ، يَسْتَحِي مِنْ عَبْدِهِ حَيْثُ لَا يَسْتَحِي الْعَبْدُ مِنْهُ ،
وَيَسْتُرُهُ حَيْثُ لَا يَسْتُرُ نَفْسَهُ ، وَيَرْحَمُهُ حَيْثُ لَا يَرْحَمُ
نَفْسُهُ ، دَعَاهُ بِنِعَمِهِ وَإِحْسَانِهِ وَأَيَادِيهِ إِلَى كَرَامَتِهِ
وَرِضْوَانِهِ ، فَأَبَى ، فَأَرْسَلَ رُسُلَهُ فِي طَلَبِهِ ، وَبَعَثَ إِلَيْهِ
مَعَهُمْ عَهْدَهُ ، ثُمَّ نَزَلَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ نَفْسُهُ ، وَقَالَ : مَنْ
يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ كَمَا قِيلَ : " أَدْعُوكَ
وَلِلْوَصْلِ تَأْبَى ، أَبْعَثُ رَسُولِي فِي الطَّلَبِ ، أَنْزِلُ إِلَيْكَ
بِنَفْسِي ، أَلْقَاكَ فِي النَّوْمِ
" .
وَكَيْفَ لَا تُحِبُّ الْقُلُوبُ مَنْ لَا يَأْتِي
بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا هُوَ ، وَلَا يَذْهَبُ بِالسَّيِّئَاتِ إِلَّا هُوَ ، وَلَا
يُجِيبُ الدَّعَوَاتِ ، وَيُقِيلُالْعَثَرَاتِ ، وَيَغْفِرُ الْخَطِيئَاتِ ،
وَيَسْتُرُ الْعَوْرَاتِ ، وَيَكْشِفُ الْكُرُبَاتِ ، وَيُغِيثُ اللَّهَفَاتِ ، وَيُنِيلُ
الطَّلَبَاتِ سِوَاهُ ؟ .
فَهُوَ أَحَقُّ مَنْ ذُكِرَ ، وَأَحَقُّ مَنْ شُكِرَ ،
وَأَحَقُّ مَنْ عُبِدَ ، وَأَحَقُّ مَنْ حُمِدَ ، وَأَنْصَرُ مَنْ ابْتُغِيَ ،
وَأَرْأَفُ مَنْ مَلَكَ ، وَأَجْوَدُ مَنْ سُئِلَ ، وَأَوْسَعُ مَنْ أَعْطَى ،
وَأَرْحَمُ مَنْ اسْتُرْحِمَ ، وَأَكْرَمُ مَنْ قُصِدَ ، وَأَعَزُّ مَنِ الْتُجِئَ
إِلَيْهِ وَأَكْفَى مَنْ تُوُكِّلَ عَلَيْهِ ، أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنَ
الْوَالِدَةِ [ ص: 231 ] بِوَلَدِهَا ، وَأَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ التَّائِبِ مِنَ
الْفَاقِدِ لِرَاحِلَتِهِ الَّتِي عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فِي الْأَرْضِ الْمُهْلِكَةِ
إِذَا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ ثُمَّ وَجَدَهَا .
وَهُوَ الْمَلِكُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَالْفَرْدُ فَلَا
نِدَّ لَهُ ، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ، لَنْ يُطَاعَ إِلَّا
بِإِذْنِهِ ، وَلَنْ يُعْصَى إِلَّا بِعِلْمِهِ ، يُطَاعُ فَيَشْكُرُ ،
وَبِتَوْفِيقِهِ وَنِعْمَتِهِ أُطِيعَ ، وَيُعْصَى فَيَغْفِرُ وَيَعْفُو ،
وَحَقُّهُ أُضِيعَ ، فَهُوَ أَقْرَبُ شَهِيدٍ ، وَأَجَلُّ حَفِيظٍ ، وَأَوْفَى بِالْعَهْدِ
، وَأَعْدَلُ قَائِمٍ بِالْقِسْطِ ، حَالَ دُونَ النُّفُوسِ ، وَأَخَذَ
بِالنَّوَاصِي وَكَتَبَ الْآثَارَ ، وَنَسَخَ الْآجَالَ ، فَالْقُلُوبُ لَهُ
مُفْضِيَةٌ ، وَالسِّرُّ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ ، وَالْغَيْبُ لَدَيْهِ مَكْشُوفٌ ،
وَكُلُّ أَحَدٍ إِلَيْهِ مَلْهُوفٌ ، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِنُورِ وَجْهِهِ ،
وَعَجَزَتِ الْقُلُوبُ عَنْ إِدْرَاكِ كُنْهِهِ ، وَدَلَّتِ الْفِطَرُ
وَالْأَدِلَّةُ كُلُّهَا عَلَى امْتِنَاعِ مِثْلِهِ وَشِبْهِهِ ، أَشْرَقَتْ
لِنُورِ وَجْهِهِ الظُّلُمَاتُ ، وَاسْتَنَارَتْ لَهُ الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ ،
وَصَلُحَتْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ ، لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ
أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ
اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ
اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ ، وَلَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ
وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ :
مَا اعْتَاضَ بَاذِلُ حُبِّهِ لِسِوَاهُ مِنْ عِوَضٍ
وَلَوْ مَلَكَ الْوُجُودَ بِأَسْرِهِ
فَصْلٌ:
كَمَالُ اللَّذَّةِ فِي كَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ الْمَحَبَّةِوَهَذَا
أَمْرٌ عَظِيمٌ يَجِبُ عَلَى اللَّبِيبِ الِاعْتِنَاءُ بِهِ ، وَهُوَ أَنَّ
كَمَالَ اللَّذَّةِ وَالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ وَنَعِيمِ الْقَلْبِ وَابْتِهَاجِ
الرُّوحِ تَابِعٌ لِأَمْرَيْنِ
: أَحَدُهُمَا : كَمَالُ الْمَحْبُوبِ فِي نَفْسِهِ
وَجَمَالِهِ ، وَأَنَّهُ أَوْلَى بِإِيثَارِ الْمَحَبَّةِ مِنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ .
وَالْأَمْرُ الثَّانِي : كَمَالُ مَحَبَّتِهِ ،
وَاسْتِفْرَاغُ الْوُسْعِ فِي حُبِّهِ ، وَإِيثَارُ قُرْبِهِ وَالْوُصُولِ
إِلَيْهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ .
وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّذَّةَ بِحُصُولِ
الْمَحْبُوبِ بِحَسَبِ قُوَّةِ مَحَبَّتِهِ ، فَكُلَّمَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ
أَقْوَى كَانَتْ لَذَّةُ الْمُحِبِّ أَكْمَلَ ، فَلَذَّةُ الْعَبْدِ مَنِ اشْتَدَّ
ظَمَؤُهُ بِإِدْرَاكِ الْمَاءِ الزُّلَالِ ، وَمَنِ اشْتَدَّ جُوعُهُ بِأَكْلِ الطَّعَامِ
الشَّهِيِّ ، وَنَظَائِرُذَلِكَ عَلَى حَسَبِ شَوْقِهِ وَشَدَّةِ إِرَادَتِهِ
وَمَحَبَّتِهِ .
وَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا ، فَاللَّذَّةُ وَالسُّرُورُ
وَالْفَرَحُ أَمْرٌ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ ، بَلْ هُوَ مَقْصُودُ كُلِّ حَيٍّ
وَعَاقِلٍ ، إِذَا كَانَتِ اللَّذَّةُ مَطْلُوبَةً لِنَفْسِهَا فَهِيَ تُذَمُّ
إِذَا أَعْقَبَتْ أَلَمًا أَعْظَمَ مِنْهَا ، أَوْ مَنَعَتْ لَذَّةً خَيْرًا
مِنْهَا وَأَجَّلَ ، فَكَيْفَ إِذَا أَعْقَبَتْ أَعْظَمَ الْحَسَرَاتِ ،
وَفَوَّتَتْ أَعْظَمَ اللَّذَّاتِ [ ص: 232 ] وَالْمَسَرَّاتِ ؟ وَتُحْمَدُ إِذَا
أَعَانَتْ عَلَى لَذَّةٍ عَظِيمَةٍ دَائِمَةٍ مُسْتَقِرَّةٍ لَا تَنْغِيصَ فِيهَا وَلَا
نَكَدَ بِوَجْهٍ مَا ، وَهِيَ لَذَّةُ الْآخِرَةِ وَنَعِيمُهَا وَطِيبُ الْعَيْشِ
فِيهَا ، قَالَ تَعَالَى : بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ
خَيْرٌ وَأَبْقَى [ سُورَةُ الْأَعْلَى : 16 - 17 ] .
وَقَالَ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ لَمَّا آمَنُوا :
فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا
وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [ سُورَةُ
طه : 72 - 73 ] .
وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ لِيُنِيلَهُمْ
هَذِهِ اللَّذَّةَ الدَّائِمَةَ فِي دَارِ الْخُلْدِ ، وَأَمَّا الدُّنْيَا
فَمُنْقَطِعَةٌ ، وَلَذَّاتُهَا لَا تَصْفُو أَبَدًا وَلَا تَدُومُ ، بِخِلَافِ
الْآخِرَةِ ، فَإِنَّ لَذَّاتِهَا دَائِمَةٌ ، وَنَعِيمَهَا خَالِصٌ مِنْ كُلِّ
كَدَرٍ وَأَلَمٍ ، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ
مَعَ الْخُلُودِ أَبَدًا ، وَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أَخْفَى اللَّهُ لِعِبَادِهِ
فِيهَا مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ، بَلْ فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ
سَمِعَتْ ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدَهُ
النَّاصِحُ لِقَوْمِهِ :
يَاقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ
يَاقَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ
دَارُ الْقَرَارِ [ سُورَةُ غَافِرٍ : 38 - 39 ] .
فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الدُّنْيَا يُسْتَمْتَعُ بِهَا
إِلَى غَيْرِهَا ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ الْمُسْتَقَرُّ .
وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَنَعِيمَهَا
مَتَاعٌ ، وَوَسِيلَةٌ إِلَى لَذَّاتِ الْآخِرَةِ ، وَلِذَلِكَ خُلِقَتِ
الدُّنْيَا وَلَذَّاتُهَا ، فَكُلُّلَذَّةٍ أَعَانَتْ عَلَى لَذَّةِ الْآخِرَةِ
وَأَوْصَلَتْ إِلَيْهَا لَمْ يُذَمَّ تَنَاوُلُهَا ، بَلْ يُحْمَدُ بِحَسَبِ
إِيصَالِهَا إِلَى لَذَّةِ الْآخِرَةِ
.
رُؤْيَةُ اللَّهِ
إِذَا عُرِفَ هَذَا فَأَعْظَمُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ
وَلَذَّاتِهَا : هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ ،
وَسَمَاعُ كَلَامِهِ مِنْهُ ، وَالْقُرْبُ مِنْهُ ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ
فِي حَدِيثِ الرُّؤْيَةِ : فَوَاللَّهِ مَا أَعْطَاهُمْ شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ
النَّظَرِ إِلَيْهِ ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : إِنَّهُ إِذَا تَجَلَّى لَهُمْ وَرَأَوْهُ
؛ نَسُوا مَا هُمْ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ .
[ ص: 233 ] وَفِي النَّسَائِيِّ وَمُسْنَدِ الْإِمَامِ
أَحْمَدَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ : وَأَسْأَلُكَ اللَّهُمَّ لَذَّةَ
النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ الْكَرِيمِ ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ وَفِي كِتَابِ
السُّنَّةِ لِعَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ مَرْفُوعًا : كَأَنَّ
النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمْ يَسْمَعُوا الْقُرْآنَ ، إِذَا سَمِعُوهُ مِنَ
الرَّحْمَنِ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا قَبْلَ ذَلِكَ .
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا ، فَأَعْظَمُ الْأَسْبَابِ الَّتِي
تُحَصِّلُ هَذِهِ اللَّذَّةَ هُوَ أَعْظَمُ لَذَّاتِ الدُّنْيَا عَلَى
الْإِطْلَاقِ ، وَهِيَ لَذَّةُ مَعْرِفَتِهِ سُبْحَانَهُ ، وَلَذَّةُ مَحَبَّتِهِ
، فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ جَنَّةُ الدُّنْيَا وَنَعِيمُهَا الْعَالِي ، وَنِسْبَةُ لَذَّاتِهَا
الْفَانِيَةِ إِلَيْهِ كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ ، فَإِنَّ الرُّوحَ وَالْقَلْبَ
وَالْبَدَنَ إِنَّمَا خُلِقَ لِذَلِكَ ، فَأَطْيَبُ مَا فِي الدُّنْيَا
مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَأَلَذُّ مَا فِي الْجَنَّةِ رُؤْيَتُهُ
وَمُشَاهَدَتُهُ ، فَمَحَبَّتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ قُرَّةُ الْعُيُونِ ، وَلَذَّةُ
الْأَرْوَاحِ ، وَبَهْجَةُ الْقُلُوبِ ، وَنَعِيمُ الدُّنْيَا وَسُرُورُهَا ، بَلْ
لَذَّاتُ الدُّنْيَا الْقَاطِعَةُ عَنْ ذَلِكَ تَتَقَلَّبُ آلَامًا وَعَذَابًا ،
وَيَبْقَى صَاحِبُهَا فِي الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ ، فَلَيْسَتِالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ
إِلَّا بِاللَّهِ .
وَكَانَ بَعْضُ الْمُحِبِّينَ تَمُرُّ بِهِ أَوْقَاتٌ
فَيَقُولُ : إِنْ كَانَ أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ مِثْلِ هَذَا إِنَّهُمْ
لَفِي عَيْشٍ طَيِّبٍ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ ، وَكَانَ غَيْرُهُ يَقُولُ :
لَوْ يَعْلَمُ الْمُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ لَجَالَدُونَا
عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ .
وَإِذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَحَبَّةِ الْبَاطِلَةِ
الَّتِي هِيَ عَذَابٌ عَلَى قَلْبِ الْمُحِبِّ ، يَقُولُ فِي حَالِهِ :
وَمَا النَّاسُ إِلَّا الْعَاشِقُونَ ذَوُو الْهَوَى
فَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ وَيَعْشَقُ
وَيَقُولُ غَيْرُهُ :
أُفٍّ لِلدُّنْيَا إِذَا مَا لَمْ يَكُنْ *** صَاحِبُ
الدُّنْيَا مُحِبًّا أَوْ حَبِيبًا
وَيَقُولُ آخَرُ :
وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي نَعِيمِهَا ***
وَأَنْتَ وَحِيدٌ مُفْرَدٌ غَيْرُ عَاشِقِ
وَيَقُولُ الْآخَرُ :
اسْكُنْ إِلَى سَكَنٍ تَلَذُّ بِحُبِّهِ *** ذَهَبَ
الزَّمَانُ وَأَنْتَ مُنْفَرِدُ
وَيَقُولُ الْآخَرُ :
تَشَكَّى الْمُحِبُّونَ الصَّبَابَةَ لَيْتَنِي ***
تَحَمَّلْتُ مَا يَلْقَوْنَ مِنْ بَيْنِهِمْ وَحْدِي
فَكَانَتْ لِقَلْبِي لَذَّةُ الْحُبِّ كُلُّهَا ***
فَلَمْ يَلْقَهَا قَبْلِي مُحِبٌّ وَلَا بَعْدِي
فَكَيْفَ بِالْمَحَبَّةِ الَّتِي هِيَ حَيَاةُ
الْقُلُوبِ ، وَغِذَاءُ الْأَرْوَاحِ ، وَلَيْسَ لِلْقَلْبِ لَذَّةٌ ، وَلَا
نَعِيمٌ ، وَلَا فَلَاحٌ ، وَلَا حَيَاةٌ إِلَّا بِهَا ، وَإِذَا فَقَدَهَا
الْقَلْبُ كَانَ أَلَمُهُ أَعْظَمَ مِنْ أَلَمِ الْعَيْنِ إِذَا فَقَدَتْ نُورَهَا
، وَالْأُذُنِ إِذَا فَقَدَتْ سَمْعَهَا ، وَالْأَنْفِ إِذَا فَقَدَ شَمَّهُ ، وَاللِّسَانِ
إِذَا فَقَدَ نُطْقَهُ ، بَلْ فَسَادُ الْقَلْبِ إِذَا خَلَا مِنْ مَحَبَّةِ
فَاطِرِهِ [ ص: 234 ] وَبَارِئِهِ وَإِلَهِهِ الْحَقِّ أَعْظَمُ مِنْ فَسَادِ
الْبَدَنِ إِذَا خَلَا مِنْهُ الرُّوحُ ، وَهَذَا الْأَمْرُ لَا يُصَدِّقُ بِهِ
إِلَّا مَنْ فِيهِ حَيَاةٌ ،
وَمَا لِجُرْحِ مَيِّتٍ إِيلَامُ
وَالْمَقْصُودُ : أَنَّ أَعْظَمَ لَذَّاتِ الدُّنْيَا
هُوَ السَّبَبُ الْمُوَصِّلُ إِلَى أَعْظَمِ لَذَّةٍ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَذَّاتُ
الدُّنْيَا ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
:
فَأَعْظَمُهَا وَأَكْمَلُهَا : مَا أَوْصَلَ لَذَّةَ الْآخِرَةِ
، وَيُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذِهِ اللَّذَّةِ أَتَمَّ ثَوَابٍ ، وَلِهَذَا
كَانَ الْمُؤْمِنُ يُثَابُ عَلَى مَا يَقْصِدُ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ ، مِنْ
أَكْلِهِ ، وَشُرْبِهِ ، وَلِبَاسِهِ ، وَنِكَاحِهِ ، وَشِفَاءِ غَيْظِهِ بِقَهْرِ
عَدُوِّ اللَّهِ وَعَدُوِّهِ ، فَكَيْفَ بِلَذَّةِ إِيمَانِهِ ،
وَمَعْرِفَتِهِبِاللَّهِ ، وَمَحَبَّتِهِ لَهُ ، وَشَوْقِهِ إِلَى لِقَائِهِ ،
وَطَمَعِهِ فِي رُؤْيَةِ وَجْهِهِ الْكَرِيمِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ؟
النَّوْعُ الثَّانِي : لَذَّةٌ تَمْنَعُ لَذَّةَ
الْآخِرَةِ ، وَتُعْقِبُ آلَامًا أَعْظَمَ مِنْهَا ، كَلَذَّةِ الَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِهِمْ فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، وَيَسْتَمْتِعُونَ بَعْضُهُمْ
بِبَعْضٍ ، كَمَا يَقُولُونَ فِي الْآخِرَةِ إِذَا لَقُوا رَبَّهُمْ :
رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا
الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا
شَاءَ اللَّهُ إِنَّرَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ
الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 128 -
129 ] .
وَلَذَّةُ أَصْحَابِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ
وَالْبَغْيِ فِي الْأَرْضِ وَالْعُلُوِّ بِغَيْرِ الْحَقِّ .
وَهَذِهِ اللَّذَّاتُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هِيَ
اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ لِيُذِيقَهُمْ بِهَا أَعْظَمَ الْآلَامِ ،
وَيَحْرِمَهُمْ بِهَا أَكْمَلَ اللَّذَّاتِ ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدَّمَ
لِغَيْرِهِ طَعَامًا لَذِيذًا مَسْمُومًا ؛ يَسْتَدْرِجُهُ بِهِ إِلَى هَلَاكِهِ ،
قَالَ تَعَالَى : سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ
إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [ سُورَةُ الْأَعْرَافِ : 182 - 183 ] .
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا : كُلَّمَا
أَحْدَثُوا ذَنْبًا أَحْدَثْنَا لَهُمْ نِعْمَةً : حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا
أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ
الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ سُورَةُ الْأَنْعَامِ : 44 - 45 ] .
وَقَالَ تَعَالَى لِأَصْحَابِ هَذِهِ اللَّذَّةِ :
أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ
فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ
[ سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ : 55 - 56 ] .
[ ص: 235 ] وَقَالَ فِي حَقِّهِمْ : فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا
أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ [ سُورَةُ التَّوْبَةِ : 55 ] .
وَهَذِهِ اللَّذَّةُ تَنْقَلِبُ آخِرًا آلَامًا مِنْ
أَعْظَمِ الْآلَامِ ، كَمَا قِيلَ
:
مَآرِبُ كَانَتْ فِي الْحَيَاةِ لِأَهْلِهَا ***
عَذَابًا فَصَارَتْ فِي الْمَعَادِ عَذَابًا
النَّوْعُ الثَّالِثُ : لَذَّةٌ لَا تُعْقِبُ لَذَّةً
فِي دَارِ الْقَرَارِ وَلَا أَلَمًا ، وَلَا تَمْنَعُ أَصْلَ لَذَّةِ دَارِ
الْقَرَارِ ، وَإِنْ مَنَعَتْ كَمَالَهَا ، وَهَذِهِ اللَّذَّةُ الْمُبَاحَةُ
الَّتِي لَا يُسْتَعَانُ بِهَا عَلَى لَذَّةِ الْآخِرَةِ ، فَهَذِهِ زَمَانُهَا
يَسِيرٌ ، لَيْسَ لِتَمَتُّعِ النَّفْسِ بِهَا قَدْرٌ ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَشْتَغِلَ
عَمَّا هُوَ خَيْرٌ وَأَنْفَعُ مِنْهَا
.
وَهَذَا الْقِسْمُ هُوَ الَّذِي عَنَاهُ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- بِقَوْلِهِ : كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ
فَهُوَ بَاطِلٌ إِلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ ، وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ ،
وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ ، فَإِنَّهُنَّ مِنَ الْحَقِّ.
فَمَا أَعَانَ عَلَى اللَّذَّةِ الْمَطْلُوبَةِ
لِذَاتِهَا فَهُوَ حَقٌّ ، وَمَا لَمْ يُعِنْ عَلَيْهَا فَهُوَ بَاطِلٌ .
فَصْلٌ:
الْحُبُّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّفَهَذَا
الْحُبُّ لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ ، بَلْ هُوَ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْحُبِّ ، وَكَذَلِكَ
حُبُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ،
وَإِنَّمَا نَعْنِي الْمَحَبَّةَ الْخَاصَّةَ ، الَّتِي تَشْغَلُ قَلْبَ الْمُحِبِّ
وَفِكْرَهُ وَذِكْرَهُ بِمَحْبُوبِهِ ، وَإِلَّا فَكُلُّ مُسْلِمٍ فِي قَلْبِهِ
مَحَبَّةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، لَا يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ إِلَّا بِهَا ،
وَالنَّاسُ مُتَفَاوِتُونَ فِي دَرَجَاتِ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ تَفَاوُتًا لَا
يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ ، فَبَيْنَ مَحَبَّةِ الْخَلِيلَيْنِ وَمَحَبَّةِ
غَيْرِهِمَا مَا بَيْنَهُمَا ، فَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُلَطِّفُ
وَتُخَفِّفُ أَثْقَالَ التَّكَالِيفِ ، وَتُسَخِّي الْبَخِيلَ ، وَتُشَجِّعُ
الْجَبَانَ ، وَتُصَفِّي الذِّهْنَ ، وَتُرَوِّضُ النَّفْسَ ، وَتُطَيِّبُ
الْحَيَاةَ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، لَا مَحَبَّةُالصُّوَرِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَإِذَا
بُلِيَتِ السَّرَائِرُ يَوْمَ اللِّقَاءِ ، وَكَانَتْ سَرِيرَةُ صَاحِبِهَا مِنْ
خَيْرِ سَرَائِرِ الْعِبَادِ ، كَمَا قِيلَ :
سَيَبْقَى لَكُمْ فِي مُضْمَرِ الْقَلْبِ وَالْحَشَا
سَرِيرَةُ حُبٍّ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي تُنَوِّرُ الْوَجْهَ
، وَتَشْرَحُ الصَّدْرَ ، وَتُحْيِي الْقَلْبَ ، وَكَذَلِكَ مَحَبَّةُ كَلَامِ
اللَّهِ ، فَإِنَّهُ مِنْ عَلَامَةِ حُبِّ اللَّهِ ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ
تَعْلَمَ مَا عِنْدَكَ وَعِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ ، فَانْظُرْ
مَحَبَّةَ الْقُرْآنِ مِنْ قَلْبِكَ ، وَالْتِذَاذَكَ بِسَمَاعِهِ أَعْظَمَ مِنَ الْتِذَاذِ
أَصْحَابِ الْمَلَاهِي وَالْغَنَاءِ الْمُطْرِبِ بِسَمَاعِهِمْ ، فَإِنَّ مِنَ
الْمَعْلُومِ أَنَّ مَنْ أَحَبَّ مَحْبُوبًا كَانَ كَلَامُهُ وَحَدِيثُهُ أَحَبَّ
شَيْءٍ إِلَيْهِ كَمَا قِيلَ : [ ص: 236 ]
إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ حُبِّي فَلِمَ هَجَرْتَ كِتَابِي ؟
أَمَا تَأَمَّلْتَ مَا فِيهِ مِنْ لَذِيذِ خِطَابِي
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - : لَوْ طَهُرَتْ قُلُوبُنَا لَمَا شَبِعَتْ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ ،
وَكَيْفَ يَشْبَعُ الْمُحِبُّ مِنْ كَلَامِ مَحْبُوبِهِ وَهُوَ غَايَةُ
مَطْلُوبِهِ ؟ وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا
لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - : اقْرَأْ عَلَيَّ ، فَقَالَ
: أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ ؟ فَقَالَ : إِنِّي أُحِبُّ أَنْ
أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي ، فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ النِّسَاءِ ، حَتَّى إِذَا
بَلَغَ قَوْلَهُ : فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا
بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 41 ] ، قَالَ : حَسْبُكَ
الْآنَ ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَإِذَا عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَذْرِفَانِ مِنَ الْبُكَاءِ .
وَكَانَ الصَّحَابَةُ إِذَا اجْتَمَعُوا وَفِيهِمْ أَبُو
مُوسَى يَقُولُونَ : يَا أَبَا مُوسَى ذَكِّرْنَا رَبَّنَا ، فَيَقْرَأُ ، وَهُمْ
يَسْتَمِعُونَ ، فَلِمُحِبِّي الْقُرْآنِ - مِنَ الْوَجْدِ ، وَالذَّوْقِ ،
وَاللَّذَّةِ ، وَالْحَلَاوَةِ ، وَالسُّرُورِ - أَضْعَافُ مَا لِمُحِبِّي السَّمَاعِ
الشَّيْطَانِيِّ ، فَإِذَا رَأَيْتَ الرَّجُلَ ، ذَوْقَهُ ، وَوَجْدَهُ ،
وَطَرَبَهُ ، وَتَشَوُّقَهُ إِلَى سَمَاعِ الْأَبْيَاتِ دُونَ سَمَاعِ الْآيَاتِ ،
وَسَمَاعِ الْأَلْحَانِ دُونَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ ، كَمَا قِيلَ :
تُقْرَأُ عَلَيْكَ الْخَتْمَةُ وَأَنْتَ جَامِدٌ
كَالْحَجَرِ ، وَبَيْتٌ مِنَ الشِّعْرِ يُنْشَدُ تَمِيلُ كَالسَّكْرَانِ .
فَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْأَدِلَّةِ عَلَى فَرَاغِ
قَلْبِهِ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَلَامِهِ ، وَتَعَلُّقِهِ بِمَحَبَّةِ سَمَاعِ
الشَّيْطَانِ ، وَالْمَغْرُورُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ .
فَفِي مَحَبَّةِ اللَّهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذَكَرَ السَّائِلُ مِنْ فَوَائِدِ
الْعِشْقِ وَمَنَافِعِهِ ، بَلْ لَا حُبَّ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنْفَعَ مِنْهُ ، وَكُلُّ
حُبٍّ سِوَى ذَلِكَ بَاطِلٌ إِنْ لَمْ يُعِنْ عَلَيْهِ وَيَسُقِ الْمُحِبَّ
إِلَيْهِ .
فَصْلٌ: مَحَبَّةُ الزَّوْجَاتِوَأَمَّا مَحَبَّةُ
الزَّوْجَاتِ : فَلَا لَوْمَ عَلَى الْمُحِبِّ فِيهَا بَلْ هِيَ مِنْ كَمَالِهِ ،
وَقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ : [ ص: 237 ]
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا
إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [ سُورَةُ الرُّومِ : 21 ] .
فَجَعَلَ الْمَرْأَةَ سَكَنًا لِلرَّجُلِ ، يَسْكُنُ
قَلْبُهُ إِلَيْهَا ، وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا خَالِصَ الْحُبِّ ، وَهُوَ
الْمَوَدَّةُ الْمُقْتَرِنَةُ بِالرَّحْمَةِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عُقَيْبَ
ذِكْرِهِ مَا أُحِلَّ لَنَا مِنَ النِّسَاءِ وَمَا حُرِّمَ مِنْهُنَّ : يُرِيدُ
اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا
عَظِيمًا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا
[ سُورَةُ النِّسَاءِ : 26 - 28
] .
ذَكَرَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ
ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ : كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلَى النِّسَاءِ لَمْ يَصْبِرْ .
وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ رَأَى امْرَأَةً ، فَأَتَى
زَيْنَبَ فَقَضَى حَاجَتَهُ مِنْهَا ، وَقَالَ : إِنَّ الْمَرْأَةَ تُقْبِلُ فِي
صُورَةِ شَيْطَانٍ ، وَتُدْبِرُ فِي صُورَةِ شَيْطَانٍ ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمُ
امْرَأَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَلْيَأْتِ أَهْلَهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي
نَفْسِهِ ، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عِدَّةُ فَوَائِدَ :
مِنْهَا : الْإِرْشَادُ إِلَى التَّسَلِّي عَنِ
الْمَطْلُوبِ بِجِنْسِهِ ، كَمَا يَقُومُ الطَّعَامُ مَكَانَ الطَّعَامِ ،
وَالثَّوْبُ مَقَامَ الثَّوْبِ
.
وَمِنْهَا
: الْأَمْرُ بِمُدَاوَاةِ الْإِعْجَابِ بِالْمَرْأَةِ
الْمُوَرِّثِ لِشَهْوَتِهَا بِأَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ ، وَهُوَ قَضَاءُ وَطَرِهِ
مِنْ أَهْلِهِ ، وَذَلِكَ يَنْقُضُ شَهْوَتَهُ لَهَا ، وَهَذَا كَمَا أَرْشَدَ الْمُتَحَابِّينَ
إِلَى النِّكَاحِ ، كَمَا فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ مَرْفُوعًا : لَمْ يُرَ
لِلْمُتَحَابِّينَ مِثْلُ النِّكَاحِ
.
فَنِكَاحُ الْمَعْشُوقَةِ هُوَ دَوَاءُ الْعِشْقِ
الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ دَوَاءً شَرْعًا ، وَقَدْ تَدَاوَى بِهِ دَاوُدُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلَمْ يَرْتَكِبْ نَبِيُّ اللَّهِ مُحَرَّمًا ، وَإِنَّمَا
تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ وَضَمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ لِمَحَبَّتِهِ لَهَا ،
وَكَانَتْ تَوْبَتُهُ بِحَسَبِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوِّ
مَرْتَبَتِهِ ، وَلَا يَلِيقُ بِنَا الْمَزِيدُ عَلَى هَذَا .
وَأَمَّا قِصَّةُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ : فَزَيْدٌ
كَانَ قَدْ عَزَمَ عَلَى طَلَاقِهَا وَلَمْ تُوَافِقْهُ ، وَكَانَ يَسْتَشِيرُ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِرَاقِهَا ، وَهُوَ
يَأْمُرُهُ بِإِمْسَاكِهَا ، فَعَلِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مُفَارِقُهَا لَا بُدَّ ، فَأَخْفَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ
يَتَزَوَّجُهَا إِذَا فَارَقَهَا زَيْدٌ ، وَخَشِيَ مَقَالَةَ النَّاسِ : إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ زَوْجَةَ
ابْنِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ تَبَنَّى زَيْدًا قَبْلَ النُّبُوَّةِ ، وَالرَّبُّ
تَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُشَرِّعَ شَرْعًا عَامًّا فِيهِ مَصَالِحُ عِبَادِهِ ،
فَلَمَّا طَلَّقَهَا زَيْدٌ ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُ ، أَرْسَلَهُ
إِلَيْهَا يَخْطُبُهَا لِنَفْسِهِ ، فَجَاءَ زَيْدٌ وَاسْتَدْبَرَ [ ص: 238 ]
الْبَابَ بِظَهْرِهِ ، وَعَظُمَتْ فِي صَدْرِهِ لَمَّا ذَكَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَادَاهَا مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ : يَا
زَيْنَبُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُكِ
، فَقَالَتْ : مَا أَنَا بِصَانِعَةٍ شَيْئًا حَتَّى أُؤَامِرَ رَبِّي ، وَقَامَتْ
إِلَى مِحْرَابِهَا فَصَلَّتْ ، فَتَوَلَّى اللَّهُ عِزَّ وَجَلَّ نِكَاحَهَا مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَفْسِهِ ، وَعَقَدَ
النِّكَاحَ لَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ ، وَجَاءَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ : فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا [ سُورَةُ الْأَحْزَابِ : 37 ] .
فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِوَقْتِهِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا ، فَكَانَتْ تَفْخَرُ عَلَى نِسَاءِ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ، وَتَقُولُ :
أَنْتُنَّ زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ ، وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ
سَمَاوَاتٍ ، فَهَذِهِ قِصَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مَعَ زَيْنَبَ .
وَلَا رَيْبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - كَانَ قَدْ حُبِّبَ إِلَيْهِ النِّسَاءُ ، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ
أَنَسٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ
النِّسَاءُ وَالطِّيبُ ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ هَذَا لَفْظُ
الْحَدِيثِ ، لَا مَا يَرْوِيهِ بَعْضُهُمْ : حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ
ثَلَاثٌ ، زَادَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : أَصْبِرُ عَنِ
الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَا أَصْبِرُ عَنْهُنَّ ، وَقَدْ حَسَدَهُ أَعْدَاءُ
اللَّهِ الْيَهُودُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالُوا : مَا هَمَّهُ إِلَّا النِّكَاحُ ،
فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَنَافَحَ عَنْهُ ، فَقَالَ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [ سُورَةُ النِّسَاءِ : 54 ] .
وَهَذَا خَلِيلُ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ كَانَ عِنْدَهُ
سَارَّةُ أَجْمَلُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ، وَأَحَبَّ هَاجَرَ وَتَسَرَّى بِهَا .
وَهَذَا دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ عِنْدَهُ
تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً ، فَأَحَبَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ وَتَزَوَّجَهَا
فَكَمَّلَ الْمِائَةَ ، وَهَذَا سُلَيْمَانُ ابْنُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ
يَطُوفُ فِي اللَّيْلَةِ عَلَى تِسْعِينَ امْرَأَةً .
وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عَنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيْهِ ، فَقَالَ : عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
وَقَالَ عَنْ خَدِيجَةَ : إِنِّي رُزِقْتُ حُبَّهَا .
فَمَحَبَّةُ النِّسَاءِ مِنْ كَمَالِ الْإِنْسَانِ ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَكْثَرُهَا نِسَاءً ، وَقَدْ
ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ
يَوْمَ جَلُولَاءَ جَارِيَةٌ كَأَنَّ عُنُقَهَا إِبْرِيقٌ مِنْ فِضَّةٍ ، قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ : فَمَا صَبَرْتُ عَنْهَا أَنْ قَبَّلْتُهَا وَالنَّاسُ
يَنْظُرُونَ ، وَبِهَذَا احْتَجَّ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ
الِاسْتِمْتَاعِ مِنَ الْمَسْبِيَّةِ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ بِغَيْرِ الْوَطْءِ ،
بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ
.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ انْفِسَاخَ الْمِلْكِ لَا
يُتَوَهَّمُ فِي الْمَسْبِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ ، فَقَدْ يَنْفَسِخُ
فِيهَا الْمِلْكُ ، فَيَكُونُمُسْتَمْتِعًا بِأَمَةِ غَيْرِهِ .
[ ص: 239 ] وَقَدْ شَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِعَاشِقٍ أَنْ تُوَاصِلَهُ مَعْشُوقَتُهُ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ بِهِ
فَأَبَتْ ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُغِيثٍ وَبَرِيرَةَ لَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي خَلْفَهَا وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى
خَدَّيْهِ ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُعَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
: لَوْ رَاجَعْتِيهِ ؟ فَقَالَتْ : أَتَأْمُرُنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ :
لَا ، إِنَّمَا أَشْفَعُ ، فَقَالَتْ : لَا حَاجَةَ لِي بِهِ ، فَقَالَ لِعَمِّهِ
: يَا عَبَّاسُ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيَرَةَ ، وَمِنْ بُغْضِهَا لَهُ
، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ حُبَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ .
وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَاوِي بَيْنَ
نِسَائِهِ فِي الْقَسْمِ وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ ،
فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ يَعْنِي فِي الْحُبِّ ، وَقَدْ قَالَ
تَعَالَى : وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ [ سُورَةُ النِّسَاءِ
: 129 ] ،
يَعْنِي فِي الْحُبِّ وَالْجِمَاعِ
.
وَلَمْ يَزَلِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ
وَالرُّحَمَاءُ مِنَ النَّاسِ يَشْفَعُونَ لِلْعُشَّاقِ إِلَى مَعْشُوقِهِمُ
الْجَائِزِ وَصْلُهُنَّ ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ فِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ ،
وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أُتِيَ بِغُلَامٍ مِنَ الْعَرَبِ
وُجِدَ فِي دَارِ قَوْمٍ بِاللَّيْلِ ، فَقَالَ لَهُ : مَا قِصَّتُكَ ؟ قَالَ :
لَسْتُ بِسَارِقٍ ، وَلَكِنِّي أَصْدُقُكَ :
تَعَلَّقْتُ فِي دَارِ الرِّيَاحِيِّ خُودَةً يَذِلُّ
*** لَهَا مِنْ حُسْنِ مَنْظَرِهَا الْبَدْرُ
لَهَا فِي بَنَاتِ الرُّومِ حُسْنٌ وَمَنْظَرُ *** إِذَا
افْتَخَرَتْ بِالْحُسْنِ خَافَتْهَا الْفَخْرُ
فَلَمَّا طَرَقْتُ الدَّارَ مِنْ حَرِّ مُهْجَتِي ***
أَبَيْتُ وَفِيهَا مِنْ تَوَقُّدِهَا الْجَمْرُ
تَبَادَرَ أَهْلُ الدَّارِ بِي ثُمَّ صَيَّحُوا *** هُوَ
اللِّصُّ مَحْتُومًا لَهُ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ
فَلَمَّا سَمِعَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - شِعْرَهُ ، رَقَّ لَهُ ، وَقَالَ لِلْمُهَلَّبِ بْنِ رَبَاحٍ :
اسْمَحْ لَهُ بِهَا ، فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، سَلْهُ مَنْ هُوَ ؟
فَقَالَ : النَّهَّاسُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، فَقَالَ : خُذْهَا فَهِيَ لَكَ .
وَاشْتَرَى مُعَاوِيَةُ جَارِيَةً فَأُعْجِبَ بِهَا
إِعْجَابًا شَدِيدًا ، فَسَمِعَهَا يَوْمًا تُنْشِدُ أَبْيَاتًا مِنْهَا :
وَفَارَقْتُهُ كَالْغُصْنِ يَهْتَزُّ فِي الثَّرَى ***
طَرِيرًا وَسِيمًا بَعْدَ مَا طَرَّ شَارِبُهُ
فَسَأَلَهَا ، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا تُحِبُّ
سَيِّدَهَا ، فَرَدَّهَا إِلَيْهِ وَفِي قَلْبِهِ مِنْهَا .
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي رَبِيعَةَ أَنَّ
زُبَيْدَةَ قَرَأَتْ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ عَلَى حَائِطٍ :
أَمَا فِي عِبَادِ اللَّهِ أَوْ فِي إِمَائِهِ ***
كَرِيمٌ يُجْلِي الْهَمَّ عَنْ ذَاهِبِ الْعَقْلِ
لَهُ مُقْلَةٌ أَمَّا الْأَمَاقِي قَرِيحَةٌ ***
وَأَمَّا الْحَشَا فَالنَّارُ مِنْهُ عَلَى رِجْلِ
فَنَذَرَتْ أَنْ تَحْتَالَ لِقَائِلِهَا إِنْ عَرَفَتْهُ
حَتَّى تَجْمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُحِبُّهُ ، فَبَيْنَا هِيَ
بِالْمُزْدَلِفَةِ ، [ ص: 240 ]
إِذْ سَمِعَتْ مَنْ يُنْشِدُهُمَا ، فَطَلَبَتْهُ ،
فَزَعَمَ أَنَّهُ قَالَهُمَا فِي ابْنَةِ عَمٍّ لَهُ نَذَرَ أَهْلُهَا أَنْ لَا يُزَوِّجُوهَا
مِنْهُ ، فَوَجَّهَتْ إِلَى الْحَيِّ ، وَمَا زَالَتْ تَبْذُلُ لَهُمُ الْمَالَ
حَتَّى زَوَّجُوهَا مِنْهُ ، وَإِذَا الْمَرْأَةُ أَعْشَقُ لَهُ مِنْهُ لَهَا ،
فَكَانَتْ تَعُدُّهُ مِنْ أَعْظَمِ حَسَنَاتِهَا ، وَتَقُولُ : مَا أَنَا بِشَيْءٍ
أَسَرَّ مِنِّي مِنْ جَمْعِي بَيْنَ ذَلِكَ الْفَتَى وَالْفَتَاةِ .
وَقَالَ الْخَرَائِطِيُّ : وَكَانَ لِسُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ
الْمَلِكِ غُلَامٌ وَجَارِيَةٌ يَتَحَابَّانِ ، فَكَتَبَ الْغُلَامُ إِلَيْهَا
يَوْمًا :
وَلَقَدْ رَأَيْتُكِ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّمَا ***
عَاطَيْتِنِي مِنْ رِيقِ فِيكِ الْبَارِدِ
وَكَأَنَّ كَفَّكِ فِي يَدِي وَكَأَنَّنَا *** بِتْنَا
جَمِيعًا فِي فِرَاشٍ وَاحِدِ
فَطَفِقْتُ يَوْمِي كُلَّهُ مُتَرَاقِدًا *** لِأَرَاكِ
فِي نَوْمِي وَلَسْتُ بِرَاقِدِ
فَأَجَابَتْهُ الْجَارِيَةُ :
خَيْرًا رَأَيْتَ وَكُلُّ مَا أَبْصَرْتَهُ ***
سَتَنَالُهُ مِنِّي بِرَغْمِ الْحَاسِدِ
إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مُعَانِقِي *** فَتَبِيتُ
مِنِّي فَوْقَ ثَدْيٍ نَاهِدِ
وَأَرَاكَ بَيْنَ خَلَاخِلِي وَدَمَالِجِي *** وَأَرَاكَ
فَوْقَ تَرَائِبِي وَمَجَاسِدِي
فَبَلَغَ سُلَيْمَانَ ذَلِكَ فَأَنْكَحَهَا الْغُلَامَ
وَأَحْسَنَ حَالَهُمَا عَلَى فَرْطِ غَيْرَتِهِ .
وَقَالَ جَامِعُ بْنُ بِرْخِيَّةَ : سَأَلْتُ سَعِيدَ
بْنَ الْمُسَيَّبِ مُفْتِي الْمَدِينَةِ : هَلْ فِي حُبٍّ دَهَمَنَا مِنْ وِزْرٍ ؟
فَقَالَ سَعِيدٌ : إِنَّمَا تُلَامُ عَلَى مَا
تَسْتَطِيعُ مِنَ الْأَمْرِ ، فَقَالَ سَعِيدٌ : وَاللَّهِ مَا سَأَلَنِي أَحَدٌ
عَنْ هَذَا ، وَلَوْ سَأَلَنِي مَا كُنْتُ أُجِيبُ إِلَّا بِهِ .
أَقْسَامُ عِشْقِ النِّسَاءِ
فَعِشْقُ النِّسَاءِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : قِسْمٌ هُوَ
قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ ، وَهُوَ عِشْقُ امْرَأَتِهِ وَجَارِيَتِهِ ، وَهَذَا
الْعِشْقُ نَافِعٌ ؛ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى الْمَقَاصِدِ الَّتِي شَرَعَ اللَّهُ
لَهَا النِّكَاحَ ، وَأَكَفُّ لِلْبَصَرِ وَالْقَلْبِ عَنِ التَّطَلُّعِ إِلَى غَيْرِ
أَهْلِهِ ، وَلِهَذَا يُحْمَدُ هَذَا الْعَاشِقُ عِنْدَ اللَّهِ ، وَعِنْدَ
النَّاسِ .
وَعِشْقٌ : هُوَ مَقْتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَبُعْدٌ مِنْ
رَحْمَتِهِ ، وَهُوَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ،
وَهُوَ عِشْقُ الْمُرْدَانِ ، فَمَا ابْتُلِيَ بِهِ إِلَّا مَنْ سَقَطَ مِنْ
عَيْنِ اللَّهِ ، وَطُرِدَ عَنْ بَابِهِ ، وَأُبْعِدَ قَلْبُهُ عَنْهُ ، وَهُوَ
مِنْ أَعْظَمِ الْحُجُبِ الْقَاطِعَةِ عَنِاللَّهِ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ
: إِذَا سَقَطَ الْعَبْدُ مِنْ عَيْنِ [ ص: 241 ] اللَّهِ ، ابْتَلَاهُ
بِمَحَبَّةِ الْمُرْدَانِ ، وَهَذِهِ الْمَحَبَّةُ هِيَ الَّتِي جَلَبَتْ عَلَى
قَوْمِ لُوطٍ مَا جَلَبَتْ ، فَمَا أُتُوا إِلَّا مِنْ هَذَا الْعِشْقِ ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [
سُورَةُ الْحِجْرِ : 72 ] .
وَدَوَاءُ هَذَا الدَّاءِ : الِاسْتِعَانَةُ بِمُقَلِّبِ
الْقُلُوبِ ، وَصِدْقُ اللَّجَأِ إِلَيْهِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِذِكْرِهِ ،
وَالتَّعْوِيضُ بِحُبِّهِ وَقُرْبِهِ ، وَالتَّفَكُّرُ فِي الْأَلَمِ الَّذِي
يُعْقِبُهُ هَذَا الْعِشْقُ، وَاللَّذَّةُ الَّتِي تَفُوتُهُ بِهِ ، فَيَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ فَوَاتُ أَعْظَمِ مَحْبُوبٍ ، وَحُصُولُ أَعْظَمِ مَكْرُوهٍ ، فَإِذَا
أَقْدَمَتْ نَفْسُهُ عَلَى هَذَا وَآثَرَتْهُ ، فَلْيُكَبِّرْ عَلَى نَفْسِهِ
تَكْبِيرَ الْجِنَازَةِ ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْبَلَاءَ قَدْ أَحَاطَ بِهِ .
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ : الْعِشْقُ الْمُبَاحُ ، وَهُوَ
الْوَاقِعُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، كَعِشْقِ مَنْ وُصِفَتْ لَهُ امْرَأَةٌ جَمِيلَةٌ
، أَوْ رَآهَا فَجْأَةً مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، فَتَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِهَا ، وَلَمْ
يُحْدِثْ لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ مَعْصِيَةً ، فَهَذَا لَا يُمْلَكُ وَلَا يُعَاقَبُ
، وَالْأَنْفَعُ لَهُ مُدَافَعَتُهُ ، وَالِاشْتِغَالُ بِمَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ
مِنْهُ ، وَيَجِبُ الْكَتْمُ وَالْعِفَّةُ وَالصَّبْرُ فِيهِ عَلَى الْبَلْوَى ،
فَيُثَبِّتُهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيُعَوِّضُهُ عَلَى صَبْرِهِ لِلَّهِ
وَعِفَّتِهِ ، وَتَرْكِهِ طَاعَةَ هَوَاهُ ، وَإِيثَارِ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمَا
عِنْدَهُ .
فَصْلٌ: أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْعِشْقِوَالنَّاسُ فِي
الْعِشْقِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ
:
مِنْهُمْ :
مَنْ يَعْشَقُ الْجَمَالَ الْمُطْلَقَ ، وَقَلْبُهُ
يَهِيمُ فِي كُلِّ وَادٍ ، لَهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ جَمِيلَةٍ مُرَادٌ .
وَمِنْهُمْ : مَنْ يَعْشَقُ الْجَمَالَ الْمُقَيَّدَ ،
سَوَاءٌ طَمِعَ فِي وِصَالِهِ أَوْ لَا
.
وَمِنْهُمْ : مَنْ لَا يَعْشَقُ إِلَّا مَنْ يَطْمَعُ
فِي وِصَالِهِ .
وَبَيْنَ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ تَفَاوُتٌ
فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ .
فَعَاشِقُ الْجَمَالِ الْمُطْلَقِ ، يَهِيمُ قَلْبُهُ
فِي كُلِّ وَادٍ ، وَلَهُ فِي كُلِّ صُورَةٍ جَمِيلَةٍ مُرَادٌ :
فَيَوْمًا بِحَزْوَى ، وَيَوْمًا بِالْعَقِيقِ وَبِالْ
عَذِيبِ يَوْمًا وَيَوْمًا بِالْخُلَيْصَاءِ وَتَارَةً يَنْتَحِي نَجْدًا
وَآوِنَةً
شِعْبَ الْعَقِيقِ وَطَوْرًا قَصْرَ تَيْمَاءَ
فَهَذَا عِشْقُهُ أَوْسَعُ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ
كَثِيرُ التَّنَقُّلِ :
يَهِيمُ بِهَذَا ثُمَّ يَعْشَقُ غَيْرَهُ ****
وَيَسْلَاهُمْ مِنْ وَقْتِهِ حِينَ يُصْبِحُ
وَعَاشِقُ الْجَمَالِ الْمُقَيَّدِ أَثْبَتُ عَلَى
مَعْشُوقِهِ ، وَأَدْوَمُ مَحَبَّةً لَهُ ، وَمَحَبَّتُهُ أَقْوَى مِنْ مَحَبَّةِ
الْأَوَّلِ ، لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي وَاحِدٍ ، وَلَكِنْ يُضْعِفُهُمَا عَدَمُ
الطَّمَعِ فِي الْوِصَالِ ، وَعَاشِقُ الْجَمَالِ الَّذِي يُطْمَعُ فِي وِصَالِهِ أَعْقَلُ
الْعُشَّاقِ وَأَعْرَفُهُمْ ، وَحُبُّهُ أَقْوَى لِأَنَّ الطَّمَعَ يَمُدُّهُ
وَيُقَوِّيهِ .
[ ص: 242
]
فَصْلٌ:
حَدِيثُ " مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ "وَأَمَّا
حَدِيثُ : " مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ
" فَهَذَا يَرْوِيهِ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ ،
وَقَدْ أَنْكَرَهُ حُفَّاظُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ .
قَالَ ابْنُ عَدِيٍّ فِي كَامِلِهِ : هَذَا الْحَدِيثُ
أَحَدُ مَا أُنْكِرَ عَلَى سُوَيْدٍ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ
طَاهِرٍ فِي الذَّخِيرَةِ وَالتَّذْكِرَةِ ، وَأَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ
وَعَدَّهُ مِنَ الْمَوْضُوعَاتِ ، وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ
عَلَى تَسَاهُلِهِ ، وَقَالَ أَنَا أَتَعَجَّبُ مِنْهُ .
قُلْتُ : وَالصَّوَابُ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ مِنْ
كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَوْقُوفًا عَلَيْهِ ، فَغَلِطَ سُوَيْدٌ
فِي رَفْعِهِ .
قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ خَلَفِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ
: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْأَزْرَقِ عَنْ سُوَيْدٍ بِهِ ، فَعَاتَبْتُهُ
عَلَى ذَلِكَ ، فَأَسْقَطَ ذِكْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ بَعْدَ
ذَلِكَ يُسْأَلُ عَنْهُ فَلَا يَرْفَعُهُ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا كَلَامَ
النُّبُوَّةِ .
وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ لَهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ
: حَدَّثَنَا الْمُعَافَى بْنُ زَكَرِيَّا ، حَدَّثَنَا قُطْبَةُ بْنُ الْفَضْلِ ،
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ ، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ
مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا ،
فَمِنْ أَبْيَنِ الْخَطَأِ وَلَا يَحْمِلُ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
مِثْلَ هَذَا عِنْدَ مَنْ شَمَّ أَدْنَى رَائِحَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ ، وَنَحْنُ
نَشْهَدُ بِاللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ مَا حَدَّثَتْ بِهَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطُّ ، وَلَا حَدَّثَ بِهِ عُرْوَةُ عَنْهَا ، وَلَا
حَدَّثَ بِهِ هِشَامٌ قَطُّ .
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ
الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا ، فَكَذِبٌ عَلَى ابْنِ الْمَاجِشُونِ ، فَإِنَّهُ لَمْ
يُحَدِّثْ بِهَذَا ، وَلَا حَدَّثَ بِهِ عَنْهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ ،
وَإِنَّمَا هَذَا مِنْ تَرْكِيبِ بَعْضِ الْوَضَّاعِينَ ، وَيَا سُبْحَانَ اللَّهِ
! كَيْفَ يَحْتَمِلُ هَذَا الْإِسْنَادُ مِثْلَ هَذَا الْمَتْنِ ؟ فَقَبَّحَ
اللَّهُ الْوَضَّاعِينَ .
وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ ، مِنْ
حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ سَهْلٍ : حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عِيسَى
، عَنْ وَلَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ مَرْفُوعًا ، وَهَذَا غَلَطٌ قَبِيحٌ ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ
هَذَا هُوَ الْخَرَائِطِيُّ ، وَوَفَاتُهُ سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ
، فَمُحَالٌ أَنْ يُدْرِكَ شَيْخَهُ يَعْقُوبَ ابْنَ أَبِي نَجِيحٍ ، لَا سِيَّمَا
وَقَدْ رَوَاهُ فِي كِتَابِ الِاعْتِدَالِ ، عَنْ [ ص: 243 ] يَعْقُوبَ هَذَا عَنِ
الزُّبَيْرِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنِ ابْنِ أَبِي
نَجِيحٍ ، وَالْخَرَائِطِيُّ هَذَا مَشْهُورٌ بِالضَّعْفِ فِي الرِّوَايَةِ ،
ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ فِي كِتَابِ الضُّعَفَاءِ .
وَكَلَامُ حُفَّاظِ الْإِسْلَامِ فِي إِنْكَارِ هَذَا
الْحَدِيثِ هُوَ الْمِيزَانُ ، وَإِلَيْهِمْ يُرْجَعُ فِي هَذَا الشَّأْنِ ، وَلَا
صَحَّحَهُ وَلَا حَسَّنَهُ أَحَدٌ يُعَوَّلُ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ عَلَيْهِ ،
وَيُرْجَعُ فِي التَّصْحِيحِ إِلَيْهِ ، وَلَا مَنْ عَادَتُهُ التَّسَامُحُ وَالتَّسَاهُلُ
، فَإِنَّهُ لَمْ يُصَفِّ نَفْسَهُ لَهُ ، وَيَكْفِي أَنَّ ابْنَ طَاهِرٍ الَّذِي
يَتَسَاهَلُ فِي أَحَادِيثِ التَّصَوُّفِ ، وَيَرْوِي مِنْهَا الْغَثَّ
وَالسَّمِينَ ، قَدْ أَنْكَرَهُ وَشَهِدَ بِبُطْلَانِهِ .
نَعَمِ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يُنْكَرُ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ عَنْهُ :
أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ الْمَيِّتِ عِشْقًا ، فَقَالَ : قَتِيلُ الْهَوَى لَا عَقْلَ
لَهُ وَلَا قَوَدَ .
وَرُفِعَ إِلَيْهِ بِعَرَفَاتٍ شَابٌّ قَدْ صَارَ
كَالْفَرْخِ ، فَقَالَ : مَا شَأْنُهُ ؟ قَالُوا : الْعِشْقُ ، فَجَعَلَ عَامَّةَ يَوْمِهِ
يَسْتَعِيذُ مِنَ الْعِشْقِ وَقَدْ تَقَدَّمَ .
فَهَذَا نَفْسُ مَا رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ .
وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَدَّ الشُّهَدَاءَ فِي الصَّحِيحِ ، فَذَكَرَ الْمَقْتُولَ
فِي الْجِهَادِ ، وَالْمَبْطُونَ ، وَالْحَرِقَ ، وَالنُّفَسَاءَ يَقْتُلُهَا وَلَدُهَا
، وَالْغَرِقَ ، وَصَاحِبَ ذَاتِ الْجَنْبِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمْ مَنْ
يَقْتُلُهُ الْعِشْقُ .
وَحَسْبُ قَتِيلِ الْعِشْقِ أَنْ يَصِحَّ لَهُ هَذَا
الْأَثَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ، عَلَى أَنَّهُ لَا
يَدْخُلُ الْجَنَّةَ حَتَّى يَصْبِرَ لِلَّهِ ، وَيَعِفَّ لِلَّهِ ، وَيَكْتُمَ
لِلَّهِ ، لَكِنَّ الْعَاشِقَ إِذَا صَبَرَ وَعَفَّ وَكَتَمَ مَعَ قُدْرَتِهِ
عَلَى مَعْشُوقِهِ ، وَآثَرَ مَحَبَّةَ اللَّهِ وَخَوْفَهُ وَرِضَاهُ ، هَذَا
أَحَقُّ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [ سُورَةُ
النَّازِعَاتِ : 40 - 41 ] .
وَتَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ
رَبِّهِ جَنَّتَانِ [ سُورَةُ الرَّحْمَنِ : 46 ] .
فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ ، رَبَّ الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ ، أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ آثَرَ حُبَّهُ عَلَى هَوَاهُ ، وَابْتَغَى
بِذَلِكَ قُرْبَهُ وَرِضَاهُ .
قلت المدون ==
قلت المدون تم بحمد الله ثم قلت :
سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك .. لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني أسألك أن تََشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك وأن ترحم والداي ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين
اللهم تقبل واستجب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق